الثلاثاء، 25 ديسمبر 2012

اللافندر

كادت أن تصدمه سيارة مسرعة وهو يعبر الطريق ، فارتمى على جانب الطريق وسقطت منه زجاجات عطر اللافندر ، لملمها بيدِ واحدة ووضعها في الحقيبة الورقية ثم ترك الحقيبة ونفض التراب عن معطفه ودس كُم المعطف الأيسر في الجيب وأخذ الحقيبة الورقية وانصرف ....
المحال تتزين بأستقبال العام الجديد ، وسانتا يبتسم ويطل من الفاترينات الزجاجية والاشجار تتلألأ بالاضواء والكرات الملونة ....
يرى انعكاس عينيها العسليتين مطله من الفاترينات حتى في أضواء السيارات ، في عواميد الأنارة التى ينقض شعاعها كالسهم مخترقاً الضباب ورزاز الأمطار المنتظرة .....
كلما أغمض عينيه يكاد يصتدم بسيارة او سيدة عجوز تنظر له بأشفاق او صبي يخافه ويرتاب منه ، فأسرع الخطى حتى يصل الى العمارة العالية المطلة على الميدان ويسكن فيها .....
ينتظر المصعد القديم ، فيتدلى الحبل الذي يسحبه ثم يتهادى وتخرج منه تلك الشابة الحسناء تتعلق بذراع خطيبها ، لم تكن أكثر منها جمالاً لكنه نظر لها وأطال لكنه أحس بالخجل واغلق عليه باب المصعد الخشبي وظلت الحسناء تتلفت الى الوراء ناظرة اليه ....
تتوالي الأدوار والبيوت  ، يمر من خلالها بطفولته السعيدة ثم صباه الهاديء ثم شبابه الجامح الى مثواه وعمله في البحر ....
هاجر اليابسه وانطلق الى منصات التنقيب عن البترول في البحار ، لم يعد يطيق أن يلامس تلك الارض والعمارات العالية والبشر الكثيرين ، تلك السماء الضيقة والهواء الشحيح ، كلما عاد الى اليابسة يصيبه الأكتئاب الا عندما التقى بها ، فأصبحت مرساته وشاطئه الأخير ....
توقف المصعد في الدور الأخير ، دفع الباب الخشبي بكتفه فارتد الباب خلفه مرة أخرى ، وضع الحقيبة الورقية وفتح باب شقته ....
لم يتبقى سوى القليل على انتصاف الليل ، والمطر بدأ غيثه رويداً وثقيلاً مصتدماً بزجاج شباك غرفته ....
على الحائط مُعلق صوره وهو على منصات التنقيب في البحر وبعض شهادات التقدير ، اخرها شهادة التقدير بعد أن اُنهيت خدمته بعد ان فقد ذراعه الأيسر في حادث اثناء عمله وعاد بعدها الى عالم اليابسة مرة أخرى ....
ظل يبحث عنها بعد عودته الاخيرة لكنها اختفت ، يبحث عنها في كل صباح وعند مغيب الشمس في نفس المقهى الذي التقيا فيه ....
يصتدم بالمارة ويكاد يُسحق تحت عجلات السيارات وهو يبحث عنها في تلك الوجوه والزحام ...
صورتها على الحائط وفي أدراج المكتب وفي غرفة النوم ، وعطر اللافندر هو من تبقى منها .....
مبتسمة كعادتها عينيها البريئتين تنظران بشقاوة الأطفال ، معلقاً في رقبتها تلك الدلاية الرقيقة ، شعرها القصير ينسدل في حنو يكاد يصل الى كتفيها ......
علق جميع صورها على الحائط ، بجوار التلفاز ، أسفل ويمين واعلى ويسار صوره ، على الشرفة ، على الأبواب ، نثرها جميعاً على الأرض .....
قبل انتصاف الليل ، أدار أسطوانة التانجو التي كانا يسمعاها في ذلك المقهى الفرنسي ، كأنه يرقص معها ، كالقوقازي الذي يحفر بحافر نعليه قبره الذي سيرقد فيه بينما يظنه الأخرون انه يرقص طرباً وفرحاً .....
أخرج من الحقيبة الورقية زجاجات عطر اللافندر ، استنشقها في هدوء ....
ثم سكبها واحدة تلو الأخرى حول صورها المنثورة جميعاً على الأرض .....
أنطلقت الألعاب النارية في السماء عالية وضحكات المحتفلين في الميدان تصعد اليه عبر شرفته ، واسطوانة موسيقى التانجو الحزينة تنساب بدون توقف .....
أغلق باب شقته عليه من الداخل والقى بمعطفه بعيداً فظهر الجزء المتبقى من ذراعه اليسرى المقطوعة ....
وضع علبة الكبريت بين ركبتيه ثم أشعل عود الثقاب فتلألأ ضوئه الصغير وأنعكس في عينيه ، ثم القاه على عطر اللافندر المسكوب على الصور ....
ارتفعت السنة النيران بين الصور وأمام عينيه وهو جالس على كرسيه الهزاز ....
مازالت الألعاب النارية تضوي في السماء وفي شرفته المطلة على الميدان ،،،،
وأسطوانة موسيقى التانجو الحزينة تنساب بدون توقف ,,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي 

الخميس، 15 نوفمبر 2012

أسفار الأحلام



غرفتها الأضائة بها خافته تسمع أزيز أنقطاع الكهرباء ثم فجاة  أساسها يتهدم ، يندفع فيها الماء كالفيضان من كل مكان ، تبحث عن منفذ للهواء تشعر بالغرق لا تستطيع التنفس ، تغوص وتسبح ثم تندفع لأعلى لتبحث عن الهواء !!
الجد ينظر لها مبتسماً وممسكاً بيد أمها يخرج بها وهي صارخة تتشبث بيدها الأخرى وتشدها بقوة !!
غريب يأتي لها وسط جمع من الناس يعطها طفل وليد فيسقط من يدها ويموت !!
تقف في شرفتها تجد ذلك الجار يُلقى بأساس غرفته الحديثة من شرفته وهو يضحك ضحكات هيستيرية !!
تركض عارية وحافية في ذلك الشارع المظلم ، وحيدة لا تجد أحد وجميع أبواب البيوت مغلقة !!
الجو بارد هذا المساء ، رياح باردة لا تتوقف وغيث قليل من المطر يُنذر بأنه ربما يتساقط بقوة في أخر الليل ، أمسكت يده وضمتها بشدة ، تستمد منها الدفء بعدما ظل الدم هارباً من أناملها ، موج البحر يندفع بشدة يناطح الصخور منذ مئات السنين بدون جدوى ،،،،
وقفا سوياً يتكئان على السور المواجه للبحر ، قالت : لا أؤمن بوجود السعادة ، غير متأكدة أن كانت فعلا حقيقة ، حتى السعداء ربما يكونوا واهمون بها ، يقنعون أنفسهم بأنهم سعداء أو راضون رغماً عنهم ،،،
يزداد أيماني بالخوف ، يزداد يقيني بالموت ، يزداد أحساسي بالألم .....
ترفع صوت التلفاز ، تجلس على سريرها تحضن ركبتيها المثنيتين ، تزداد الرياح الشتوية فيرتطم زجاج شرفتها ببعضه البعض وتطاير الستائر بدون توقف ، تمسك هاتفها وتتصل به : لا أريد النوم ، أنه حلم أخر , هذا الصباح جارنا الشاب أنفصل عن زوجته بعد زواج دام أسبوعين !!
لقد شاهدته منذ ثلاث ليالٍ ، أقف أنظر من شرفتي وهو في شرفته يُلقي بأساس غرفة نومه في سعادة وضحكات هيستيرية  ،،،
أخبرني كيف أهرب من النوم ؟؟
تتشبث بعجلة القيادة ولا تستطيع أدارة محرك سيارتها ، دقات قلبها بطيئة تكاد أن تتوقف ، أنه ذلك الأنقباض الذي ينقض بمخلبه على قلبها كطائر ليلى ضخم .....
جلسا سوياً في المقهى الذي اعتادا ان يجلسان فيه كل صباح ، أمسكت فنجان قهوتها وهي تنظر للخارج عبر زجاج المقهى وقالت : لقد رأيت جدي في الحلم ، جاء لزيارتنا ففتحت له الباب ، نظر لي مبتسماً ولم يتكلم ثم دخل بيتنا وظل يبحث عن أمي ، وجدها في المطبخ وأمسكها من يدها وأصر أن يذهب بها ، أمي رفضت وهو ظل ممسكاً بيدها ، ثم استسلمت له ، أمسكت يدها بقوة وأصرخ بشدة وامي تنظر لي نظرة قلقة صامته ، وجدي على ابتسامته ، أصرخ وفجأة خرجا سوياً واغلقا الباب خلفهما !!
تبحث في دولابها بين فساتينها عن فستانها الأسود ، ترتديه باكية ، ثم تخرج من غرفتها ، تمشي وسط أُناس تعرف بعضهم ولا تميز البعض الأخر ، ينظرون لها بشفقة واندهاش ، ما أن وجدته أمامها حتى ترتمي على صدره وتبكي : لم أكن أن أتوقع أن يكون سريعاً هكذا، كنت معها وكانت تنظر لي نفس النظرة الصامتة القلقة  ، لا أريد أن انام لا أريد !!
أتعلم قبل أن نلتقي كنت أرتبطت بذلك الرجل الذي حدثتك عنه ، رأيت رجلٌ غريب قريب من ملامحك يتردد علي في أحلامي ، يأتي لى وسط الصخب والزحام ويعطيني طفل وليد لا يبكي ولا يتكلم ، لكنه حي ، وما أن حملته بين يدي سقط مني ومات ، لم أحزن عليه بل استيقظت من نومي هادئة وراضية ،،،
لقد أنفصلت عن ذلك الرجل عندما أصر أن يُسافر بعيداً ولا يأخذني معه !!
ظلت صامته وهي جالسه بجواره على الأريكة الخشبية المواجهة للبحر ، وضعت يدها على يده لا تريد أن تتكلم ، ثم شبكت أصابعها بأصابعه وقالت : لماذا اركض عارية وحافية ، شارع طويل مظلم ، وحيدة ، جميع أبواب البيوت ونوافذها مغلقة ، لا أحد يطل من تلك النوافذ ، أبحث عن باب مفتوح فلا أجد ، هل يراني أحد أم الظلام لا يجعلهم يروني ، أم لا يوجد أحد ؟؟
أظل اركض واركض حتى أستيقظ متسارعة أنفاسي والعرق يسيل مني وقلبي يدق سريعاً ,,,
هل ستتركني عارية وحيدة ؟؟
ظلت تركض بجوار الكورنيش يختلط في عقلها صوت الأمواج المتلاطمة والسيارات وضحكات المارة وهمساتهم ، تزداد الرياح القادمة من البحر فيتطاير الشال الذي تلفه حول صدرها ،،،
تنظر الى البيوت المتراصة على الكورنيش ، تقاوم رياح البحر المالحة ، صدأت شرفاتها وتقشرت واجهاتها ، رياح البحر المالحة تتناوب عليها منذ سنين فلا رحمة عندها ، وتظل البيوت تقاوم الى أن تضعف أمام تلك الرياح الابدية ,,,,
تختفي من حولها تلك البيوت ، تخفت أصوات الامواج والسيارات وضحكات المارة ، تسمع فقط نبضات قلبها ،،،
يتكرر ذلك الحلم السرمدي ، غرفتها تهتز بها الأضائة مُحدثه ذلك الأزيز المزعج ، تزداد الريح المتسللة من شرفتها فتهتز الحُلي المعدنية المعلقة في غرفتها على شكل حيوانات صغيرة ، يبدأ أساس غرفتها في السقوط وهي تصرخ فلا ينطلق صوتها ، تصرخ في الفراغ لا مُجيب ، يندفع الماء كالفيضان من كل مكان ، أصبحت كالمسبح الصغير ، تطفو دميتها وتغرق حيواناتها المعدنية الصغيرة ، تغرق وتغوص ثم تسبح وتندفع لأعلى بحثاً عن الهواء ، يزداد الماء وتندفع لأعلى بحثاً عن الماء ,,,,,,,
تقف في اتجاه البحر ، يتطاير شالها الذي تلفه حول صدرها ، وتصرخ ، تنظر حولها ، البيوت تقاوم رياح البحر المالحة ، السيارات وضحكات المارة وهمساتهم ,,,,,,,

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

صابرين


يُدعى بركة !! ، هكذا ينادونه في القرية  ، ماتت أمه بعد أختفاء أبوه بسنتين ، كان طفلا صغيراً أبن أربع سنوات وقتها ، فأصبح وحيداً في الدنيا فتعهد بتربيته والأعتناء به شيخ المسجد في القرية ،،،،
يعشق الحرية والجلوس وحيداً ، صديقته هو دميته التي يضعها دائماً في حقيبته القماش المتدلية من رقبته  ومعها بعض الطعام من الخبز او البلح او التوت الذي يسقط من شجرة التوت الكبيرة التي تظلل السواقي القديمة .....
يجلس بجوار السواقي وحيداً ، ينصت لأنينها الذي لا ينقطع منذ سنين ، يدور معها فلا يدري الى متى ستتوقف عن أنينها ، يتسرب من بينها أشعة الأصيل الممزوجة بالشفق القرمزي كدماء قربان على مذبح الغروب المنتظر .....
يظل يتتبعها كطائر صغير يحلق حولها ، يستمد من وجهها الصافي سعادته البسيطة ، يبتسم عندما يتنصت لضحكاتها مع صديقاتها وهن قادمات من موقف سيارات الأجرة الخاص بالقرية ، بزيها المدرسي الأزرق حاضنة حقيبتها الجلدية على صدرها ، والضفيرتين المجدولتين كثريات عنب تتدلى وتتلألأ تحت شعاع الشمس الذهبي .....
يلهو بجوار نافذتها وهي تجلس فيها تمشط شعرها وتذاكر دروسها ، صنعت له دمية صغيرة من القطن والقماش له عينين وفم وأنف خشبي صغير ، وهو يجمع لها التوت الأحمر من الشجرة الكبيرة التي تظلل السواقي غرب القرية ,,,,,
بجوار السواقي البعيدة قبل الغروب تقابله ، تدور السواقي وتأن ، وتدور معها احلامهما ، كل اجازة يعود فيها من الجيش يذهب وينتظرها بجوار السواقي ، فتأتي اليه خُفية حتى لا يراها أبوها ، العشق المجنون كقطار فقد مكابحه لا يتوقف لا يرى لا يبالي أما يصتدم وينهار أو يُسيطر عليه فيتهادي رويداً رويداً الى أن يصل محطته الأخيرة ....
تجلس بين أحضانه تنعكس شمس الغروب على عينيها الصافتين فينهل هو من شهد حبها فلا يرتوى ظمأه وان له ان يرتوى ظمأن العشق أبداً .....
يلهو بدميته ويراقبهما من بعيد الى أن تتوارى شمس الغروب خجلاً خلف خمار الليل الأسود فيعود معها هو ودميته الى بيتها ، ويتسلل ذلك العاشق ويعود ببدلته العسكرية متلفتاً يمنة ويساراً خوفاً من قاتل يتتبعه ويريده ثأراً لعائلته ,,,,,,
يظل بجوار نافذتها حتى يخفت نور غرفتها وسط الظلام فيعود مع دميته الى بيته بجوار مسجد القرية .....
يرخي خمار الليل سدوله على القرية التي تحاوطها مداخن افران الطوب الشامخة ، تقف كحارس لا ينفك عن مراقبة مايدور ، يتصاعد الدخان منها كأنها تتحدث وتتحاور فيما بينها لا يدري بلغتها احد ولا يدري متى تغضب ومتى تكون هانئة وراضية ,,,,
لم تعد تستطيع أن تُخفي مافي أحشائها من ثمرة ذلك العشق المجنون الذي غرقت فيه ، تتساقط وتذبل وتشحب ....
أمها تترقب في قلق لا تدري ماذا أحل بصغيرتها ،،،،
يجلس بجوار المسجد يلعب بدميته ويملأ زير الماء السبيل القابع بجوار باب المسجد ، وجدها تتبع أمها تكاد تهوي الى حفرة سحيقة بدون قرار ، تترنح كغصن زيتون ذابل تتلقفه الريح كل حين فيكاد ينكسر لكن مازال يعاند في ضعف ....
يظل يسير خلفهما الى أن وصلا موقف السيارات , فركبت مع أمها السيارة وأنطلقا ، بينما هو ظل ينتظر مع دميته الصغيرة .....
ذهبت بها أمها الى الطبيبة في المدينة القريبة ، كالمؤدة سيقت الى قبرها بدون أن تُبدي أي من الأنفعال سوى دمعة ترقص رقصة الموت فوق وجنيتيها الشاحبتين ....
الشمس تتوسط كبد السماء ترسل قيظها بدون رحمة ولا هوادة تكاد أشعتها القاسية تقصف بالرقاب كمنجل قمح يترقب في لهفة حصاد سنابله التي استوت .....
أخذته سِنةٌ من النوم بجوار دميته اليقظة التي تنظر في دهشة لذلك الزحام والسيارات ، بأذنها الصغيرة ربما تستمع الى الضوضاء قد تكون سعيدة وقد تكون منزعجة ,,,,
استيقظ فوجدها تتبع أمها عادت كما ذهبت ، الأم ينفجر بركان الدماء من وجهها ، وصابرين تضربها الشمس بمطارقها الساخنة بدون هوادة ،،،،
طريق الألام هو ، تسقط فيه سقطاتها السبعة والمجدلية تتسلل بين الزحام في حزن تريد أن تضع على رأسها ذلك الشال الأبيض ليحميها من قسوة الشمس وتلك العيون التي تغرز مخالبها في جسدها الرقيق ....
مداخن افران الطوب الشامخة سُّعرت بطين جديد فتصاعد الدخان الى عنان السماء وتهتف في غضب هل من مزيد ، على جنبات الطريق الملتوية تقف كُحراس بيلاطس والسنة الدخان كسياط تلوح  في الهواء تنتظر الفتاة بأبتسامة الغضب والاستهزاء ، تجلدها كما جُلد المسيح على طريق الامه الطويل ......
عاد من خدمته العسكرية كي ينفذ وعده بالزواج من محبوبته الذي غرق في بحار عشقها بدون نجاة ، يسلك الطُرق الجانبية والشاقة بعيداً عن عيون الطالبين بالثأر ، كفريسة صغيرة بدون جدوى ، من بين تلك الأبواب المغلقة وربما خلف تلك المداخن المتراصة ، من بين النوافذ او الغيطان الممتدة ، تتهيأ وتنطلق الطلقات النارية ، اربع او خمس طلقات تصيب قلبه فيسقط صريعاً ، وينتفض الحمام فزعاً من ابراجه  وأعشاشه ويرفرف خوفاً ويطير بعيداً ....
تسقط على عتبة دارها مع اخر طلقة نارية ,,,,,
يجلس حزيناً أسفل نافذتها ، دميته الصغيرة تنظر في قلق ، ينظر الى الشمس التي بدأت تنسحب الى الغرب بعد أن عاقبت الجميع هذا اليوم .....
تخرج من دارها على كتفها ذلك الشال الأخضر يرفرف ببطيء بعد نسمة هواء مفاجئه قادمه مع رياح الشمال ....
تنظر له وتبتسم وتتجه الى السواقي في غرب القرية ، يتبعها هو ودميته ....
مازالت الشمس تنسحب الى الغرب في هدوء وبطء يحاوطها ذلك الشفق القرمزي الحزين يعكره دخان المداخن العاليه القادمه من اطراف القرية ....
تصل الى السواقي وتجلس الى جوارها ، وهو أسفل شجرة التوت ينقى لها التوت الأحمر المتساقط ودميته مُلقاه على الأرض بجواره ....
تقف بين السواقي الثلاث وتسقط سقطتها السابعة ، تصدمها السواقي الدائرة التي تأن منذ سنين فتسيل الدماء منها وتختلط بالماء الذي يسقي القرية ويرويها في كل مكان .....
يجري الماء بالدماء ويذهب بعيداً وهو يمسك شالها الأخضر الذي سقط من على كتفيها ونهديها بجوار السواقي التي لا تتوقف منذ سنين .....
يرخي الليل خماره الأسود على القرية ونسوة القرية يعوين وينحن على الشاب القتيل وعلى الفتاة الغارقة بين السواقي  ,,,,
النحيب يأتي من عند السواقي ، والمشاعل تنتشر في الظلام والام تنوح من بعيد ،
جيالك عروسة محنية الكفوف والكعب ،،، خدت معاها الهنا وسابتلي وجع القلب .........
وهو يجلس يُحادث ويُحاكي دميته أسفل نافذة صابرين المغلقة  ,,,,,,,,,,,,,,,,

