نعم انها شرفتها المهجورة ، رغم أن البيت مايزال تسكنه
أسرتها ، وأختها الصغيرة كل حين تدخل الشرفة لتُسقى الياسمين والقرنفل ، ألا انها
شرفة مهجورة ، وحياة مهجورة ....
صوت النحيب والبكاء لم يتوقف منذ الصباح ، وافراد
عائلتها يتوافدون ، يقفن أمام عتبة البيت ينظرن لشرفتها ثم يبكين في تصنع ويضعن
المناديل البيضاء يخفين جفاف عيونهن من الدموع ....
وحده يبكي عند قدميها غير عابيء بالتقاليد والطقوس
والبشر جميعاً ....
أغمض عينيه في كفيها ، يستمد منه اخر ماتبقى من أمان
وأمل ، ميلاده وحياته وموته بين حنايا كفيها ، أنعكاس وجهه ومشاعل عقله تستنير من
وضع كفيها على جبينه ، ذكرياته كشريط سينما يتحرك ببطء بين حنايها ، مازال مغٌمض
عينيه كُمصلي في محرابها يتلو تراتيله الأخيرة .......
ينتظرها قبل الغروب عن شجرة الكافور الكبيرة بجوار كنيسة
السيدة العذراء القديمة ، يتهامسان وينظران الى احلامهما عبر الأفق البعيد ، خلف
تلك العمارات القديمة وقصور مصر الجديدة الشامخة في قسوة متراصة كجنود تدفع تلك
الأحلام بدروعها النحاسية اللامعة ، تراتيل حبهما تتمازج بالتراتيل والأناشيد
الدينية التي تخرج من الجوقة متسللة عبر نوافذ الكنيسة العملاقة ،،،،،
يلمع في عينيهما برق كهرباء مترو النزهة ، مقاطعاً احلامهما بضجيجه المعتاد ، يقفزان
سوياً لعربة المترو المهتزة ، تجلس بجواره قابضة على يديه ، يظلا صامتين ينظران
لمحلات الروكسي المتلألأة بفاتريناتها المضيئة ، يمران من أمام السينما فيتفقان
سوياً على دخول الفيلم الجديد .......
تمر السنوات وهي مازالت قابضة على يديه ، يقاومان جنود
الزمن بدروعة النحاسية اللامعة ، الى أن يطلبها للزواج فيرفض أبيها ,,,,,
يقاومان كما قاومت انتيجون ظلم الملك لها ومنعها من
الزواج من ابنه فماتت وحيدة في حفرة في العراء ,,,,,,
في عشية اليوم السابق عادت مهزومة الى بيتها بعد أن
ارغموها على الزواج من أبن خالها ، لم تكن تعرفه قد عاش طيلة حياته في الخارج ،
عاد فقط ليتزوجها فرفضت ،،،،
ظلت متمسكة بحبها القديم وقاومت مثل أنتيجون ، فكانت نهايتها الرحيل الى عالم أخر كأنتيجون .....
ظلت متمسكة بحبها القديم وقاومت مثل أنتيجون ، فكانت نهايتها الرحيل الى عالم أخر كأنتيجون .....
رفع رأسه من بين كفيها ، تطارده بقايا الذكريات في
عينيها المغمضتين ، سئما من المقاومة وينتظران السير بطمأنينة وهدوء في ذلك العالم
الأخر .....
كغاية الحياة والأمل الوحيد لهما هو أن يلتقيا في ذلك
العالم الأخر ، يرفعهما كأكسير النشوة في النفوس ، يجعلهما يتابعان الطريق الى
مابعد حدود هذا العالم ، عبر الظلام والضباب والحواجز والأبواب ، كضوء ممتد مخترق
تلك الضباب والأفاق ،،،،
الى الشاطيء الخالد الذي يوفر هدوء الغروب وتغريدات طيور
الخريف المهاجرة ،،،،
على أجنحة ملاك يحلق بهما فوق تلك القصور الشامخة
القاسية ، انه طريق مفتوح الى افاق لا نهائية ,,,,,
أنها انتيجون رحلت عن شرفتها فأصبحت شرفتها مهجورة
دائماً ,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق