الجمعة، 31 أغسطس 2012

الاختيار

 
المشهد الأول




 هدأت حركة المارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر ، تسارعت أنفاسه واضطربت دقات قلبه ، نزع الجيتار المعلق في كتفه ووضعه مركوناً ، ثم نظر الى صفحة النهر المنعكس عليها شمس الأصيل ، ثم صعد الى حافة السور وتقدم خطوة فسقط وترك نفسه يغوص ، شجاعة اقدامه على الموت لم تسعفه فأنتصرت عليه غريزة البقاء وحب الحياة والخوف من ذلك الشيء المجهول المسمى الموت ، اندفع يقاوم بيديه محاولاً الصعود وظل يسبح الى أن تعلق بأحد اعمدة الجسر ، نظر وهو يمسح الماء عن عينيه ويلتمس الهواء الذي افتقده في ألاسفل ، وجد بعض المارة ينظرون اليه من اعلى الجسر وأثنين من الشباب قفزا لينقذاه .....
ظل جالساً بجوار الجيتار يبصق الماء الذي اندفع الى صدره وجوفه ، ثم علق الجيتار على كتفه واستكمل سيره غير مبالياً بالمارة الذين ينظرون اليه بأندهاش .....
وصل الى شقته الصغيرة ، جلس مرتعشاً يسيل الماء من ملابسه ، كانت الستائر مغلقة والشرفة لم تُفتح منذ أيام ،،،،
ادار تشغيل الرسائل المسجلة على الهاتف مرة أخرى : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
ظلت الرسالة تكرر نفسها مرات ومرات وهو واقف تحت صنبور الماء الساخن ، ترتطم المياه برأسه فكأنها تعيد ذوبان مايحس به ويدور بعقله ، يتصاعد بخار الماء الساخن فتتلاشى صورته في المراه ، يمسح بيده عليها فتصبح الصورة خطوطاً متعرجة فيجد نفسه مشوهاً .....
جلس في المقهى الذي يعمل به ، ينتظر ان يبدأ عزف الحانه على الجيتار ، يعزف والوجوه الناظره اليه في استمتاع تختفي من حوله كأنها ذابت وتلاشت في ملكوته الخاص ، يرى فقط وجهها ويسمع الحانه التي كان يعزفها معها ، لا يستفيق ويخرج من شرنقته الا بصوت تصفيق الزبائن في المقهى ، أو سقوط كأس على الأرض ....
تراقبه وهو يعزف لا تستطيع أن تتحمل العمل في المقهى بدون انت تسمع الحانه وتتغنى بها مع نفسها وفي سرها ، تذهب وتضع امامه كوب الماء فيبتسم لها ويقول : سنرحل مبكراً الليلة .....
كانت أبنتها معها في المقهى ، وهو يعزف لها وسارة تغني معه ويعلمها كيف تعزف على جيتاره ويحملها ويلعب معها
خرجا سوياً كان الليل اقترب من أنتصافه ، القمر بدراً لكن السُحب الخريفيه تُحكم قبضتها عليه فخنقته ،،،،
دندنت بعض أغانيه التي ألفها بنفسه ، فنظر لها بحنو : صوتك جميل ، سأكتب بعض الأغاني كي تغنيها أنتي ... فضحكت وقالت : انا فقط أحب أغني معك واغني لأبنتي وانا احممها او اساعدها على النوم ، انت تمزح من قال ان صوتي جميل .....
وقفا أمام بيت أختها وودعته وقالت : لأ استطيع ان ادعوك الوقت متأخراً ،،،
ودعها وقام بتقبيل سارة ثم تهرول للبيت وتلوح له ....
ظل واقفاً ينتظر صعودهما الى المنزل ثم أنصرف ، دفع علبة مياه غازيه بقدمه ثم أستكمل سيره ، يتسلل اليه بعض برودة الخريف ,,,,,,,,
يعيد تكرار الرسالة المسجلة على الهاتف ، ناظراً لسقف غرفته مستلقياً على سريره بجواره كوب قهوتة الفارغ وصحيفة قديمة وكتاباً مقلوباً مُلقى على الأرض ،،،
ثم يرن هاتفه قاطعاً الرسالة المسجلة فيرد : انا بخير ، قّبلي سارة واخبريها اننا سنذهب معاً للملاهي ، تصبحي على خير .....

المشهد الثاني

نظر اليها لم يكن يتخيل ان هناك من يشبهها ، الأنف الصغير المدبب قليلاً والشعر الكستنائي القصير ، العيون العسلية ونظرتها الطفولية ، تسعى للحصول بسرعة على السندوتشات التي طلبتها ثم مشت بسرعة تنادي على بعض الصبية الذين يحملون الأساس من على سيارة نقل كبيرة وتزعق فيهم أن يتعاملوا مع الأساس بحرص ، ثم عادت للمطعم ووقفت تنتظر ....
قال لها : هل ستسكنين في شارعنا ؟ ... قالت وهي مضطربة تتابع الصبية : نعم اننا ننقل الأساس الان في هذا البيت ... أبتسم وقال : شارعنا هاديء سترتاحين مع الجيران فأغلبهم أناس طيبون قليلاً مايحدث مشاكل هنا ، انتي وعائلتك أم متزوجة ... تأخذ حقيبة الطعام من البائع وتقول : انا وعائلتي أبي وأمي واخي الصغير ....
تعود مسرعة ، فيناديها بصوتٍ عالٍ : سنتحدث مرة أخرى واهلا بكي في شارعنا .....
جلس على كرسيه في المقهى ، يداعب جيتاره ويظبط أوتاره ، كانت تنتظره فعندما رأته قالت : لماذا تأخرت قلقتني عليك ؟؟ ... رد عليها شاردا ذهنه : لا أبداً أستيقظت متأخراً ، ثم أستكمل مداعبة أوتار جيتاره .....
أنتهيا من العمل قبل انتصاف الليل ،  تضع يديها في جيب معطفها ملتمسة الدفء بعد ما أحست ببرودة أطرافها ، قالت : لما أنت صامت منذ أن خرجنا ، أيوجد ما يشغلك ؟؟ ... قال وهو ناظراً لخطوات قدميه والحصى الذي يتحطم اسفل حذائه : لا يوجد شيء لا تشغلين بالك ... ضحكت وقالت : مالك كالعجوز الهَرِم ... أحس انك تجاوزت الخمسين .... فضحك وقال : نعم وقد اكون احتضر بسبب تقدمي في السن .....
ظل واقفاً أسفل شرفتها ينتظرها أن تطل عليه ، لكن شرفتها مغلقة يتسلل من خلفها الضوء وخيالها الذي يتحرك كل حين ....
صعد الى بيته يسمع رسالته المسجلة على الهاتف تكرر نفسها الى أن ينام ......
يقابلها في الصباح تقف مع أخوها الصغير الذي ينطلق بدراجته ، يُلقي عليها السلام ، ثم يسألها وهو يدعك كفيه ببعضهما بسبب البرودة : هااا ما رأيك في سكنك الجديد هل أرتحتي في شارعنا ؟؟ ... ترد عليه وهي تتمشى بجواره : الشارع هاديء حقيقة مازلت لم اعتاد على البيت لكن الشارع اهدأ من شارعنا القديم ... تنظر الى جيتاره المُعلق على كتفه وتسأله : أتعزف الجتيار وتجيد عزفه ؟؟ ... يبتسم : قليلاً ، تحبي أُسمعك بعض الحاني ؟؟ ... توقفت عن السير لبرهة ثم تقول : اكيد ... انا اعشق الجيتار ياريت فعلا أسمع عزفك والحانك .....
جلسا في الحديقة المجاورة لكنيسة البازليك القديمة ، وأخيها الصغير يلعب بدراجته حولهما ، بدأ عزف الحانه وغنائه ، يرى فيها كل ملامحها ونظرتها التي افتقدها منذ ثلاث سنوات ، لم يكن ليعزف هو لكن هي من تحرك بأناملها اوتار قلبه فيخرج ذلك اللحن عذباً ....
تسأله وهو يشرب الماء كي يستكمل عزفه : مؤكد يوجد لديك حبيبة تتغنى بها وتعزف الحانك لها ؟؟ .... وضع الزجاجة بجانبه ونظر لجيتاره : كان لي حبيبة وماتت في حادث سيارة ، لا أريد أن أتحدث عنها .... ظهر الخجل على وجهها : اسفة لم أكن اقصد أن أضايقك ، حبيبي قد اعتبرته ميتاً يخونوني كثيراً مع كثير من الفتيات ، لكنه يصّر انه يحبني ، أهله رفضوا زواجه بي لانه يصرون على زواجه من أبنة عمه ، لم يتصل بي منذ فترة طويلة ففهمت أنه تزوجها ، اعتبرته ميتاً بالنسبة لي رغم أني اشتاق اليه كثيراً ولا يُفارق عقلي ، ها أتستكمل عزفك أم نرحل يجب أن لا أتاخر عن أبي وأمي ؟؟ .... يتنهد ويقول : أمازلتي تحبينه ؟؟ ... تّهم واقفة : أحاول أنساه ، لا أدري ربما أحبه وربما لا ........
أجراس الكنيسة القديمة تُعلن عن قداس المساء ، يعودا سوياً والفتى الصغير أمامهما بدراجته ، قطرات صغيرة من المطر تُعلن عن غيث قادم من السماء ، ربما تكون أكثر غزارة في المساء .....
يقف في شرفته ، ويأتي من الغرفة صوت الرسالة المسجلة على الهاتف تتكرر وتعاود من جديد كلما أنتهت ، ينتظر حتى ينطفيء ضوء غرفتها من خلف الشرفة ثم يضع يده خارج الشرفة يستقبل بها قطرات المطر الثقيلة .....

المشهد الثالث

الشتاء قد أتى مبكراً والمقهى تقل زبائنه مع تأخر الليل ، مع أقتراب العاشرة مساءً ، يُخرجان سوياً ، تمر سيارة مسرعة بجوارها يندفع ماء المطر على الطريق ، فيشدها اليه خوفاً عليها من السيارات المسرعة ويجعلها بعيداً ....
تُمسك ذراعه وتقول : تعلم !! لا أستطيع الان ان يمر يوماً علّي بدون أن أراك ، أعرف أنك قد لا تحس بي ، لكن صدقني انا اجتهد كي يصلك أحساسي وافهمك واجعلك تفهمني ، احاول جاهدة أن اكون امراة ناضجة لاجلك أحيانا أخاف من عقلك واخشى مابداخلك لانك لا تتحدث كثيراً ، أحبك واسعى لأرضائك  ، لم أكن أحب زوجي بقدر حبي لك الان ، منذ أن مات وانا عاهدت نفسي وأبنتي ان لا أكون لاحد سوى لها ، لكن وجدت سارة تحبك كثيراً ومتعلقة بك فهذا شجعني أن افيض ما بقلبي  اليك ، قد تخشى تحمل مسؤلية أنسانة وأبنتها الصغيرة ؟؟
لا أريدك أن تتكلم الان ، يسعدني فقط أن تكون بقربي وأكون بقربك .... يمسك يديها ويضمها بقوة ، ويستكملا سيرهما ويقول : أنا أنسان قد اكون مُحطم أمامك ، لا يدري ولا يعلم مايريد ، يعيش على ذكريات وأطلال قصور رملية صنعها طفل على شاطيء البحر أي موجة تهدمها ، أنا لا أستحقك ولا أستحق قلبك هذا ... تضم كفها الصغير على كفيه وعند وصولها الى البيت ، تُخرج من حقيبتها شال من الصوف رمادي اللون ، تحاوط به رقبته وتقول : الجو أصبح بارداً والشتاء قارص صنعته بيدي لأجلك ، لا تنزعه عنك أبداً .... ثم صعدت مسرعة الى بيتها وهو ظل ينتظرها حتى طلت عليه من نافذتها هي وأبنتها ، أحكم الشال حول رقبته وتمشى الى بيته ،،،،،
أحبها ، لم يكن يدري أكان يحبها هي أم يحب فيها صورتها ، لكنه أحبها ظل يحادث نفسه وهو يقف ينظر الى شرفتها وخيالها يتحرك جيئةً وذهاباً ، الى أن أطفأت ضوء غرفتها .....
أنتظرها قبل الغروب أسفل شرفتها ،مُجهزاً له بعض أسطوانات الأغاني كي يهديها اليها ، كان قد أتصل على هاتفها كي يقابلها ، فأكدت أنها ستلقاه بعد قليل ، تمشيا سوياً ، قال لها : أريد أن أخبرك بشيء  .... أبتسمت وقالت : وانا أود أن أخبرك بشيء مهم ...
ضحك وقال : اذن قولي أنتي ألان ... قالت وهي منتشية وفرحة : لقد أتصل بي حبيبي أخيراً ، وأخبرني أنه رفض الأرتباط بأبنة عمه وتعارك مع أهله بسببي وهددهم بترك البيت ، الى أن وافقوا أخيراً على زواجنا ، سيأتي قريبا وهو وأهله كي يخطبوني  .... هااا ماذا تريد أن تخبرني ؟؟ .... وقف قليلاً ليسترد أنفاسه ثم قال : لا شيء كنت أود فقط أن اعطيكي بعض أسطوانات الموسيقي والأغاني التي تحبينها ... نظرت اليها وقالت : ااااه بجد أنت صديق جميل أنه يحب تلك الأغاني جدا ، اشكرك جداا جداا .....

المشهد الأخير

المطر يهطل بغزارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر والسيارات تمر  مسرعة بجواره ، تتسارع أنفاسه وتضطرب دقات قلبه مرة أخرى ،،،
يقف مواجهاً للنهر وقطرات المطر ترتطم برأسه بقوة ،،،،
ينزع عنه شاله الصوف ، فيسقط على الأرض ويبتل من المطر ويتسخ بالتراب ،،،،
يضع جيتاره مركوناً على سور الجسر ، يتطاير الشال ويتلصق بأحد أعمدة الجسر التي بجواره يظل يتطاير الشال مشتبكاً به يريد أن ينفك ,,,,
ينظر الى صفحة النهر التي تستقبل قطرات المطر في هدوء ورضا ،،،،
ينظر لهاتفه ويسمع الرسالة المسجلة التي تتكرر بأستمرار : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
يمسك الهاتف ويتركه يسقط من يديه ، فيغوص الهاتف في النهر تأخذه قطرات المطر بعيداً ،،،
 ينظر الى الشال ويظل واقفاً أسفل المطر ،،،،
كاد الشال أن ينفك فيلحقه قبل أن يسقط في النهر ،،،،،
يُعلق جيتاره على كتفه ويستكمل سيره مرة أخرى ,,,,,,,,,

الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

المراكب الورقية

طوي الجريدة متململاً ووضعها على الطاولة ، لم تأتيه القهوة التي طلبها ، كان يمني نفسه بأحتساء قهوته وقراءة الجريدة متدثراً بدفء الشمس التي ظلت غائبة ثلاثة أيام ، الحركة على الميناء نشطة هذا الصباح ، وفي انتظار سفينة سياحية قادمة من ايطاليا لترسو أمام الرصيف ، قد تغيب الشمس في بورسعيد لأيام لكنها تعود دوماً دافئة ,,,,,
تمشى قليلاً على الرصيف قابض على عكازه بحزم يقاوم تداعي السنين على ظهره ، انتصب ووقف منتظراً كعادته منذ ثلاثة وعشرين عام ، يتّلفت عليها يبحث بين الزحام والقادمين من تلك السفن الراسية على الميناء ، ثلاثة وعشرون عاماً ومازال متأكداً انه سيعرفها ولا يتوه عنها ، يمعن نظره الضعيف من خلف نظارته القديمة في وجوه المارة فلا يشفع له انتظاره وجه من ينتظرها ويتلهف شوقاً اليها ,,,,,
يعود الى كرسيه ويجلس متكئاً على عكازه ، يرى من بين عجلة الزمن التي دارت بهِ ، ذلك الشاب الذي عمل مرشداً في هيئة قناة السويس ، كانت الحرب الأولى على بورسعيد قد انتهت وفُتح باب القبول للمصرين  للعمل كمرشدين للسفن على طول خط القناة ،،،،
يمشي زهواً بنفسه ينظر حوله للسفن كأنها مراكب ورقية يلهو بها في بحار خياله الممتده اللا حدود ونهاية لها .....
مستغلاً تلك العيون الشرقية وملابس البحرية التي ترنو في عقول الفتيات كالرقائق الذهبية البراقة ، يواعد مُحظياته  بشقته في وسط شارع الجمهورية بحي الفرنج ، شقة صغيرة ذات شرفة خشبية مُطله على الشارع الرئيسي يتدلى منها الياسمين واللبلاب ،،،،
لم يكن في تلك الليلة الصيفية البورسعيدية الصافية اشد شوقاً وحُرقة للفتاة الصقلية التي ظل يطاردها ليومين في الشوارع من الميناء لحي الفرنج للطور ، سُحر بعيونها الصقلية وشعرها الأسود كذيل حصانٌ اندلسي جامح لم يستطع فارس مهما بلغت جسارته من السيطرة عليه , لم تلتفت اليه لكنها فقط أبتسامة جعلته يذوب كقطعة جليد التهمتها أشعة شمس صيفية قاسية الوطأة ،،،،
نزع يد الفتاة التي كانت تعانقه ، أحجم بوجهه عنها فأنقطع طريق شفاها الى شفتيه ، ارتدى قميصه وفر مسرعاً ,,,,
لم يتحمل ان ينظر لعيني فتاة او يمتزج عشقاً بغير ماريا الصقلية .....
وجدها عند الميناء قبل ان تغادر سفينتها متجهه للبحر ، وقف أمامها كطفل تائهاً وجد أمه أخيراً بعد ماضاع منها في الزحام ، استسلمت لضعفه فتركت كفها الصغير يلتحم بيديه ، فأخذها وانطلق بعيداً الي البحر ....
نادي بصوت واهن ويُجاهد حتى يسمعه صبى المقهى حتى يدفع له الحساب ، أخذ جريدته وأستند على عكازه ، واتخذ سيره المعتاد الى شقته القديمة بوسط شارع الجمهورية في حي الفرنج القديم ، يتخبطه الماره ويكاد يسقط لكنه يستجير بعكازه فيستند عليه ، يقف كثيراً على الرصيف منتظراً مرور السيارات الفارهة الكبيرة بأصوات الأغاني الصاخبة التي تنطلق منها ، وبعد وقت يعبر الشارع ،،،،
يُخرج مفتاحه القديم من جيبه بيد مرتعشة ثم يفتح الباب ، صوت  الراديو يخبره في إذاعة صوت العرب بأن الساعة الرابعة ، هرول اليه القط يتمسح في بنطاله مستعطفاً أياه أن يضع له بعض الحليب وقطعة الجبن وجبة غدائه ،،،،
يجلس في شرفته على كُرسيه الخيزران بجوار شجيرة الياسمين ، أمامه ذلك الكُرسي المهجور منذ ثلاثةً وعشرون عاماً ، والقط بعد أن شبع مستلقياً في الظل باسطً ذراعيه في ثُباتٍ عميق ,,,,,
تأخذه سِنة من النوم فيجد نفسه معها من جديد ........ تجلس أمامه تقرأ في الجريدة عن التوتر بين مصر واسرائيل واحتمال نشوب الحرب في الشرق الأوسط ,,,
تنظر له بحذر ثم تُخفض عينيها خجلاً .....
بدأت الجاليات الفرنسية واليونانية والأيطالية في المغادرة مع السفن المُبحرة الى الضفة الأخرى من المتوسط ، لم يكن ليظن أنها سوف تغادر وتتركه وحيداً ، أيقن أنها أرتبطت بهِ بُرباط مُقدس لا ينفك الى النهاية ....
عاد الى منزله في الظهيرة ، كانت سماء بورسعيد مُلبدة بغيوم اكتوبر الخريفية ، أنغام الجرامافون مازالت تشدوا ، والشرفة مفتوحة ... لكنه وجد الدولاب مفتوحاً فارغاً ، وخطاب صغير على الطاولة المستديرة ،،،،
أعذرني لم أجد حلاً سوى العودة الي صقلية  ، سأعود يوماً فأنتظرني ، احبك ........
عصر الخطاب الصغير بين يديه وأنطلق مسرعاً الي الميناء ، يركض مسرعاً يتجاوز الزحام ، تتخبطه أكتاف المسافرين وحقائبهم الثقيلة ، وينظر ويتّلفت في كل أتجاه ، لكن صوت السفينة يصرخ من بعيد يخبره أنها قد غادرت .......
صدى الأنفجارات وازيز الطائرات مازال يتردد في أذنيه لم يغادره ، مواكب المهاجرين والبيوت المهدّمة أمام عينيه ، لم يهاجر ولم يترك بورسعيد لكنه ظل ملتصقاً بها كما كان في الحرب الأولى عام ستة وخمسين ......
لم يستطع هذا الصباح ان يُخرج ويتمشى الى الميناء ، عصاهُ جسده ولم يسعفه عكازه ، الراديو على الكوميدينو بجوار الصغير يشدو بأنغام عبد الحليم ، والقط السمين يجلس في هدوء بجوار السرير .......
أصبحت سيدة عجوز تحتفظ ببقايا جمالٍ قديم ، بريق عينيها لم ينطفئ بعد ، لم تنسى شوارع بورسعيد ولا حي الفرنج حتى بعد ماختفى الكثير من ملامح تلك المدينة الجالسة على طرف البحر ، عادت مع أبنتها في ذلك اليوم ،،،،،
أخرجت المفتاح القديم ، فوجدت الشرفة المُطلة على شارع كما هي مفتوحة على مصرعيها ، يأتيها صوت الراديو من غرفة النوم ، فتدخل عليه ، في ثُباته الأبدي العميق ، والقط  جالس في هدوء عند قدميه ,,,,,,,,,




