الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

صابرين


يُدعى بركة !! ، هكذا ينادونه في القرية  ، ماتت أمه بعد أختفاء أبوه بسنتين ، كان طفلا صغيراً أبن أربع سنوات وقتها ، فأصبح وحيداً في الدنيا فتعهد بتربيته والأعتناء به شيخ المسجد في القرية ،،،،
يعشق الحرية والجلوس وحيداً ، صديقته هو دميته التي يضعها دائماً في حقيبته القماش المتدلية من رقبته  ومعها بعض الطعام من الخبز او البلح او التوت الذي يسقط من شجرة التوت الكبيرة التي تظلل السواقي القديمة .....
يجلس بجوار السواقي وحيداً ، ينصت لأنينها الذي لا ينقطع منذ سنين ، يدور معها فلا يدري الى متى ستتوقف عن أنينها ، يتسرب من بينها أشعة الأصيل الممزوجة بالشفق القرمزي كدماء قربان على مذبح الغروب المنتظر .....
يظل يتتبعها كطائر صغير يحلق حولها ، يستمد من وجهها الصافي سعادته البسيطة ، يبتسم عندما يتنصت لضحكاتها مع صديقاتها وهن قادمات من موقف سيارات الأجرة الخاص بالقرية ، بزيها المدرسي الأزرق حاضنة حقيبتها الجلدية على صدرها ، والضفيرتين المجدولتين كثريات عنب تتدلى وتتلألأ تحت شعاع الشمس الذهبي .....
يلهو بجوار نافذتها وهي تجلس فيها تمشط شعرها وتذاكر دروسها ، صنعت له دمية صغيرة من القطن والقماش له عينين وفم وأنف خشبي صغير ، وهو يجمع لها التوت الأحمر من الشجرة الكبيرة التي تظلل السواقي غرب القرية ,,,,,
بجوار السواقي البعيدة قبل الغروب تقابله ، تدور السواقي وتأن ، وتدور معها احلامهما ، كل اجازة يعود فيها من الجيش يذهب وينتظرها بجوار السواقي ، فتأتي اليه خُفية حتى لا يراها أبوها ، العشق المجنون كقطار فقد مكابحه لا يتوقف لا يرى لا يبالي أما يصتدم وينهار أو يُسيطر عليه فيتهادي رويداً رويداً الى أن يصل محطته الأخيرة ....
تجلس بين أحضانه تنعكس شمس الغروب على عينيها الصافتين فينهل هو من شهد حبها فلا يرتوى ظمأه وان له ان يرتوى ظمأن العشق أبداً .....
يلهو بدميته ويراقبهما من بعيد الى أن تتوارى شمس الغروب خجلاً خلف خمار الليل الأسود فيعود معها هو ودميته الى بيتها ، ويتسلل ذلك العاشق ويعود ببدلته العسكرية متلفتاً يمنة ويساراً خوفاً من قاتل يتتبعه ويريده ثأراً لعائلته ,,,,,,
يظل بجوار نافذتها حتى يخفت نور غرفتها وسط الظلام فيعود مع دميته الى بيته بجوار مسجد القرية .....
يرخي خمار الليل سدوله على القرية التي تحاوطها مداخن افران الطوب الشامخة ، تقف كحارس لا ينفك عن مراقبة مايدور ، يتصاعد الدخان منها كأنها تتحدث وتتحاور فيما بينها لا يدري بلغتها احد ولا يدري متى تغضب ومتى تكون هانئة وراضية ,,,,
لم تعد تستطيع أن تُخفي مافي أحشائها من ثمرة ذلك العشق المجنون الذي غرقت فيه ، تتساقط وتذبل وتشحب ....
أمها تترقب في قلق لا تدري ماذا أحل بصغيرتها ،،،،
يجلس بجوار المسجد يلعب بدميته ويملأ زير الماء السبيل القابع بجوار باب المسجد ، وجدها تتبع أمها تكاد تهوي الى حفرة سحيقة بدون قرار ، تترنح كغصن زيتون ذابل تتلقفه الريح كل حين فيكاد ينكسر لكن مازال يعاند في ضعف ....
