الثلاثاء، 29 أبريل 2014

حكايات الرمال

صاح الديك الرابض على أحد البيوت المتراصة أسفل الجبل وخبط بجناحيه مللاً في أنتظار الفجر ، لم يتوقف صفير الريح في سفح الجبل منذ أن خُلق هذا الجبل ليكون شاهداً سرمدياً على تلك البيوت المتراصة بين أحضانه ، صفير الريح يتكلم مع البيوت وأحياناً يأن حزيناً على شيئاً ما ....
لمعت نجمة فتدلى لمعانها كخيط رفيع تسلل عبر كوة البيت المتشقق لينعكس على وجهها الصارم الذي حفرته الريح نحتاً فجعلته كتلك الصخور والتماثيل  العتيقة التى أصبحت صدى لحكايات الغابرين والموتى الذين يحرسون ذلك الجبل منذ الاف السنين ....
أستيقظت الأم تقاوم ضعف همتها والذكريات التي تثقل كتفيها ، تروضها وتقتلها في زحام يومها وتعود اليها زاحفة مع صوت الألم والأنين الذي يخرج مكتوماً من حنجرة أبيها العاجز ....
لم يتوقف صفير الريح الذي يتخلل جنبات ذلك الجبل ، مع هبوط الصباح وخفوت تلك النجمة اللامعة التي تلألأت مع أختفاء القمر ، وقفت على باب الدار تنتظر أمها كي يهبطان الى الوادي ليلحقا مكانهما في السوق .....
كانت الرمال الجبلية مازالت رطبة بعد تلك الريح الباردة ، أخرجت قدميها من نعلها وتلمست الرمال وتسائلت ، أهي مثل رمال الشاطيء في الشمال ؟ ، دائماً ماتكون رمال الشاطيء دافئة وتصبح باردة عندما يغطيها الموج ، المؤكد أن الريح القادمة من وراء البحر أكثر عذوبة من تلك الريح الجافة التي تأن دائماً ومحملة بحكايات الرمال والصخور وأناشيد الغابرين والموتى ....
جلست أمها العجوز على عتبة الدار تسند يديها على قائمة الباب ، نظرت لأبنتها وهي تُحكم ربط شالها حول عنقها وصدرها بعد أن طيرته الريح ، وقالت : لقد تأخرنا على السوق ، كان لابد أن أضع الفطور لجدك قبل أن نهبط للوادي ،  كم أود لو نهبط ولا نعود أبداً ، لكن لقد فات الأوان ، تلك الأحلام القديمة تسرسبت كحبات مسبحة من بين يدي واحدة تلو الأخرى ، سنوات نحاول الخروج من صحراء التيه تلك ، تلامس جلودنا الجافة نسمات الوادي وسرعان مانعود لحضن الجبل والريح المنتحبة دائماً ...
توشحت الأبنة بالسواد ، ثم أعطت ظهرها للبيوت المتربصة خلفها الناظرة بقلق وأرتياب للوادي ، يتطاير وشاحها الأسود من على كتفيها ، لم تلتفت لأمها ، قالت وهي تنظر للوادي الأخضر الممتد على مرمى البصر أسفل الجبل : كثيراً ماقلت لكِ ألم يأن الأوان للرحيل حيث البحر في الشمال ، منذ أن مات أبي وهجرنا أخي الأكبر وانتي وعدتني أن نرحل ، لم يعد لدينا شيء هنا سوى هذا البيت ، كنت أحس أن هذا الجبل قد أطبق الأخشبين علينا فلم يعد لدينا فكاك منه ، لكنك قررتي الأنتظار !! أنتظار ذلك الأخ الذي هجرنا ونجى بنفسه من تلك الريح المنتحبة دائماً ، أنها أنانية منك أن تجعليني أسيرة قيد الأنتظار لوهم بعيد ....
دمعت عينا الأم ووضعت شالها على عينيها وقالت : أعلم أني ظلمتك ... لكنك أبدا لم تستطيعي أن تشعري بما أنا اشعر بهِ كأم تنتظر أبنها حتى لو كان وهم ، كل صباح أنظر الى الطريق الممتدة الى الوادي أتفحص الأشباح البعيدة بنظري الضعيف واقول ربما يكون هو ...
لم تشعري بأن جزء من روحك تهيم في المجهول ، وتناديها وتنتظريها ولا تُجيب ، أي مرارة قد تشعرين بما أشعر بها أنا ...