السبت، 18 أغسطس 2012

رسائل الخريف

لم تعد قادرة على تحمل تلك الليلة الظلماء ، رياح الخريف القوية  قطعت الكابل الكهربائي المغذي للبيت الريفي الكبير ، لم تكن ليالي نوفمبر بتلك الوحشة قبل سنوات ، أم هو السقوط في ذلك الفراغ اللامتناهي الذي انحدرت اليه منذ اواخر الصيف .....
لقد تأخروا كثيرا هذا المساء ، زهدت تلك الزيارات العائلية المملة ، مَلت ان تكون فريسة النفاق المجتعي الذي يفرضه منطقهم وطقوسهم الممتدة في التاريخ كجذور شجرة الكستناء العجوز التي تحرس بوابة البيت .....
نباح الكلب لا ينقطع كأنه ينادي في الظلمات مافقده او مايبحث عنه يصمت قليلاً ثم ينبح من جديد مستكملاً رحلة بحثه الليلية ....
أمسكت المصباح الكهربائي وانتقلت من غرفتها تعس في هذا الظلام ، حافية القدمين فأصابتها قشعريرة باردة تتسلل من قدميها فحركت أصابعها تلتمس الدفء من فركها ببعضها ....
توقفت أمام غرفة عمتها الراحلة ، ينبعث من خلف ذلك الباب عطر معتّق لم تشمه من قبل ، ماتعلمه ان الغرفة يتم تنظيفها كل حين لكن لا أحد يسكنها ومتعلقاتها كما هي , لا أحد يأبه بألاموات كما لم يعد أحد يأبه بالأحياء ، يمرون من أمامها ولا يلتفتون وينظفوها ولا يتذكرون ......
وضعت يدها على مقبض الباب فأحست بالدفء والتعرق عليه ، طاوعها في هدوء وأنصياع بدون زمجرة ففتحته ، فأنقض نور المصباح على واجهة الغرفة ، الجرامافون القديم بجواره الاسطوانات ذات الغلاف الكرتوني ألاحمر وشمعدان فضي ضمرت شموعه في حزن فتكاد يطل خيطها من الشمعدان .....
وجهت المصباح فإذا بالسرير البلجيكي المذهب تدلي ستائره من قوائمه كأنه يحمي حوريته من العيون ، في المقابل يسقط نور المصباح على ذلك المكتب الصغير تنبعث منه رائحة خشب الأبنوس القديم ، بهتت ملامح نقوشه وزخرفته في مواجهته الحتمية مع الزمن ....
رياح نوفمبر الغاضبة لا تتوقف تُحرك الستائر متسللة من خلف الشباك العملاق تجاهد لتقتحمه فلا تستطيع ان تنتصر طوال تلك السنين ,,,,,
عطور العنبر والياسمين تحاوطها وظلت تتلفت حولها بعد أن هبت نسمات باردة حركت قميصها الحريري ، فأحكمت قميصها حول صدرها وقربت المصباح من الأسطوانات المركونة بجوار الجرامافون ، عبد الوهاب لا مش انا الأبكي ، أسمهان ياحبيبي تعالى الحقني شوف الجرالي ، أم كلثوم مادام تحب بتنكر ليه ,,,,
قربت المصباح من الحائط  لتري الصور المعلقة عليه ، فتاة طويلة ، عيناها الواسعتين وشعرها القصير الممتد لكتفيها ، الوشاح الأبيض يغطى نصف شعرها كخمار يزيدها سحرا وجاذبية ، تحمل قطة ساكنة في اطمئنان وهدوء ,,,,
يتحرك نور المصباح فتلك لوحة ريفية لفنان مجهول ، فتاة ترعى الأغنام بجوار ساقية الماء ,,,
جلست على الكرسي الزان أمام المكتب واضعة المصباح على يسارها ...
كان درجي المكتب فارغين فلما فتحت احداهما بقوة سمعت صوت جلجلة مفتاح صغير ،بحثت بكفيها عنها فوجدته كما هو لما ينتابه الصدأ ، فتحت به درج المكتب الأوسط فأحست بثقله وهي تجره ناحيتها ،،،،
البوم صور ، وحافظة رسائل جلدية ، ووشاح أبيض ، وورقة صفراء من جريدة قديمة ,,,,