يظل يسير خلفهما الى أن وصلا موقف السيارات , فركبت مع أمها السيارة وأنطلقا ، بينما هو ظل ينتظر مع دميته الصغيرة .....
ذهبت بها أمها الى الطبيبة في المدينة القريبة ، كالمؤدة سيقت الى قبرها بدون أن تُبدي أي من الأنفعال سوى دمعة ترقص رقصة الموت فوق وجنيتيها الشاحبتين ....
الشمس تتوسط كبد السماء ترسل قيظها بدون رحمة ولا هوادة تكاد أشعتها القاسية تقصف بالرقاب كمنجل قمح يترقب في لهفة حصاد سنابله التي استوت .....
أخذته سِنةٌ من النوم بجوار دميته اليقظة التي تنظر في دهشة لذلك الزحام والسيارات ، بأذنها الصغيرة ربما تستمع الى الضوضاء قد تكون سعيدة وقد تكون منزعجة ,,,,
استيقظ فوجدها تتبع أمها عادت كما ذهبت ، الأم ينفجر بركان الدماء من وجهها ، وصابرين تضربها الشمس بمطارقها الساخنة بدون هوادة ،،،،
طريق الألام هو ، تسقط فيه سقطاتها السبعة والمجدلية تتسلل بين الزحام في حزن تريد أن تضع على رأسها ذلك الشال الأبيض ليحميها من قسوة الشمس وتلك العيون التي تغرز مخالبها في جسدها الرقيق ....
مداخن افران الطوب الشامخة سُّعرت بطين جديد فتصاعد الدخان الى عنان السماء وتهتف في غضب هل من مزيد ، على جنبات الطريق الملتوية تقف كُحراس بيلاطس والسنة الدخان كسياط تلوح  في الهواء تنتظر الفتاة بأبتسامة الغضب والاستهزاء ، تجلدها كما جُلد المسيح على طريق الامه الطويل ......
عاد من خدمته العسكرية كي ينفذ وعده بالزواج من محبوبته الذي غرق في بحار عشقها بدون نجاة ، يسلك الطُرق الجانبية والشاقة بعيداً عن عيون الطالبين بالثأر ، كفريسة صغيرة بدون جدوى ، من بين تلك الأبواب المغلقة وربما خلف تلك المداخن المتراصة ، من بين النوافذ او الغيطان الممتدة ، تتهيأ وتنطلق الطلقات النارية ، اربع او خمس طلقات تصيب قلبه فيسقط صريعاً ، وينتفض الحمام فزعاً من ابراجه  وأعشاشه ويرفرف خوفاً ويطير بعيداً ....
تسقط على عتبة دارها مع اخر طلقة نارية ,,,,,
يجلس حزيناً أسفل نافذتها ، دميته الصغيرة تنظر في قلق ، ينظر الى الشمس التي بدأت تنسحب الى الغرب بعد أن عاقبت الجميع هذا اليوم .....
تخرج من دارها على كتفها ذلك الشال الأخضر يرفرف ببطيء بعد نسمة هواء مفاجئه قادمه مع رياح الشمال ....
تنظر له وتبتسم وتتجه الى السواقي في غرب القرية ، يتبعها هو ودميته ....
مازالت الشمس تنسحب الى الغرب في هدوء وبطء يحاوطها ذلك الشفق القرمزي الحزين يعكره دخان المداخن العاليه القادمه من اطراف القرية ....
تصل الى السواقي وتجلس الى جوارها ، وهو أسفل شجرة التوت ينقى لها التوت الأحمر المتساقط ودميته مُلقاه على الأرض بجواره ....
تقف بين السواقي الثلاث وتسقط سقطتها السابعة ، تصدمها السواقي الدائرة التي تأن منذ سنين فتسيل الدماء منها وتختلط بالماء الذي يسقي القرية ويرويها في كل مكان .....