هموم الأنتظار والوحدة والألم قد أجهزت على ماتبقى من عظامي ، أمك الشامخة مثل هذا الجبل قد تهاوت ، ما عانيته في عمري المنقضى جعلني أخشى من اليوم الجديد الذي قد أعيشه ....
ألتفت أليها وقاطعتها وقالت : على قدر مانقضى من عمرك في الأنتظار أريده أنا لأعيش بعيداً وأحقق ماحلمت به ، ذلك الوجه الصارم الذي تراه يُريد أن يبتسم بعد أن ادمن البكاء ، تلك الشفاه المتشققة تُريد أن يقبلها رجل مُحب عاشق ، ذلك الجسد الجاف يُريد أن يذوب في أحضان رجل وينعم بدفء وحنان صدره ، تلك الأذن التي اعتادت على صفير الرياح ونواح النسوة تشتاق لسماع غزل المحب وغرامه بمحبوبته ....
نظرت الى البيوت المتراصة والمتدرجة على سفح الجبل ، المزينة بالرسومات القديمة والملطخة بالكفوف الدموية وقالت : أتعلمين ،أن العالم بالنسبة لي غير معقول ، ومهما حاولت ان افهم الأشياء والاحلام التي يجب ان افكر فيها تأكدت من بُعدها عني ولا مبالاتها بمصيري  واقداري واهدافي الخاصه وتأكدت ايضاً من غربتها عني وجهلها بي وانكارها لوجودي ، انني اتوق للحظات فقط احس فيها بحريتي بعيداً عن تلك الجدران وعن هؤلاء الاشخاص انظر لأفق ممتد بعيدا ليس له مدى ولا حدود  لقد كرهت تلك البيوت التي تطاردني دائما بنظراتها ، أينما ذهبت أجدها تجاهي كأنها تعاقبني على شيء ما ، لا أدرى ماهذا الجُرم ، حتى عيون تلك التماثيل القديمة تحاكمني كل مساء عند الغروب عندما تُدفن الشمس خلف هذا الجبل .....
أتسمعين تلك الغربان والصقور بأصواتها الحادة التي تحلق بعيداً على قمة الجبل وتراقب عن بعد تلك البيوت ، كثيراً ماحلمت بطيور البحر بتغريداتها الرقيقة وحركتها المرحة فوق الشاطيء .....
أبعد كل هذا تريدين أن تتخلي عني ولا تساعديني على الرحيل ، من أجل أنتظار العائد من المجهول ؟؟
كان سعال الجد العاجز قد ازداد مع الصباح ، تمّلكه الصمت وأحط عليه منذ سنين لم يعد يخرج منه سوى السعال وأهات الألم المتقطعة ....
قالت الأم وهي تنظر الى داخل البيت : حتى وأن أتفقت معكِ ورحلنا سوياً ، لمن أترك جدك وهو يكاد روح بدون جسد أو كالمعذب الذي ينتظر الخلاص ، حتى هذا لم أعد أحتمله ....
أمسكت حفنة من الرمال وقبضت عليها بكفها ثم تركتها تذروها الرياح ، تلك هي حكايتنا ، رمال تذروها الريح فتصبح هباءً منثوراً الي أين تذهب ومن يدري بها ، لا أحد يهتم !!!
                                                  
                                              *************

في صباح يومٍ أخر حلقت الصقور والغربان بأصواتها الحادة فوق البيوت المتراصة على سفح الجبل ، وقف النسوة المتشحات بالسواد يبكين على باب الدار بعد أن ماتت العجوز ....
تلك البيوت تراقب بعيون حذرة ، ازدادت الالوان التي تزين جدرانها احتقاناً والكفوف المخضبة بالدماء لمعاناً ، والريح تصفر دائماً ، أنها ريح الربيع التي تهب باردة في الصباح وتحرقها الشمس مع الظهيرة فتجعلها لاسعة وجافة ....

نظرت الى الوادي الممتد على الأفق ، البيوت المختلطة بالغيطان الخضراء والنهر البعيد ، يتطاير شالها الأسود ، تتحرك ببطء على بداية الطريق الهابط الى الوادي تلاحقها عيون البيوت ونواح النسوة والريح التي تصفر دائماً ....