ازاحت التراب من على حافظة الرسائل ، كانت الرسائل صفراء لكنها تحتفظ ببعض من رائحتها الوردية  ....
مازال الكلب ينبح ولا ينفك عن المناداه ، الصوت يحمله الريح فيزداد ثم يبعده فكأنه صمت للقائه بمن يناديه ,,,
قرّبت المصباح من الرسالة التي بدأت بها ، ديسمبر الف وتسعمائة وخمسة وستين : اقترب العيد وانا جالسة وحيدة أنتظرك لم أعد أبالي بما يدور حولي في الكون فأنت الكون الذي ادور أنا حوله واسبح فيه عشقاً الى ان اغرق فيه فلا شيء ينقذني سوى رؤية عيناك ، قد وعدتني أنك ستأتي ، لم أعد أحتمل ضياعي عن نفسي الا تعود فتأتي بروحي الي فأصبح جسداً تسكنه الروح بعد ماذاق الخواء ,,,,,
دقات قلبها تتسارع ، ويديها ترتعشان فطوت الرسالة وتناولت رسالة أخرى ، يناير الف وتسعمائة وستة وستين : كقطتي أجلس في شرفتي أنظر الى ذلك الطريق ، اظل مشدوهة الجوارح كالممسوسة ، أقسم أبي الا يزوجني لك ، وأقسمت الا أكون لسواك ، رفضت أي رجلٌ يتقدم لخطبتي ،،،
 في الصباح قالت أمي أنها ستأتي بشيخ كي يرقيني ويبطل السحر الذي تسلط علي ، وانا سحري ربما اكثر تعقيداً من سحرة فرعون ، انت السحر الذي مسني فهل لي من نجاة ,,,,,,
تغرورق عيناها بالدموع فتمسحها بكفيها ، وصفير الريح يزداد يحمل معه نباح الكلب الشريد ....
ربيع الف وتسعمائة وستة وستين : بالأمس كان عُرس أخي الأكبر ، لقد تخمرت بالوشاح الأبيض الذي اهديتني أياه ، لقد صم أذناي عن صوت الأغاني والأهازيج والأحتفالات الا من صوت ضحكاتك معي ، لقد عُميت عيناي عن الأضواء الباهرة والراقصات والمطربين الا من رؤيتك ، أعلم أنك بعيداً الان بعد أن التحقت بالجيش ،،،،،
لقد بدأ ينفد المصباح وأصاب نوره الخفوت ، فطوت الرسالة وبدأت في رسالة أخرى : خريف الف وتسعمائة وسبع وستون : لا أدري لمن أكتب بعد أن رحلت ، اليوم الذي قُتلت فيه في الحرب ، نُزع قلبي من أحشائي وأنطلقت روحي عني ، لم أدري ماذا حدث عندما علمت بمقتلك سقطت ، وفتحت عيناي  وجدتني هنا ، سرير أبيض في غرفة وحيدة ، وجوه تأتي لتراني لا أتذكرهم ، ممرضة تعطيني الدواء وتخرج ، سيدة تبكي بجواري يقولون أنها أمي ، لم أعد أرى كما كنت فنظري أصبح ضعيفاً ، قال لي الطبيب وانا لا أبالي ، الحزن أضعف بصري ،أنتظرني  سألتقي بك في القريب ،،،،،
بدأت ريح الخريف القوية تجتاح الشباك فأرتج بقوة كأنه بدأ في الاستسلام ،، سقطت دموعها على الرسائل فزادتها ملوحة جعلت رائحتها الوردية أكثر غرابة ،،،،
شتاء الف وتسعمائة وثمانية وستون ، الخط الذي كُتبت به الرسالة ليس بخط الرسائل الأخرى : أبت عيناي على الرؤية بعدك فبدأ النور ينسحب منها مهاجرا الى حيث انت ، وحيث انت تهفو روحي فمتى اللقاء ؟؟؟؟
اندفع الشباك فأجتاحت الريح الستائر فتطايرت الرسائل في انحاء الغرفة ، ذهب خفوت المصباح فأنطفأ  ،،،
أمسكت بالورقة المقطوعة من الجريدة وقربتها من نور المصباح الخافت ، نعي صغير يحمل أسمها ومواساة جميع أفراد الأسرة ،،  خريف الف وتسعمائة وثمانية وستين ,,,,,,,