يجري الماء بالدماء ويذهب بعيداً وهو يمسك شالها الأخضر الذي سقط من على كتفيها ونهديها بجوار السواقي التي لا تتوقف منذ سنين .....
يرخي الليل خماره الأسود على القرية ونسوة القرية يعوين وينحن على الشاب القتيل وعلى الفتاة الغارقة بين السواقي  ,,,,
النحيب يأتي من عند السواقي ، والمشاعل تنتشر في الظلام والام تنوح من بعيد ،
جيالك عروسة محنية الكفوف والكعب ،،، خدت معاها الهنا وسابتلي وجع القلب .........
وهو يجلس يُحادث ويُحاكي دميته أسفل نافذة صابرين المغلقة  ,,,,,,,,,,,,,,,,

الأحد، 21 أكتوبر 2012

بعد الفجر

تقف في الشباك المطل على الحارة الضيقة ، فتطل منه على ذلك العالم ، فيدور أمامها بأصواته واحداثه ومشاكله ، سيدة عجوز تبيع الطماطم والخيار ، وسيدة تقوم بتنقية الأرز وتتحدث مع جارتها الجالسة أمام عتبة دارها ،،،،
طفل يعاند الريح حتى يجعل طائرته الورقية تحلق عالياً في السماء ، فيطاردها في الحارة الضيقة فتسقط طائرته وهو يسقط معها ثم ينهض ويسقط من جديد ، حتى تسبح الطائرة الورقية على صفحة الريح فتعلو وتعلو في السماء ،،،،،
يمر أمامها ذلك الشاب الجامعي الوسيم بحقيبته التي يحملها في كتفه ، كم تمنت لو يلتفت اليها ويحس بها ، يوميا في نفس الميعاد تقف تنتظره ، ربما في هذا اليوم قد ينظر اليها ، يبتسم لها ، يحس ما بداخلها ، هو فقط  من يستطيع ان يقطع شرنقتها ويخرجها منها فتصبح كائن اخر ، فراشة جديدة ملونة الاجنحة ترفرف في عالم مختلف ،،،،،
لم ينظر اليها مثل كل يوم فتتبعته بعينيها حتى غاص في اعماق الحارة الضيقه ،،،،
لم يوقظها من تأملاتها وأحلامها سوى صوت أمها الحاد وهي تنادي عليها بأن تأتي لمساعدتها ،،،،،
بجوار الراديو الموضوع فوق رف خشبي متهالك يجلس ينازع هجمات النٌعاس التي تأخذه بعيداً عن عالم وحدته اللامتناهي ، احلام لا يدرك كنهها لا يتذكرها عندما يعود لمحيطه المتسع والفارغ ، يُنصت السمع لقران السهرة في الاذاعة منتظراً نشرة الأخبار ثم المسلسل ،،،
كوب الشاي أصبح بارداً وهو لا يبالي ، كم من اكواب الشاي صنعهها ولم يحتسيها او أحتساها رغم تحذيرات الطبيب بعدم شُرب الشاي ،،،،
لا يقيه من برد الشتاء أغلاق النوافذ او ترك موقد الكيروسين مشتعل ربما يبعث له بالدفء بجانب الذكريات البعيدة التي تزوره كأطياف متتالية فالشتاء دائماً بارد على من لا يملك ذكريات دافئة ,,,,,,
يأتي المساء فتزداد برودة المكان وربما يسقط المطر هذا اليوم ، هدأت الحارة قليلاً من الماره لكن يأتي صوت فرح من مكانٍ ما قريب ، صوت الاغاني الشعبية الصاخبة ،المعازيم يصفقون سكارى ويرقصون ،،،
كل واحدة من اختيها اغلقت عليها غرفتها ، وهي وقفت وحيدة في الشباك يأتيها ضوء الفرح قادماً من بعيد ، وضوء اخر منبعث من الكورنيش ،،،،