الأحد، 21 أكتوبر 2012

بعد الفجر

تقف في الشباك المطل على الحارة الضيقة ، فتطل منه على ذلك العالم ، فيدور أمامها بأصواته واحداثه ومشاكله ، سيدة عجوز تبيع الطماطم والخيار ، وسيدة تقوم بتنقية الأرز وتتحدث مع جارتها الجالسة أمام عتبة دارها ،،،،
طفل يعاند الريح حتى يجعل طائرته الورقية تحلق عالياً في السماء ، فيطاردها في الحارة الضيقة فتسقط طائرته وهو يسقط معها ثم ينهض ويسقط من جديد ، حتى تسبح الطائرة الورقية على صفحة الريح فتعلو وتعلو في السماء ،،،،،
يمر أمامها ذلك الشاب الجامعي الوسيم بحقيبته التي يحملها في كتفه ، كم تمنت لو يلتفت اليها ويحس بها ، يوميا في نفس الميعاد تقف تنتظره ، ربما في هذا اليوم قد ينظر اليها ، يبتسم لها ، يحس ما بداخلها ، هو فقط  من يستطيع ان يقطع شرنقتها ويخرجها منها فتصبح كائن اخر ، فراشة جديدة ملونة الاجنحة ترفرف في عالم مختلف ،،،،،
لم ينظر اليها مثل كل يوم فتتبعته بعينيها حتى غاص في اعماق الحارة الضيقه ،،،،
لم يوقظها من تأملاتها وأحلامها سوى صوت أمها الحاد وهي تنادي عليها بأن تأتي لمساعدتها ،،،،،
بجوار الراديو الموضوع فوق رف خشبي متهالك يجلس ينازع هجمات النٌعاس التي تأخذه بعيداً عن عالم وحدته اللامتناهي ، احلام لا يدرك كنهها لا يتذكرها عندما يعود لمحيطه المتسع والفارغ ، يُنصت السمع لقران السهرة في الاذاعة منتظراً نشرة الأخبار ثم المسلسل ،،،
كوب الشاي أصبح بارداً وهو لا يبالي ، كم من اكواب الشاي صنعهها ولم يحتسيها او أحتساها رغم تحذيرات الطبيب بعدم شُرب الشاي ،،،،
لا يقيه من برد الشتاء أغلاق النوافذ او ترك موقد الكيروسين مشتعل ربما يبعث له بالدفء بجانب الذكريات البعيدة التي تزوره كأطياف متتالية فالشتاء دائماً بارد على من لا يملك ذكريات دافئة ,,,,,,
يأتي المساء فتزداد برودة المكان وربما يسقط المطر هذا اليوم ، هدأت الحارة قليلاً من الماره لكن يأتي صوت فرح من مكانٍ ما قريب ، صوت الاغاني الشعبية الصاخبة ،المعازيم يصفقون سكارى ويرقصون ،،،
كل واحدة من اختيها اغلقت عليها غرفتها ، وهي وقفت وحيدة في الشباك يأتيها ضوء الفرح قادماً من بعيد ، وضوء اخر منبعث من الكورنيش ،،،،
ممسكاً طائرته الورقية يداعبها كحبيبة اختلى بها في ليلة شتاء يستمد منها الدفء بعد حرمان ليالٍ طوال ، يحرك ذيلها ، يرقعها بالقماش حتى لا تسقط منه ، يوصل ويشد الخيوط المقطوعة ،،،،،
لا يستطيع النوم خوفاً من الكوابيس التي تطارده في الليل يظل يبكي لا يدري أيذهب الى أين ، يظل جالساً على حافة الشباك مختبئاً في سترته الصوف كقط صغير يتابع حركة الحارة الهادئة ، يراقب ضوء الفرح القادم من بعيد والضوء الأخر المنبعث من الكورنيش ,,,,,
لفت الشال حول صدرها وربطت شعرها الطويل ، نزلت الى عتبة دارها ووقفت حافية القدمين ،أحست بالبرودة تتسلل من قدميها الى باقي جسمها ، فكانت تدفىء كل قدم بالأخرى ، ناظرة بتأمل الى افق بعيد مضيء  ،،،
أقترب الفجر ، صدى الأذان المنطلق من المأذن القريبة والبعيدة ممزوج بنباح كلب مُسبحاً مُبتهلاً ، ودعاء كروان متلهف يمر سريعاً ويختفي ,,,,
أستفاق من نعاسه الذي هاجمه ولم يفق منه الا بعد ساعات ، جالساً بجوار الراديو مع تلك الكوب الزجاجية الوحيدة ،،،،
توضاً مردداً سنن الوضوء بصوتِ عال ، ثم أرتدى البالطو الصوف متلفحاً بذلك الشال الذي لم يغيره منذ سنين ،،،،
تدور أصابعه المرتعشة الضعيفة مع سبحته القديمة ، متمشياً مخترقاً قطرات المطر الهادئة وضباب فجر الشتاء يحاوطه ، فيجعل صدره مبتهجاً كأنه يخترق الجنان ,،،،
تمشت في الحارة الضيقة حافية ، أبتعدت عن اتجاه الفرح الصاخب الذي هدأ قليلاً مع علو تكبيرات الفجر الى السماء ، اتجهت  الى الضوء المنبعث من الكورنيش ، وكلما اقتربت من البحر استنشقت رائحته وهوائه المالح ،،،،
المطر يزداد وقدميها تبللت وشعرها ازداد لمعانا وبريقاً مع قطرات المطر التي تتساقط بحنو  ،،،
 ارتدى ملابس المدرسة ووضع طائرته في حقيبته وقفز من الشباك القريب من الحارة ، وانطلق بدراجته الى البحر كما اعتاد ، كالريح مخترقاً بدراجته قطرات المطر والضباب ....
خرج من المسجد القريب من الكورنيش يردد ورد مابعد صلاة الفجر واتخذ مكانه اليومي على الأريكة الخشبية المطلة على البحر ،ثم بدأ يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ،،،،
كانت السيارة تسير مسرعة في شارع الكورنيش اضواء كشافتها ينعكس في عينيها ، فوقفت تنتظر حتى تمر الى الجانب الأخر  وتقف أمام البحر ،،،
عبرت الشارع وهي حافية ووقفت أمام البحر تستقبل هوائه في صدرها ، وخلفها بعض الصبية الذين انتهوا من الفرح يطلقون الصواريخ المضيئة في السماء ،،،،
واضعاً يده في جيوب البالطو الصوف بعد أن تجمدت أنامله الضعيفه على حبات مسبحته ،،،
أخرج طائرته الصغيرة وفطيرة بالسكر والعسل اشتراها منذ المساء ، ظل يأكلها ممزوجة بقطرات المطر .....
ظلت تتمشي بجوار البحر تنظر الى امواجه الصاخبه الممزوجة بقطرات المطر ، حافية القدمين تتسلل من خلالها البرودة الى بقية جسمها لكنها لا تبالي ،،،،،

السبت، 29 سبتمبر 2012

أسفار العزلة


أختنق جو الغرفة بعد أن طال أنقطاع الكهرباء عن المعتاد ، كانت متكئة على ماكينة الخياطة تنتظر منذ اكثر من ساعتين كي تستكمل عمل فستانها ،،،
ذهبت الى المطبخ وجائت بشمعة متوسطة الطول متهالكة صنع سيالان الشمع عليها تعرجات منذ زمن بعيد ، وقفت في شرفتها العالية المطلة على الشارع الرئيسي ، الظلام يُخيم على الشارع ، النوافذ البعيدة يأتي منها الضوء كأنها خفافيش مجهولة تلمع عينيها في أحضان الكهوف والجبال ، والسيارات تتحرك في الشارع كحشرات مضيئة تعس في ظلام الغابات .....
عادت لماكينة الخياطة ، جلست بقميصها القصير ، ينساب شعرها الأسود على صدرها وكتفيها فزاد من أحساسها بالأختناق ، فسال العرق على صدرها البرونزي الناري المنعكس عليه ضوء الشمعة المتهوجه بقربه ، ظل ينساب العرق كقطرة صغيرة أتخذت سبيل رحلتها من صدرها المتوهج حتى قدميها النحيلتين ،،،،
تحسست خصلة شعرها المنسدلة على الفستان الراقد بأستسلام تحت ابرة الحياكة ، فأنتابتها كراهية مفاجئة لشعرها الطويل ، لم تكن لتجرؤ على قصه او تقصيره حتى لا تُغضب أمها ومن بعد أمها زوجها الذي كان يعشق ذلك الشعر الليلي الأسود الجامح دائماً ,,,,,
تتلو أسفار عزلتها كلعنة ازلية تطاردها من أعالي جبال الأولمب تنتظر ذلك التصريح للأقامة بين الأحياء المختوم بصك زواجها كي لا تطاردها تلك العيون والألسنة البتارة كسيوف غُرزت في سم معتّق منذ مئات السنين .....
الخوف المؤلم من خوف هؤلاء منها ، انها تخشى الخوف الذي يقفز من عيون تلك النسوة عندما يرونها ، تخشاه وتخشاه حتى كرهت ذلك الجسد التي تسكن فيه روحها فكرهت ذلك الوجود الذي يرفض اعطائها صك الحياة .......
صوت الراديو يأتي متقطعاً من غرفة المكتب ، لا يحمل أي شيء مفهوم ان كان أغنية ام نشرة اخبار او حتى مسلسل ،،،،
لم تبالي به ان كان سينصلح ام سيظل كما هو ،،،،،
أصوات السيارات وضحكات الأطفال تتسلل من خلال شرفتها ، فأصبح يضايقها كثيراً هذا اليوم ، دائما ماتكره اصواتهم ،،،،
أخرجت مقصها من الدرج الصغير ونظرت لنفسها في المراه ،،،،
أمسكت أول خصلات شعرها وقصته فكان صوت المقص قوياً ، فتناثر شعرها الأسود على الأرض وتطاير بعيدا بالقرب من باب غرفتها ،،،،
نظرت للمراه ، ومازالت ممسكه بالمقص ،،،،
صوته يأتي همساً يطالبها بالمحافظة على شعرها ، صوت أمها يتداخل مع صوت ذلك الرجل يأتيها في عصبية ستكونين قبيحة عندما تقصين شعرك ،،،،،
أمسكت ثاني خصلات شعرها وبدأت تقصه ، فسقط سريعاً على قميصها الأسود ، كأنها أوراق شجرة سرو قسى عليها رياح اكتوبر الخريفية ،،،،،
نظرت للمراه ، ومازالت ممسكه بالمقص ،،،،
أصبحت كقطة وحيده تلعق جراحها ووحدتها ، لا احد يبالي ولا يهتم ،،،،،
تنسج خيوط عزلتها ، تصنع تلك الشرنقة التي تحميها من براثن الكراهية التي تحوم حول شرنقتها فتأبى ان تبحث عن سبيلاً للخروج .....
أمسكت اخر خصلات شعرها وقصته بقوة ، فسقط ثقيلا على التسريحه ، فتطاير شعرها الأسود الجامح تذروه رياح قادمة من الشرفة فجعلته منثوراً في جنبات غرفتها ......
أنتهت من حياكة فستانها الأسود القصير ، ارتدته وهي تتأمل في المراة انوثتها الذائبة في اسفار عزلتها ، جسداً يفترس من حوله ، بدأ يتلاشى ويذبل في هجير صحراء ممتدة لا حدود لها ،،،،،
وضعت أحمر الشفاه لم تضع مشطاً في شعرها القصير ، ارتدت حذائها ذو الكعب الرفيع ، تحسست ساقيها بأناملها كأنسياب الحرير ،،،،
تتمشى في الشارع المتسع يتتبعها صوت كعب حذائها كدقات موسيقي لاتينيه لا تتوقف ، يتوقف الصبية عن ممارسة الكرة عندما مرت بجوارهم في الشارع الجانبي ، مع نظرات حادة من تلك السيدة العجوز التي تقف في شرفتها تنتظر عودة زوجها من عمله ....
يسير بجوارها ذلك الصبي بدراجته يبتسم لها فتبتسم له ويظل مصاحباً لها أينما تذهب ، يراقب تلاوتها لأسفار عزلتها الممتدة منذ سنين ,,,,,,,,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو

الجمعة، 31 أغسطس 2012

الاختيار

 
المشهد الأول




 هدأت حركة المارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر ، تسارعت أنفاسه واضطربت دقات قلبه ، نزع الجيتار المعلق في كتفه ووضعه مركوناً ، ثم نظر الى صفحة النهر المنعكس عليها شمس الأصيل ، ثم صعد الى حافة السور وتقدم خطوة فسقط وترك نفسه يغوص ، شجاعة اقدامه على الموت لم تسعفه فأنتصرت عليه غريزة البقاء وحب الحياة والخوف من ذلك الشيء المجهول المسمى الموت ، اندفع يقاوم بيديه محاولاً الصعود وظل يسبح الى أن تعلق بأحد اعمدة الجسر ، نظر وهو يمسح الماء عن عينيه ويلتمس الهواء الذي افتقده في ألاسفل ، وجد بعض المارة ينظرون اليه من اعلى الجسر وأثنين من الشباب قفزا لينقذاه .....
ظل جالساً بجوار الجيتار يبصق الماء الذي اندفع الى صدره وجوفه ، ثم علق الجيتار على كتفه واستكمل سيره غير مبالياً بالمارة الذين ينظرون اليه بأندهاش .....
وصل الى شقته الصغيرة ، جلس مرتعشاً يسيل الماء من ملابسه ، كانت الستائر مغلقة والشرفة لم تُفتح منذ أيام ،،،،
ادار تشغيل الرسائل المسجلة على الهاتف مرة أخرى : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
ظلت الرسالة تكرر نفسها مرات ومرات وهو واقف تحت صنبور الماء الساخن ، ترتطم المياه برأسه فكأنها تعيد ذوبان مايحس به ويدور بعقله ، يتصاعد بخار الماء الساخن فتتلاشى صورته في المراه ، يمسح بيده عليها فتصبح الصورة خطوطاً متعرجة فيجد نفسه مشوهاً .....
جلس في المقهى الذي يعمل به ، ينتظر ان يبدأ عزف الحانه على الجيتار ، يعزف والوجوه الناظره اليه في استمتاع تختفي من حوله كأنها ذابت وتلاشت في ملكوته الخاص ، يرى فقط وجهها ويسمع الحانه التي كان يعزفها معها ، لا يستفيق ويخرج من شرنقته الا بصوت تصفيق الزبائن في المقهى ، أو سقوط كأس على الأرض ....
تراقبه وهو يعزف لا تستطيع أن تتحمل العمل في المقهى بدون انت تسمع الحانه وتتغنى بها مع نفسها وفي سرها ، تذهب وتضع امامه كوب الماء فيبتسم لها ويقول : سنرحل مبكراً الليلة .....
كانت أبنتها معها في المقهى ، وهو يعزف لها وسارة تغني معه ويعلمها كيف تعزف على جيتاره ويحملها ويلعب معها
خرجا سوياً كان الليل اقترب من أنتصافه ، القمر بدراً لكن السُحب الخريفيه تُحكم قبضتها عليه فخنقته ،،،،
دندنت بعض أغانيه التي ألفها بنفسه ، فنظر لها بحنو : صوتك جميل ، سأكتب بعض الأغاني كي تغنيها أنتي ... فضحكت وقالت : انا فقط أحب أغني معك واغني لأبنتي وانا احممها او اساعدها على النوم ، انت تمزح من قال ان صوتي جميل .....
وقفا أمام بيت أختها وودعته وقالت : لأ استطيع ان ادعوك الوقت متأخراً ،،،
ودعها وقام بتقبيل سارة ثم تهرول للبيت وتلوح له ....
ظل واقفاً ينتظر صعودهما الى المنزل ثم أنصرف ، دفع علبة مياه غازيه بقدمه ثم أستكمل سيره ، يتسلل اليه بعض برودة الخريف ,,,,,,,,
يعيد تكرار الرسالة المسجلة على الهاتف ، ناظراً لسقف غرفته مستلقياً على سريره بجواره كوب قهوتة الفارغ وصحيفة قديمة وكتاباً مقلوباً مُلقى على الأرض ،،،
ثم يرن هاتفه قاطعاً الرسالة المسجلة فيرد : انا بخير ، قّبلي سارة واخبريها اننا سنذهب معاً للملاهي ، تصبحي على خير .....

المشهد الثاني

نظر اليها لم يكن يتخيل ان هناك من يشبهها ، الأنف الصغير المدبب قليلاً والشعر الكستنائي القصير ، العيون العسلية ونظرتها الطفولية ، تسعى للحصول بسرعة على السندوتشات التي طلبتها ثم مشت بسرعة تنادي على بعض الصبية الذين يحملون الأساس من على سيارة نقل كبيرة وتزعق فيهم أن يتعاملوا مع الأساس بحرص ، ثم عادت للمطعم ووقفت تنتظر ....
قال لها : هل ستسكنين في شارعنا ؟ ... قالت وهي مضطربة تتابع الصبية : نعم اننا ننقل الأساس الان في هذا البيت ... أبتسم وقال : شارعنا هاديء سترتاحين مع الجيران فأغلبهم أناس طيبون قليلاً مايحدث مشاكل هنا ، انتي وعائلتك أم متزوجة ... تأخذ حقيبة الطعام من البائع وتقول : انا وعائلتي أبي وأمي واخي الصغير ....
تعود مسرعة ، فيناديها بصوتٍ عالٍ : سنتحدث مرة أخرى واهلا بكي في شارعنا .....
جلس على كرسيه في المقهى ، يداعب جيتاره ويظبط أوتاره ، كانت تنتظره فعندما رأته قالت : لماذا تأخرت قلقتني عليك ؟؟ ... رد عليها شاردا ذهنه : لا أبداً أستيقظت متأخراً ، ثم أستكمل مداعبة أوتار جيتاره .....
أنتهيا من العمل قبل انتصاف الليل ،  تضع يديها في جيب معطفها ملتمسة الدفء بعد ما أحست ببرودة أطرافها ، قالت : لما أنت صامت منذ أن خرجنا ، أيوجد ما يشغلك ؟؟ ... قال وهو ناظراً لخطوات قدميه والحصى الذي يتحطم اسفل حذائه : لا يوجد شيء لا تشغلين بالك ... ضحكت وقالت : مالك كالعجوز الهَرِم ... أحس انك تجاوزت الخمسين .... فضحك وقال : نعم وقد اكون احتضر بسبب تقدمي في السن .....
ظل واقفاً أسفل شرفتها ينتظرها أن تطل عليه ، لكن شرفتها مغلقة يتسلل من خلفها الضوء وخيالها الذي يتحرك كل حين ....
صعد الى بيته يسمع رسالته المسجلة على الهاتف تكرر نفسها الى أن ينام ......
يقابلها في الصباح تقف مع أخوها الصغير الذي ينطلق بدراجته ، يُلقي عليها السلام ، ثم يسألها وهو يدعك كفيه ببعضهما بسبب البرودة : هااا ما رأيك في سكنك الجديد هل أرتحتي في شارعنا ؟؟ ... ترد عليه وهي تتمشى بجواره : الشارع هاديء حقيقة مازلت لم اعتاد على البيت لكن الشارع اهدأ من شارعنا القديم ... تنظر الى جيتاره المُعلق على كتفه وتسأله : أتعزف الجتيار وتجيد عزفه ؟؟ ... يبتسم : قليلاً ، تحبي أُسمعك بعض الحاني ؟؟ ... توقفت عن السير لبرهة ثم تقول : اكيد ... انا اعشق الجيتار ياريت فعلا أسمع عزفك والحانك .....
جلسا في الحديقة المجاورة لكنيسة البازليك القديمة ، وأخيها الصغير يلعب بدراجته حولهما ، بدأ عزف الحانه وغنائه ، يرى فيها كل ملامحها ونظرتها التي افتقدها منذ ثلاث سنوات ، لم يكن ليعزف هو لكن هي من تحرك بأناملها اوتار قلبه فيخرج ذلك اللحن عذباً ....
تسأله وهو يشرب الماء كي يستكمل عزفه : مؤكد يوجد لديك حبيبة تتغنى بها وتعزف الحانك لها ؟؟ .... وضع الزجاجة بجانبه ونظر لجيتاره : كان لي حبيبة وماتت في حادث سيارة ، لا أريد أن أتحدث عنها .... ظهر الخجل على وجهها : اسفة لم أكن اقصد أن أضايقك ، حبيبي قد اعتبرته ميتاً يخونوني كثيراً مع كثير من الفتيات ، لكنه يصّر انه يحبني ، أهله رفضوا زواجه بي لانه يصرون على زواجه من أبنة عمه ، لم يتصل بي منذ فترة طويلة ففهمت أنه تزوجها ، اعتبرته ميتاً بالنسبة لي رغم أني اشتاق اليه كثيراً ولا يُفارق عقلي ، ها أتستكمل عزفك أم نرحل يجب أن لا أتاخر عن أبي وأمي ؟؟ .... يتنهد ويقول : أمازلتي تحبينه ؟؟ ... تّهم واقفة : أحاول أنساه ، لا أدري ربما أحبه وربما لا ........
أجراس الكنيسة القديمة تُعلن عن قداس المساء ، يعودا سوياً والفتى الصغير أمامهما بدراجته ، قطرات صغيرة من المطر تُعلن عن غيث قادم من السماء ، ربما تكون أكثر غزارة في المساء .....
يقف في شرفته ، ويأتي من الغرفة صوت الرسالة المسجلة على الهاتف تتكرر وتعاود من جديد كلما أنتهت ، ينتظر حتى ينطفيء ضوء غرفتها من خلف الشرفة ثم يضع يده خارج الشرفة يستقبل بها قطرات المطر الثقيلة .....

المشهد الثالث

الشتاء قد أتى مبكراً والمقهى تقل زبائنه مع تأخر الليل ، مع أقتراب العاشرة مساءً ، يُخرجان سوياً ، تمر سيارة مسرعة بجوارها يندفع ماء المطر على الطريق ، فيشدها اليه خوفاً عليها من السيارات المسرعة ويجعلها بعيداً ....
تُمسك ذراعه وتقول : تعلم !! لا أستطيع الان ان يمر يوماً علّي بدون أن أراك ، أعرف أنك قد لا تحس بي ، لكن صدقني انا اجتهد كي يصلك أحساسي وافهمك واجعلك تفهمني ، احاول جاهدة أن اكون امراة ناضجة لاجلك أحيانا أخاف من عقلك واخشى مابداخلك لانك لا تتحدث كثيراً ، أحبك واسعى لأرضائك  ، لم أكن أحب زوجي بقدر حبي لك الان ، منذ أن مات وانا عاهدت نفسي وأبنتي ان لا أكون لاحد سوى لها ، لكن وجدت سارة تحبك كثيراً ومتعلقة بك فهذا شجعني أن افيض ما بقلبي  اليك ، قد تخشى تحمل مسؤلية أنسانة وأبنتها الصغيرة ؟؟
لا أريدك أن تتكلم الان ، يسعدني فقط أن تكون بقربي وأكون بقربك .... يمسك يديها ويضمها بقوة ، ويستكملا سيرهما ويقول : أنا أنسان قد اكون مُحطم أمامك ، لا يدري ولا يعلم مايريد ، يعيش على ذكريات وأطلال قصور رملية صنعها طفل على شاطيء البحر أي موجة تهدمها ، أنا لا أستحقك ولا أستحق قلبك هذا ... تضم كفها الصغير على كفيه وعند وصولها الى البيت ، تُخرج من حقيبتها شال من الصوف رمادي اللون ، تحاوط به رقبته وتقول : الجو أصبح بارداً والشتاء قارص صنعته بيدي لأجلك ، لا تنزعه عنك أبداً .... ثم صعدت مسرعة الى بيتها وهو ظل ينتظرها حتى طلت عليه من نافذتها هي وأبنتها ، أحكم الشال حول رقبته وتمشى الى بيته ،،،،،
أحبها ، لم يكن يدري أكان يحبها هي أم يحب فيها صورتها ، لكنه أحبها ظل يحادث نفسه وهو يقف ينظر الى شرفتها وخيالها يتحرك جيئةً وذهاباً ، الى أن أطفأت ضوء غرفتها .....
أنتظرها قبل الغروب أسفل شرفتها ،مُجهزاً له بعض أسطوانات الأغاني كي يهديها اليها ، كان قد أتصل على هاتفها كي يقابلها ، فأكدت أنها ستلقاه بعد قليل ، تمشيا سوياً ، قال لها : أريد أن أخبرك بشيء  .... أبتسمت وقالت : وانا أود أن أخبرك بشيء مهم ...
ضحك وقال : اذن قولي أنتي ألان ... قالت وهي منتشية وفرحة : لقد أتصل بي حبيبي أخيراً ، وأخبرني أنه رفض الأرتباط بأبنة عمه وتعارك مع أهله بسببي وهددهم بترك البيت ، الى أن وافقوا أخيراً على زواجنا ، سيأتي قريبا وهو وأهله كي يخطبوني  .... هااا ماذا تريد أن تخبرني ؟؟ .... وقف قليلاً ليسترد أنفاسه ثم قال : لا شيء كنت أود فقط أن اعطيكي بعض أسطوانات الموسيقي والأغاني التي تحبينها ... نظرت اليها وقالت : ااااه بجد أنت صديق جميل أنه يحب تلك الأغاني جدا ، اشكرك جداا جداا .....

المشهد الأخير

المطر يهطل بغزارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر والسيارات تمر  مسرعة بجواره ، تتسارع أنفاسه وتضطرب دقات قلبه مرة أخرى ،،،
يقف مواجهاً للنهر وقطرات المطر ترتطم برأسه بقوة ،،،،
ينزع عنه شاله الصوف ، فيسقط على الأرض ويبتل من المطر ويتسخ بالتراب ،،،،
يضع جيتاره مركوناً على سور الجسر ، يتطاير الشال ويتلصق بأحد أعمدة الجسر التي بجواره يظل يتطاير الشال مشتبكاً به يريد أن ينفك ,,,,
ينظر الى صفحة النهر التي تستقبل قطرات المطر في هدوء ورضا ،،،،
ينظر لهاتفه ويسمع الرسالة المسجلة التي تتكرر بأستمرار : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
يمسك الهاتف ويتركه يسقط من يديه ، فيغوص الهاتف في النهر تأخذه قطرات المطر بعيداً ،،،
 ينظر الى الشال ويظل واقفاً أسفل المطر ،،،،
كاد الشال أن ينفك فيلحقه قبل أن يسقط في النهر ،،،،،
يُعلق جيتاره على كتفه ويستكمل سيره مرة أخرى ,,,,,,,,,

الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

المراكب الورقية

طوي الجريدة متململاً ووضعها على الطاولة ، لم تأتيه القهوة التي طلبها ، كان يمني نفسه بأحتساء قهوته وقراءة الجريدة متدثراً بدفء الشمس التي ظلت غائبة ثلاثة أيام ، الحركة على الميناء نشطة هذا الصباح ، وفي انتظار سفينة سياحية قادمة من ايطاليا لترسو أمام الرصيف ، قد تغيب الشمس في بورسعيد لأيام لكنها تعود دوماً دافئة ,,,,,
تمشى قليلاً على الرصيف قابض على عكازه بحزم يقاوم تداعي السنين على ظهره ، انتصب ووقف منتظراً كعادته منذ ثلاثة وعشرين عام ، يتّلفت عليها يبحث بين الزحام والقادمين من تلك السفن الراسية على الميناء ، ثلاثة وعشرون عاماً ومازال متأكداً انه سيعرفها ولا يتوه عنها ، يمعن نظره الضعيف من خلف نظارته القديمة في وجوه المارة فلا يشفع له انتظاره وجه من ينتظرها ويتلهف شوقاً اليها ,,,,,
يعود الى كرسيه ويجلس متكئاً على عكازه ، يرى من بين عجلة الزمن التي دارت بهِ ، ذلك الشاب الذي عمل مرشداً في هيئة قناة السويس ، كانت الحرب الأولى على بورسعيد قد انتهت وفُتح باب القبول للمصرين  للعمل كمرشدين للسفن على طول خط القناة ،،،،
يمشي زهواً بنفسه ينظر حوله للسفن كأنها مراكب ورقية يلهو بها في بحار خياله الممتده اللا حدود ونهاية لها .....
مستغلاً تلك العيون الشرقية وملابس البحرية التي ترنو في عقول الفتيات كالرقائق الذهبية البراقة ، يواعد مُحظياته  بشقته في وسط شارع الجمهورية بحي الفرنج ، شقة صغيرة ذات شرفة خشبية مُطله على الشارع الرئيسي يتدلى منها الياسمين واللبلاب ،،،،
لم يكن في تلك الليلة الصيفية البورسعيدية الصافية اشد شوقاً وحُرقة للفتاة الصقلية التي ظل يطاردها ليومين في الشوارع من الميناء لحي الفرنج للطور ، سُحر بعيونها الصقلية وشعرها الأسود كذيل حصانٌ اندلسي جامح لم يستطع فارس مهما بلغت جسارته من السيطرة عليه , لم تلتفت اليه لكنها فقط أبتسامة جعلته يذوب كقطعة جليد التهمتها أشعة شمس صيفية قاسية الوطأة ،،،،
نزع يد الفتاة التي كانت تعانقه ، أحجم بوجهه عنها فأنقطع طريق شفاها الى شفتيه ، ارتدى قميصه وفر مسرعاً ,,,,
لم يتحمل ان ينظر لعيني فتاة او يمتزج عشقاً بغير ماريا الصقلية .....
وجدها عند الميناء قبل ان تغادر سفينتها متجهه للبحر ، وقف أمامها كطفل تائهاً وجد أمه أخيراً بعد ماضاع منها في الزحام ، استسلمت لضعفه فتركت كفها الصغير يلتحم بيديه ، فأخذها وانطلق بعيداً الي البحر ....
نادي بصوت واهن ويُجاهد حتى يسمعه صبى المقهى حتى يدفع له الحساب ، أخذ جريدته وأستند على عكازه ، واتخذ سيره المعتاد الى شقته القديمة بوسط شارع الجمهورية في حي الفرنج القديم ، يتخبطه الماره ويكاد يسقط لكنه يستجير بعكازه فيستند عليه ، يقف كثيراً على الرصيف منتظراً مرور السيارات الفارهة الكبيرة بأصوات الأغاني الصاخبة التي تنطلق منها ، وبعد وقت يعبر الشارع ،،،،
يُخرج مفتاحه القديم من جيبه بيد مرتعشة ثم يفتح الباب ، صوت  الراديو يخبره في إذاعة صوت العرب بأن الساعة الرابعة ، هرول اليه القط يتمسح في بنطاله مستعطفاً أياه أن يضع له بعض الحليب وقطعة الجبن وجبة غدائه ،،،،
يجلس في شرفته على كُرسيه الخيزران بجوار شجيرة الياسمين ، أمامه ذلك الكُرسي المهجور منذ ثلاثةً وعشرون عاماً ، والقط بعد أن شبع مستلقياً في الظل باسطً ذراعيه في ثُباتٍ عميق ,,,,,
تأخذه سِنة من النوم فيجد نفسه معها من جديد ........ تجلس أمامه تقرأ في الجريدة عن التوتر بين مصر واسرائيل واحتمال نشوب الحرب في الشرق الأوسط ,,,
تنظر له بحذر ثم تُخفض عينيها خجلاً .....
بدأت الجاليات الفرنسية واليونانية والأيطالية في المغادرة مع السفن المُبحرة الى الضفة الأخرى من المتوسط ، لم يكن ليظن أنها سوف تغادر وتتركه وحيداً ، أيقن أنها أرتبطت بهِ بُرباط مُقدس لا ينفك الى النهاية ....
عاد الى منزله في الظهيرة ، كانت سماء بورسعيد مُلبدة بغيوم اكتوبر الخريفية ، أنغام الجرامافون مازالت تشدوا ، والشرفة مفتوحة ... لكنه وجد الدولاب مفتوحاً فارغاً ، وخطاب صغير على الطاولة المستديرة ،،،،
أعذرني لم أجد حلاً سوى العودة الي صقلية  ، سأعود يوماً فأنتظرني ، احبك ........
عصر الخطاب الصغير بين يديه وأنطلق مسرعاً الي الميناء ، يركض مسرعاً يتجاوز الزحام ، تتخبطه أكتاف المسافرين وحقائبهم الثقيلة ، وينظر ويتّلفت في كل أتجاه ، لكن صوت السفينة يصرخ من بعيد يخبره أنها قد غادرت .......
صدى الأنفجارات وازيز الطائرات مازال يتردد في أذنيه لم يغادره ، مواكب المهاجرين والبيوت المهدّمة أمام عينيه ، لم يهاجر ولم يترك بورسعيد لكنه ظل ملتصقاً بها كما كان في الحرب الأولى عام ستة وخمسين ......
لم يستطع هذا الصباح ان يُخرج ويتمشى الى الميناء ، عصاهُ جسده ولم يسعفه عكازه ، الراديو على الكوميدينو بجوار الصغير يشدو بأنغام عبد الحليم ، والقط السمين يجلس في هدوء بجوار السرير .......
أصبحت سيدة عجوز تحتفظ ببقايا جمالٍ قديم ، بريق عينيها لم ينطفئ بعد ، لم تنسى شوارع بورسعيد ولا حي الفرنج حتى بعد ماختفى الكثير من ملامح تلك المدينة الجالسة على طرف البحر ، عادت مع أبنتها في ذلك اليوم ،،،،،
أخرجت المفتاح القديم ، فوجدت الشرفة المُطلة على شارع كما هي مفتوحة على مصرعيها ، يأتيها صوت الراديو من غرفة النوم ، فتدخل عليه ، في ثُباته الأبدي العميق ، والقط  جالس في هدوء عند قدميه ,,,,,,,,,