الاثنين، 6 أغسطس 2012

الرؤيا




أتى الشتاء مبكراً هذا العالم ، لم يكن المطر ليهطل هكذا قبل منتصف نوفمبر  ، رياح شتوية باردة يعقبها سُحب سوداء تتزاحم وتتلاحم سوياً لتُخفي قرص الشمس الذي يحاول هارباً لكنه لا يستطيع ....
لم يتوقف المطر الى المساء ، ولم يرن الهاتف منذ شهور ....
ظلت تنتظر أتصاله بها منذ أواخر الربيع ، عندما لا يأتي الى المدينة كان يتصل بها ، توقف هذا الهاتف عن الرنين منذ أخر أتصال ....
قطرات المطر قد صنعت على زجاج النافذة تلك الخطوط التي امتزجت بالبخار ، وقفت خلف النافذة متلفحة بشالها الأحمر لتقاوم به برودة جسمها فأنساب شعرها الأسود الفاحم من بين شالها الأحمر  ....
مسحت بطرفي الشال زجاج نافذتها فإذا به يطل بوجه مبتسماً بين خطوط المطر ، هكذا يوفي بوعده معها عندما تشتاق أليه ويغيب عنها تبحث عنه من خلف النافذة بين قطرات المطر وضباب الشتاء ,,,,,,
ثلاثة أعوام مضت على لقائهما الأول ، بالقرب من الجسر القديم الذي يربط ضفتي النهر ، أسفل شجرة الكافور الكبيرة جلسا سوياً على الأريكة الخشبية ، تائهاً وغريباً في تلك المدينة فألتمس منها السؤال فأجابته ،،،،
ظلا يتقابلا هنا في نفس المكان عند الجسر القديم كلما جاء الى مدينتها ....
كرؤية النائم رأته قبل أن تلقاه وظلت تراه كرؤية بعيدة تأتيها كل حين ...
كان النوم قد أغمض عينيها المبصرة ألا أنها قد فتحت من قلبها عيناً صافية ، روحٌ تطل من تلك النافذة الشتوية قادم اليها من عالم النور ، فأين قلبها وعقلها الذي غاص في أعماق ذلك العالم ، فأصبحت أسيرة لرؤية حبها ، فأي رؤيا سرقتها من عالمها تلك التي ضاعت فيها وأصبحت في عالم أخر لا حدود له ........
نظرت لوجهه المطل خلف زجاج نافذتها يحتضنها شالها الأحمر ، من أسلمت له عقلها وراحتها وتبعثرت أيامها مابين الشوق والقلق ، منحها الحزن عندما غاب دون أن يزيله عنها وسلب قلبها دون أن يأتي لها بالعوض ......
لم تطيق الأنتظار فذهبت الى بلدته المطلة على البحر ، ترك لها عنوانه فظلت تبحث عنه الى أن وصلت اليه ،،،،،
أم عجوز وأبنتها الوحيدة سيدة تجاوزت الأربعين عاماً كانا في أنتظارها , ذلك البيت الذي وصفه لها بشرفته المطلة على البحر وجهاز الراديو القديم والمكتبة الكبيرة ، دخلت غرفته ، رائحة الخشب القديمة ممزوجة برائحة ملح البحر بجوار السرير صورة له بالأبيض والأسود كأنها التقطت له من ثلاثين عاماً ......
أنه هو الذي بالصورة هو من يأتيها ويجلس معها عند الجسر القديم ، نفس الوجه الذي يطلع عليها من خلف النافذة ، نفس الرائحة التي تجتاح صدرها عندما تحس بطيفه يحاوطها .....
ذهبت مع أمها وأخته فتراكها تدخل وحيدة !!
ظلت تبكي ووقفت أمام شاهد القبر تسمع صوت النورس والكروان الذي دائماً تسمعه عندما يحاكيها في الهاتف ,,,,,
شاهد القبر يحمل أسمه وتاريخ وفاته في أحدى ليالي الصيف منذ ثلاثين عاماً ,,,,,
شتاء يعقبه شتاء متأخراً كان أم مبكراً ، لم يتوقف المطر في أحد تلك الليالي ولم يرن أبدا ذلك الهاتف ...
تقف أمام نافذتها تنتظر وجهه مبتسماً يأتيها من بين قطرات المطر وخطوطه التي تنساب على زجاج النافذة ، رؤيتها السرمدية التي لا تنتهي ,,,,,,,