ممسكاً طائرته الورقية يداعبها كحبيبة اختلى بها في ليلة شتاء يستمد منها الدفء بعد حرمان ليالٍ طوال ، يحرك ذيلها ، يرقعها بالقماش حتى لا تسقط منه ، يوصل ويشد الخيوط المقطوعة ،،،،،
لا يستطيع النوم خوفاً من الكوابيس التي تطارده في الليل يظل يبكي لا يدري أيذهب الى أين ، يظل جالساً على حافة الشباك مختبئاً في سترته الصوف كقط صغير يتابع حركة الحارة الهادئة ، يراقب ضوء الفرح القادم من بعيد والضوء الأخر المنبعث من الكورنيش ,,,,,
لفت الشال حول صدرها وربطت شعرها الطويل ، نزلت الى عتبة دارها ووقفت حافية القدمين ،أحست بالبرودة تتسلل من قدميها الى باقي جسمها ، فكانت تدفىء كل قدم بالأخرى ، ناظرة بتأمل الى افق بعيد مضيء  ،،،
أقترب الفجر ، صدى الأذان المنطلق من المأذن القريبة والبعيدة ممزوج بنباح كلب مُسبحاً مُبتهلاً ، ودعاء كروان متلهف يمر سريعاً ويختفي ,,,,
أستفاق من نعاسه الذي هاجمه ولم يفق منه الا بعد ساعات ، جالساً بجوار الراديو مع تلك الكوب الزجاجية الوحيدة ،،،،
توضاً مردداً سنن الوضوء بصوتِ عال ، ثم أرتدى البالطو الصوف متلفحاً بذلك الشال الذي لم يغيره منذ سنين ،،،،
تدور أصابعه المرتعشة الضعيفة مع سبحته القديمة ، متمشياً مخترقاً قطرات المطر الهادئة وضباب فجر الشتاء يحاوطه ، فيجعل صدره مبتهجاً كأنه يخترق الجنان ,،،،
تمشت في الحارة الضيقة حافية ، أبتعدت عن اتجاه الفرح الصاخب الذي هدأ قليلاً مع علو تكبيرات الفجر الى السماء ، اتجهت  الى الضوء المنبعث من الكورنيش ، وكلما اقتربت من البحر استنشقت رائحته وهوائه المالح ،،،،
المطر يزداد وقدميها تبللت وشعرها ازداد لمعانا وبريقاً مع قطرات المطر التي تتساقط بحنو  ،،،
 ارتدى ملابس المدرسة ووضع طائرته في حقيبته وقفز من الشباك القريب من الحارة ، وانطلق بدراجته الى البحر كما اعتاد ، كالريح مخترقاً بدراجته قطرات المطر والضباب ....
خرج من المسجد القريب من الكورنيش يردد ورد مابعد صلاة الفجر واتخذ مكانه اليومي على الأريكة الخشبية المطلة على البحر ،ثم بدأ يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ،،،،
كانت السيارة تسير مسرعة في شارع الكورنيش اضواء كشافتها ينعكس في عينيها ، فوقفت تنتظر حتى تمر الى الجانب الأخر  وتقف أمام البحر ،،،
عبرت الشارع وهي حافية ووقفت أمام البحر تستقبل هوائه في صدرها ، وخلفها بعض الصبية الذين انتهوا من الفرح يطلقون الصواريخ المضيئة في السماء ،،،،
واضعاً يده في جيوب البالطو الصوف بعد أن تجمدت أنامله الضعيفه على حبات مسبحته ،،،
أخرج طائرته الصغيرة وفطيرة بالسكر والعسل اشتراها منذ المساء ، ظل يأكلها ممزوجة بقطرات المطر .....
ظلت تتمشي بجوار البحر تنظر الى امواجه الصاخبه الممزوجة بقطرات المطر ، حافية القدمين تتسلل من خلالها البرودة الى بقية جسمها لكنها لا تبالي ،،،،،