السبت، 18 أغسطس 2012

رسائل الخريف

لم تعد قادرة على تحمل تلك الليلة الظلماء ، رياح الخريف القوية  قطعت الكابل الكهربائي المغذي للبيت الريفي الكبير ، لم تكن ليالي نوفمبر بتلك الوحشة قبل سنوات ، أم هو السقوط في ذلك الفراغ اللامتناهي الذي انحدرت اليه منذ اواخر الصيف .....
لقد تأخروا كثيرا هذا المساء ، زهدت تلك الزيارات العائلية المملة ، مَلت ان تكون فريسة النفاق المجتعي الذي يفرضه منطقهم وطقوسهم الممتدة في التاريخ كجذور شجرة الكستناء العجوز التي تحرس بوابة البيت .....
نباح الكلب لا ينقطع كأنه ينادي في الظلمات مافقده او مايبحث عنه يصمت قليلاً ثم ينبح من جديد مستكملاً رحلة بحثه الليلية ....
أمسكت المصباح الكهربائي وانتقلت من غرفتها تعس في هذا الظلام ، حافية القدمين فأصابتها قشعريرة باردة تتسلل من قدميها فحركت أصابعها تلتمس الدفء من فركها ببعضها ....
توقفت أمام غرفة عمتها الراحلة ، ينبعث من خلف ذلك الباب عطر معتّق لم تشمه من قبل ، ماتعلمه ان الغرفة يتم تنظيفها كل حين لكن لا أحد يسكنها ومتعلقاتها كما هي , لا أحد يأبه بألاموات كما لم يعد أحد يأبه بالأحياء ، يمرون من أمامها ولا يلتفتون وينظفوها ولا يتذكرون ......
وضعت يدها على مقبض الباب فأحست بالدفء والتعرق عليه ، طاوعها في هدوء وأنصياع بدون زمجرة ففتحته ، فأنقض نور المصباح على واجهة الغرفة ، الجرامافون القديم بجواره الاسطوانات ذات الغلاف الكرتوني ألاحمر وشمعدان فضي ضمرت شموعه في حزن فتكاد يطل خيطها من الشمعدان .....
وجهت المصباح فإذا بالسرير البلجيكي المذهب تدلي ستائره من قوائمه كأنه يحمي حوريته من العيون ، في المقابل يسقط نور المصباح على ذلك المكتب الصغير تنبعث منه رائحة خشب الأبنوس القديم ، بهتت ملامح نقوشه وزخرفته في مواجهته الحتمية مع الزمن ....
رياح نوفمبر الغاضبة لا تتوقف تُحرك الستائر متسللة من خلف الشباك العملاق تجاهد لتقتحمه فلا تستطيع ان تنتصر طوال تلك السنين ,,,,,
عطور العنبر والياسمين تحاوطها وظلت تتلفت حولها بعد أن هبت نسمات باردة حركت قميصها الحريري ، فأحكمت قميصها حول صدرها وقربت المصباح من الأسطوانات المركونة بجوار الجرامافون ، عبد الوهاب لا مش انا الأبكي ، أسمهان ياحبيبي تعالى الحقني شوف الجرالي ، أم كلثوم مادام تحب بتنكر ليه ,,,,
قربت المصباح من الحائط  لتري الصور المعلقة عليه ، فتاة طويلة ، عيناها الواسعتين وشعرها القصير الممتد لكتفيها ، الوشاح الأبيض يغطى نصف شعرها كخمار يزيدها سحرا وجاذبية ، تحمل قطة ساكنة في اطمئنان وهدوء ,,,,
يتحرك نور المصباح فتلك لوحة ريفية لفنان مجهول ، فتاة ترعى الأغنام بجوار ساقية الماء ,,,
جلست على الكرسي الزان أمام المكتب واضعة المصباح على يسارها ...
كان درجي المكتب فارغين فلما فتحت احداهما بقوة سمعت صوت جلجلة مفتاح صغير ،بحثت بكفيها عنها فوجدته كما هو لما ينتابه الصدأ ، فتحت به درج المكتب الأوسط فأحست بثقله وهي تجره ناحيتها ،،،،
البوم صور ، وحافظة رسائل جلدية ، ووشاح أبيض ، وورقة صفراء من جريدة قديمة ,,,,
ازاحت التراب من على حافظة الرسائل ، كانت الرسائل صفراء لكنها تحتفظ ببعض من رائحتها الوردية  ....
مازال الكلب ينبح ولا ينفك عن المناداه ، الصوت يحمله الريح فيزداد ثم يبعده فكأنه صمت للقائه بمن يناديه ,,,
قرّبت المصباح من الرسالة التي بدأت بها ، ديسمبر الف وتسعمائة وخمسة وستين : اقترب العيد وانا جالسة وحيدة أنتظرك لم أعد أبالي بما يدور حولي في الكون فأنت الكون الذي ادور أنا حوله واسبح فيه عشقاً الى ان اغرق فيه فلا شيء ينقذني سوى رؤية عيناك ، قد وعدتني أنك ستأتي ، لم أعد أحتمل ضياعي عن نفسي الا تعود فتأتي بروحي الي فأصبح جسداً تسكنه الروح بعد ماذاق الخواء ,,,,,
دقات قلبها تتسارع ، ويديها ترتعشان فطوت الرسالة وتناولت رسالة أخرى ، يناير الف وتسعمائة وستة وستين : كقطتي أجلس في شرفتي أنظر الى ذلك الطريق ، اظل مشدوهة الجوارح كالممسوسة ، أقسم أبي الا يزوجني لك ، وأقسمت الا أكون لسواك ، رفضت أي رجلٌ يتقدم لخطبتي ،،،
 في الصباح قالت أمي أنها ستأتي بشيخ كي يرقيني ويبطل السحر الذي تسلط علي ، وانا سحري ربما اكثر تعقيداً من سحرة فرعون ، انت السحر الذي مسني فهل لي من نجاة ,,,,,,
تغرورق عيناها بالدموع فتمسحها بكفيها ، وصفير الريح يزداد يحمل معه نباح الكلب الشريد ....
ربيع الف وتسعمائة وستة وستين : بالأمس كان عُرس أخي الأكبر ، لقد تخمرت بالوشاح الأبيض الذي اهديتني أياه ، لقد صم أذناي عن صوت الأغاني والأهازيج والأحتفالات الا من صوت ضحكاتك معي ، لقد عُميت عيناي عن الأضواء الباهرة والراقصات والمطربين الا من رؤيتك ، أعلم أنك بعيداً الان بعد أن التحقت بالجيش ،،،،،
لقد بدأ ينفد المصباح وأصاب نوره الخفوت ، فطوت الرسالة وبدأت في رسالة أخرى : خريف الف وتسعمائة وسبع وستون : لا أدري لمن أكتب بعد أن رحلت ، اليوم الذي قُتلت فيه في الحرب ، نُزع قلبي من أحشائي وأنطلقت روحي عني ، لم أدري ماذا حدث عندما علمت بمقتلك سقطت ، وفتحت عيناي  وجدتني هنا ، سرير أبيض في غرفة وحيدة ، وجوه تأتي لتراني لا أتذكرهم ، ممرضة تعطيني الدواء وتخرج ، سيدة تبكي بجواري يقولون أنها أمي ، لم أعد أرى كما كنت فنظري أصبح ضعيفاً ، قال لي الطبيب وانا لا أبالي ، الحزن أضعف بصري ،أنتظرني  سألتقي بك في القريب ،،،،،
بدأت ريح الخريف القوية تجتاح الشباك فأرتج بقوة كأنه بدأ في الاستسلام ،، سقطت دموعها على الرسائل فزادتها ملوحة جعلت رائحتها الوردية أكثر غرابة ،،،،
شتاء الف وتسعمائة وثمانية وستون ، الخط الذي كُتبت به الرسالة ليس بخط الرسائل الأخرى : أبت عيناي على الرؤية بعدك فبدأ النور ينسحب منها مهاجرا الى حيث انت ، وحيث انت تهفو روحي فمتى اللقاء ؟؟؟؟
اندفع الشباك فأجتاحت الريح الستائر فتطايرت الرسائل في انحاء الغرفة ، ذهب خفوت المصباح فأنطفأ  ،،،
أمسكت بالورقة المقطوعة من الجريدة وقربتها من نور المصباح الخافت ، نعي صغير يحمل أسمها ومواساة جميع أفراد الأسرة ،،  خريف الف وتسعمائة وثمانية وستين ,,,,,,,

الاثنين، 6 أغسطس 2012

الرؤيا




أتى الشتاء مبكراً هذا العالم ، لم يكن المطر ليهطل هكذا قبل منتصف نوفمبر  ، رياح شتوية باردة يعقبها سُحب سوداء تتزاحم وتتلاحم سوياً لتُخفي قرص الشمس الذي يحاول هارباً لكنه لا يستطيع ....
لم يتوقف المطر الى المساء ، ولم يرن الهاتف منذ شهور ....
ظلت تنتظر أتصاله بها منذ أواخر الربيع ، عندما لا يأتي الى المدينة كان يتصل بها ، توقف هذا الهاتف عن الرنين منذ أخر أتصال ....
قطرات المطر قد صنعت على زجاج النافذة تلك الخطوط التي امتزجت بالبخار ، وقفت خلف النافذة متلفحة بشالها الأحمر لتقاوم به برودة جسمها فأنساب شعرها الأسود الفاحم من بين شالها الأحمر  ....
مسحت بطرفي الشال زجاج نافذتها فإذا به يطل بوجه مبتسماً بين خطوط المطر ، هكذا يوفي بوعده معها عندما تشتاق أليه ويغيب عنها تبحث عنه من خلف النافذة بين قطرات المطر وضباب الشتاء ,,,,,,
ثلاثة أعوام مضت على لقائهما الأول ، بالقرب من الجسر القديم الذي يربط ضفتي النهر ، أسفل شجرة الكافور الكبيرة جلسا سوياً على الأريكة الخشبية ، تائهاً وغريباً في تلك المدينة فألتمس منها السؤال فأجابته ،،،،
ظلا يتقابلا هنا في نفس المكان عند الجسر القديم كلما جاء الى مدينتها ....
كرؤية النائم رأته قبل أن تلقاه وظلت تراه كرؤية بعيدة تأتيها كل حين ...
كان النوم قد أغمض عينيها المبصرة ألا أنها قد فتحت من قلبها عيناً صافية ، روحٌ تطل من تلك النافذة الشتوية قادم اليها من عالم النور ، فأين قلبها وعقلها الذي غاص في أعماق ذلك العالم ، فأصبحت أسيرة لرؤية حبها ، فأي رؤيا سرقتها من عالمها تلك التي ضاعت فيها وأصبحت في عالم أخر لا حدود له ........
نظرت لوجهه المطل خلف زجاج نافذتها يحتضنها شالها الأحمر ، من أسلمت له عقلها وراحتها وتبعثرت أيامها مابين الشوق والقلق ، منحها الحزن عندما غاب دون أن يزيله عنها وسلب قلبها دون أن يأتي لها بالعوض ......
لم تطيق الأنتظار فذهبت الى بلدته المطلة على البحر ، ترك لها عنوانه فظلت تبحث عنه الى أن وصلت اليه ،،،،،
أم عجوز وأبنتها الوحيدة سيدة تجاوزت الأربعين عاماً كانا في أنتظارها , ذلك البيت الذي وصفه لها بشرفته المطلة على البحر وجهاز الراديو القديم والمكتبة الكبيرة ، دخلت غرفته ، رائحة الخشب القديمة ممزوجة برائحة ملح البحر بجوار السرير صورة له بالأبيض والأسود كأنها التقطت له من ثلاثين عاماً ......
أنه هو الذي بالصورة هو من يأتيها ويجلس معها عند الجسر القديم ، نفس الوجه الذي يطلع عليها من خلف النافذة ، نفس الرائحة التي تجتاح صدرها عندما تحس بطيفه يحاوطها .....
ذهبت مع أمها وأخته فتراكها تدخل وحيدة !!
ظلت تبكي ووقفت أمام شاهد القبر تسمع صوت النورس والكروان الذي دائماً تسمعه عندما يحاكيها في الهاتف ,,,,,
شاهد القبر يحمل أسمه وتاريخ وفاته في أحدى ليالي الصيف منذ ثلاثين عاماً ,,,,,
شتاء يعقبه شتاء متأخراً كان أم مبكراً ، لم يتوقف المطر في أحد تلك الليالي ولم يرن أبدا ذلك الهاتف ...
تقف أمام نافذتها تنتظر وجهه مبتسماً يأتيها من بين قطرات المطر وخطوطه التي تنساب على زجاج النافذة ، رؤيتها السرمدية التي لا تنتهي ,,,,,,,

السبت، 28 يوليو 2012

أرواح هائمة


لم تكن الشمس قد وصلت للشفق بعد ، مازالت تتابع سيرها الخجل الحثيث في السماء نحو شفقها الأرجواني ، تُلقي على الكون وشاحها الأحمر الدامي فتجعله كالعذراء التي تستحي من نظرات المعجبين ،،،
يتسلل ضوء الشمس الخجل من مشربية القصر العتيق فيصنع خيالاً يكّحل تلك العيون الزرقاء الصغيرة فتنسدل عليها خصلة شعرها كستار أسود حريرياً يحميها فترفعه برقة ثم تتأمل أبيها الجالس واضعاً يديه على ركبتيه المثنيتين يتأمل اولئك المنشدين داخل الصحن الدائري للقصر العتيق ،،،،،
يذكرون الله ثم تتصاعد دقات الدفوف كأنها تسبح مع أمواجٍ هادئة تأتي من خلف البحور البعيدة ، بل من خلف تلك الأفاق الكونية اللاحدود لها ....
تتمشى في صحن القصر العتيق بالقرب من أولئك المنشدين تصور بكاميراتها جوانب وزخارف القصر ، تلك الخُشيشة المملوكية ، عواميد الرخام ، العرائس التي تُزين تلك العواميد ، والزجاج الملون الذي يظلله الضوء فيصنع أطياف من الألوان السبعة ،،،
كلما تحركت ينساب من ضفيرة شعرها ذلك المنديل الأخضر الطويل يجعلها كفرس يستريح على شواطيء الأندلس ......
يتابعها بنظريه بينما تتسلل روحه الهائمة عبر أذنيه ، يتوسط الصحن الدائري ذلك الرجل ذو القبعة الحمراء الطويلة يدور ويدور كروح تسبح في ذلك الملكوت الفسيح ،،،،
تتهادي دقات الدفوف وينشد أخر ، تنظر الفتاه الصغيرة الي أبيها بعد أن لمعت عيناها الزرقاوين كسماء صيفيه تحنوا على ذلك البحر الهاديء أمواجه ، فيرفع رأسه من على المشربية فيبتسم لها ثم يترجم كلمات الرجل الهائم لأبنته الصماء زرقاء العينين ....
 ما أسعد ذلك القلب الذي يسكنه العشق ،، فيلهيه عن أمور دُنياه ...
ويتوهج فيه برقٌ مُضيء ،، يحرق متاع العقل والصبر ،، لا تبقى به أحزان ويصبح جبل الشقاء كقطرات المياه ،، تتعود تلك الروح على العشق ،، فيزداد ذلك القلب شوقا الى رؤياه ...
تسير أشعة الشمس فترتفع قليلاً فيمتزج ضوئها مع ألوان الطيف المتسلسلة من الزجاج الملون فيزداد وجه الفتاة الصغيرة توهجاً ولمعاناً .....
تمشيت قليلاً  بجوار الراقص الذي يدور ويدور بتنورته فكأنها أصيبت بشيء من تلك الروح السابحة فتطاير المنديل الأخضر الطويل المربوط في ضفيرة شعرها ، فجلست ساندة ظهرها الى العمود المرمر واضعة كاميرتها بجوارها .....
تتهادى دقات الدفوف وبدأ الأنشاد يصّعد للسماء ، فهبطت دمعة رقيقه على وجنتيه قد تذكر زوجته الراحلة ثم حرك شفتيه ويديه وانامله لينشد لفتاته الصغيرة الصماء زرقاء العيون :
إن القلب الخالي من العشق ماهو بقلب ،، والجسد الذي لا يؤرقه القلب ماهو الا جماد ... فأنظر بقلبك من شرفتك الى مواجيد العشق ،، فلا خلا من احزان العشق قلب أنسان .... قد تتسابق الشمس القمر والقمر الشمس الا عشقاً ،، وبه تتهادى الأمواج الى شواطيء الأمان ....
سقطت الشمس في وشاح شفقها الأحمر الخجل وذهبت بعيداً بأشعتها خلف مسقط الغروب ، فأصبحت المشربية تنعم بحريتها من تلك الأشعة التي تتسلل عبرها ، فأقتربت الفتاة الصماء فأمسكت بأصابعها الرقيقة المشربية ولم تنظر لأبيها ، كانت تتابع بعينيها الزرقاوين ذلك الرجل الذي يدور ويدور أمامها كطيارة ورقية تأخذها دومات الريح الى السماء العالية ...
اجعل من نفسك أسيراً للعشق تصبح حراً ،، واملأ قلبك به فلا تكن مهموماً .. فجمال لله يتجلى في كل شيء جميلاً خلقه ،، فأعشق الله فيه وفي مخلوقاته .......
ظل يتلفت بنظريه عنها فلم يجدها ، كان منديلها الأخضر الطويل يتطاير بهدوء الى أن سكن وأرتاح أسفل المشربية ، شم عطره وظل يتمشى خلف العطر فلم يجدها ....
بينما تقف الفتاة الصغيرة زرقاء العينين متشبثة بأناملها الصغيرة بالمشربية ,,,,,,
 

الأحد، 15 يوليو 2012

أنتيجون



نعم انها شرفتها المهجورة ، رغم أن البيت مايزال تسكنه أسرتها ، وأختها الصغيرة كل حين تدخل الشرفة لتُسقى الياسمين والقرنفل ، ألا انها شرفة مهجورة ، وحياة مهجورة ....
صوت النحيب والبكاء لم يتوقف منذ الصباح ، وافراد عائلتها يتوافدون ، يقفن أمام عتبة البيت ينظرن لشرفتها ثم يبكين في تصنع ويضعن المناديل البيضاء يخفين جفاف عيونهن من الدموع ....
وحده يبكي عند قدميها غير عابيء بالتقاليد والطقوس والبشر جميعاً ....
أغمض عينيه في كفيها ، يستمد منه اخر ماتبقى من أمان وأمل ، ميلاده وحياته وموته بين حنايا كفيها ، أنعكاس وجهه ومشاعل عقله تستنير من وضع كفيها على جبينه ، ذكرياته كشريط سينما يتحرك ببطء بين حنايها ، مازال مغٌمض عينيه كُمصلي في محرابها يتلو تراتيله الأخيرة .......
ينتظرها قبل الغروب عن شجرة الكافور الكبيرة بجوار كنيسة السيدة العذراء القديمة ، يتهامسان وينظران الى احلامهما عبر الأفق البعيد ، خلف تلك العمارات القديمة وقصور مصر الجديدة الشامخة في قسوة متراصة كجنود تدفع تلك الأحلام بدروعها النحاسية اللامعة ، تراتيل حبهما تتمازج بالتراتيل والأناشيد الدينية التي تخرج من الجوقة متسللة عبر نوافذ الكنيسة العملاقة ،،،،،
يلمع في عينيهما برق كهرباء مترو النزهة  ، مقاطعاً احلامهما بضجيجه المعتاد ، يقفزان سوياً لعربة المترو المهتزة ، تجلس بجواره قابضة على يديه ، يظلا صامتين ينظران لمحلات الروكسي المتلألأة بفاتريناتها المضيئة ، يمران من أمام السينما فيتفقان سوياً على دخول الفيلم الجديد .......
تمر السنوات وهي مازالت قابضة على يديه ، يقاومان جنود الزمن بدروعة النحاسية اللامعة ، الى أن يطلبها للزواج فيرفض أبيها ,,,,,
يقاومان كما قاومت انتيجون ظلم الملك لها ومنعها من الزواج من ابنه فماتت وحيدة في حفرة في العراء ,,,,,,
في عشية اليوم السابق عادت مهزومة الى بيتها بعد أن ارغموها على الزواج من أبن خالها ، لم تكن تعرفه قد عاش طيلة حياته في الخارج ، عاد فقط  ليتزوجها فرفضت ،،،،
ظلت متمسكة بحبها القديم وقاومت مثل أنتيجون ، فكانت نهايتها الرحيل الى عالم أخر كأنتيجون .....
رفع رأسه من بين كفيها ، تطارده بقايا الذكريات في عينيها المغمضتين ، سئما من المقاومة وينتظران السير بطمأنينة وهدوء في ذلك العالم الأخر .....
كغاية الحياة والأمل الوحيد لهما هو أن يلتقيا في ذلك العالم الأخر ، يرفعهما كأكسير النشوة في النفوس ، يجعلهما يتابعان الطريق الى مابعد حدود هذا العالم ، عبر الظلام والضباب والحواجز والأبواب ، كضوء ممتد مخترق تلك الضباب والأفاق ،،،،
الى الشاطيء الخالد الذي يوفر هدوء الغروب وتغريدات طيور الخريف المهاجرة ،،،،
على أجنحة ملاك يحلق بهما فوق تلك القصور الشامخة القاسية ، انه طريق مفتوح الى افاق لا نهائية ,,,,,
أنها انتيجون رحلت عن شرفتها فأصبحت شرفتها مهجورة دائماً ,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي


الأربعاء، 11 يوليو 2012

ليلة مزدحمة


اعتادت دائماً أن يكون طريقها في الحواري والأزقة الضيقة بعيداً عن الشوارع الرئيسية حتى تصل الى الميدان الكبير الذي يوجد فيه المطعم الأيطالي الذي تعمل فيه نادلة ، يقع المطعم على يمين المكتبة ودور النشر الكبيرة ومواجهاً لدار السينما القديمة ....
نفس الخطوات الخجولة الخائفة تتخذ سبيلها بجوار الجدران ، أبتسامة الرضا لا تُفارق وجهها ، رغم هذا الشجار المتواصل في بيتها بين أمها وأبيها ، يتلاشى داخل عقلها أصوات السيارات والمارة ويتردد في جنبات عقلها صوت الشجار المتواصل ، الا أن الأبتسامة تظل تُخفي خلفها احزانها الممتدة لا تدري منذ متى ، ربما منذ طفولتها ، قد تكون الأبتسامة المرسومة بريشة حانية لا تعبر عن حقيقة ماتحتويه لوحة الأنسان من اسرار ، أحياناً يكون الوجه كصدفة بحرية صلبة جميلة كانت أم قبيحة لكنها لا تُكشف أبداً هما تحتويه داخلها ......
تصل الى المطعم ، الميدان دائم الزحام كعادته ، والمحلات تتجهز بالزينات استقبالاً للعيد ،  والعجوز بائع الجرائد أمام الفاترينه الزجاجية  يجلس على كرسيه الخشبي يحتسي الشاي ، وبعض المارة يقرئون عناوين الصحف وقوفاً أمامها ....
كان الصبي الصغير قد بدأ لتوه في تنظيف زجاج المطعم ، أبتسم عندما رأئها تقترب ، فألقت عليه التحية واضعة كفيها الرقيق فوق شعره المجعد ثم أسرعت للدخول ,,,,,
الكراسي مقلوبة على الطاولات وزميلاتها يضعن الزينة بطول المطعم وعرضه ، لا يتوقفن عن الثرثرة ويظل السؤال الدائم بينهن هل سيغادرن اليوم مبكراً بمناسبة العيد أم لا  ؟؟
دخلت الى غرفة تغير الملابس وارتدت ملابس المطعم المميزة باللون الأحمر والأسود ، اعتادت حتى مع تغير ملابسها ان ترتدي ثوب السعادة أمام الزبائن والكلام المُنمق أن تنزع عنها عباءة الحزن ، أن تطرد أصوات الألم مؤقتاً من عقلها حتى تعود اليها من جديد مع ارتداء ملابسها العادية مرة أخرى ....
مع أقتراب موعد الغداء يبدأ المطعم في الازدحام ، موظفون الشركات المنتشرة في الميدان يتوافدون على المطعم مع وقت الراحة الخاص بالغداء ، وتتسارع الحركة في المطبخ وفي المطعم من عمال ونادلات ،،،،
تتلفت عليه بلهفة وتنتظره بشوق ، يأتي بأنتظام وحيداً يطلب البيتزا الايطالية ويجلس يأكلها في الخارج في الحديقة الكبيرة التي تتوسط الميدان ، تظل تراقبه من خلف فاترينة المطعم ومن خلال الأعلانات الملونة التي تُزين الفاترينة العريضة ، ينظر لها بأبتسامته المشرقة ويتكلم معها قليلاً يطمأن على أحوالها ثم ينصرف سريعاً .....
لم يأتي في موعده هذا اليوم ، تختلف الوجوه وتتعالى الأصوات بطلبات الطعام ، وهي تقفز مُسرعة من طاولة الى طاولة ، يجب عليها ان تكون حريصة سريعة مبتسمة دائماً ...
يزداد الميدان ازدحاماً ، واشارة المرور القريبة من الميدان متوقفه بأستمرار عند الأشارة الحمراء فتتوقف السيارات ، يتعالى منها أصوات اجهزة التسجيل بالأغاني الصاخبة ، والات التنبيه لا تتوقف أبداً ،،،،،
دخل الى المطعم ممسكاً بيديها يتحدث اليها ضاحكاً ، ثم توقف أمامها مبتسماً وطلب منها البيتزا المفضلة له ولفتاته ......
غابت تلك الأبتسامة عن وجهها عندما رأته مع فتاته الجميلة ، ضعفت حركتها السريعة المطلوبه منها دائما ، ثم غاب عنها حرصها فسقط من يديها أحد الأطباق فأصدر ضجة مفاجئة ، صمت الجميع لبرهة بحثاً عن الشيء المكسور ثم عاد الضجيج كما هو سريعاً ,,,,,
لم يأخذ البيتزا كما اعتاد ليأكلها في الحديقة التي تتوسط الميدان ، لكنه جلس مع فتاته على احد الطاولات بالقرب من عازف الجيتار الذي بدأ يعزف الحانة ,,,,
وضعت الأطباق على الطاولة ، فشكرها مبتسماً ثم قدم اليها فتاته على أنها خطيبته ، فألقت عليها التحية ثم أنصرفت لتلبي طلبات الزبائن ،،،،
مازال عازف الجيتار يعزف الحانه ،،،
دفع حساب البيتزا ثم أمسك بيد فتاته وأنصرف ، تتبعته بعينيها من خلف الفاترينة الزجاجية والملصقات الملونة المنتشرة على الفاترينة الى أن اختفى وتلاشى بين الزحام وضجيج الميدان ,,,,
غيرت ملابسها وارتديت عباءة همومها من جديد ، ثم غادرت مع زميلاتها ، كان زميلاتها يضحكن فرحاً بالعيد وهي على ابتسامتها الخجولة ، تركنها وانصرفن وهي وقفت وسط الزحام ،،،
أنطلقت من حولها الألعاب النارية أحتفالاً بالعيد ، وألات التنبيه لا تتوقف والموسيقى الصاخبة تنتشر في كل مكان ، كان الميدان يموج كبحر لجي يغشاه الزحام من يمينه ويساره ،،،،
لم تذهب كالمعتاد الى الأزقة والحواري الضيقة ، لكنها توقفت في الحديقة التي تتوسط الميدان وجلست على الأريكة الخشبية المقابلة لدار السينما القديمة ،،،،
تأخر عليها المساء وهي جالسة وحيدة ،يجلس بالقرب منها هذا العجوز الذي يجلس وحيداً كل ليلة الى أن يشرق الصباح ,,,,,
أقترب الفجر وأصبح الميدان خاوياً الا من بعض سيارات تمر مسرعة ، الدكاكين مغلقة وتطاير الزينات وأوراق الجرائد والقمامة في وسط الميدان ، بينما تجوب الميدان سيارة النظافة بالمصباح الأصفر الذي يدور فوقها ،،،،،
مع تكبيرات العيد وتلك النسمات الصباحية عادت الى بيتها ، لكن بعيداً عن الأزقة والحواري الضيقة ,,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو

الأربعاء، 4 يوليو 2012

رواية ناقصة

عاد وحيداً من غربته التي عاش بين طياتها قرابة الثلاثين عاماً كأستاذ للأدب الأنجليزي في انجلترا ، مئاله وعودته لمكتب أبيه القديم ، لم يتغير شيء صورة أبيه كما هي في واجهة المكتب ، رائحة خشب الأرو والبخور تسيطر على جنبات الغرفة ، الجرامافون القديم في الركن اليمين أسفل النافذة التي تغطيها الستائر ولم تنسدل عنها منذ طفولته ، المكتبة العتيقة عشش فيها التراب وطلائع من النمل تخطط للانقضاض عليها .....
نحت الزمن هو من غير الأشياء ، شعره الأبيض وامراض الشرايين ونظره الضعيف ، أمراضه التي هاجمته ماهي الا برزخ سيمر من خلاله من الحياة الى الموت ،،،،
تحرك بوهن ، كاد يسقط بعد ان اصتدمت رجله النحيله بالكرسي الهزاز الذي كان يجلس عليه عندما كان يقرأ بجوار أبيه ،،،
ازاح الستائر من على النافذة فأحس بتلك الرياح الباردة رياح يناير تتسلل عبر فتحات النافذة ، ففتحها فأندفعت الستائر لأعلى فتطايرت بعض الأوراق من على المكتب ،،،
نظر لحديقة البيت وتنفس تلك الرياح الشتوية الجافة ، نسمات شتوية باردة ربما تكون الأخيرة ، النسمات الأخيرة هي الامتع دائماً كأي شيء قد لا نلمسه او نراه ثانية .....
رواية وحيدة ناقصة لم يستكملها منذ أن رحل الى انجلترا مازالت بأوراقها الصفراء في غلاف جلدي مترهل موضوعه على المكتب القديم ، مازال القلم على نفس الصفحة التي توقف عندها ، جف الحبر من القلم كما جفت كلماته عن تلك الرواية ،،،،
ينظر الى حديقة المنزل على الأفق البعيد بالقرب من هنا
كان المطر حينها شديداً ،، والوحل  قد حاوط قدميها ،، تحاول ان تخطو مسرعة فلا تستطيع ،، تريد أن تجعل رحيلها سريعاً بدون أن تسمع أنفاسه ودقات قلبه واخيراً ندائه بأن تعود ،،،،
قد حسمت أختيارها بأن لا عودة اليه ، لا يستطيع أن يحقق  ماتريد ،،،،
ترفع قدميها من الوحل تريد أن تتركه وترحل سريعاً ،، طغى على أعماق قلبها صوته وهو يناديها ،، انتظري ....
توقف عقلها عن التفكير ،، وتباينت المشاعر داخل قلبها ،، أصبحت تجهل الطريق فلم تعد تشعر بشيء الا بالضياع والرغبة في الهروب ،،،،
أين تذهب ،، كانت لا تريد أن تسمع صوته أو ان ترى دموعه ،، لا تريد شيء يردعها عن قرارها بالرحيل ،،،
ترحل عن من ....
مازال صوته يتردد في جنبات الضباب اللامتناهي فيعود اليها صدى صوته محملاً على قطرات المطر ،، أنتظري ....
ليت المطر والفضاء يخنق ذلك الصوت ،،،
مضت تجر قدميها وتنازع الوحل العالق بها ،،،
من بين حنايا الضباب والظلمه سمعت أنفاسه لاهثه واقدامه مسرعه تلاحقها ،،،
احتضنها ،، فوضعت رأسها على كتفيه ،، وحنى بكفيه على شعرها المبلل بالمطر ،، لا تذهبي ،،،،
لم يسمح الضباب بأن يرى كل منهما دموع الأخر ،  بعدت يده عنها وقالت : سأرحل ،،،
لم تنظر خلفها واستكملت الرحيل ،،،،،
لم تعد تحتمل ذلك الحب الجنوني ، أيقنت بأنها لم تكن تلك البطلة الأسطورية في حكايا الجدة العجوز ، او فارسة أحلام تأتي من التاريخ والزمن البعيد ، او بطلة من روايات جين اوستن او شكسبير او الاخوات برونتي ،،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
لا تستطيع أن تحب طفل يلهو في أحضانها ، او تحب رجلٌ يجعلها تلميذة في محراب عقله ، سئمت ذلك الحب ،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
قال : انتظري لا تذهبي ،،،،
بدت كأنها كوميض يبتعد ، كضوء فنار ، يبحر بمركبه الصغير ويصارع الأمواج كي يصل اليها ، أذا بها تطفيء انوارها في وجهه ،،،،
كاد يسقط في وحل المطر ، كأنها أحدى سقطات المسيح السبع على طريق الألام ،،،،،
أبتعدت ، أصبحت كالطيف يترك بقايا ضوء فيخفت تدريجيا الي ان ينزوي فيصبح مجرد زكري يلتهمها النسيان ،،،،،
الرياح اشتدت عبر النافذة بدأت تطاير الصفحات الصفراء للرواية الناقصة ، كما تطايرت الأوراق من صفحات عمره كشجرة كستناء تطايرت اوراقها في خريف شديد القسوة .....
بالقرب من البحر وقفت من بعيد تنظر الى المقهى ،، كانت على الجانب الاخر من الشارع ،،،
كان المساء قد بدأ يرخى سدوله وحركة المارة بدأت تقل قليلاً ،،،
ضوء المقهى يتسلل عبر الستائر وهو دائما يجلس يحتسى قهوته  بجوار الشباك الزجاجي المطل على الشارع ،،،
يتنازعها الخوف والأمل ،، كلما مدت رجلها لتعبر الطريق تأتي سيارة مسرعه فتعيدها كأنها هاتف من الماضي يردعها أن تذهب اليه بعد أن هجرته ورحلت عنه ،، أمل في أن يصفح عنها بعد ماكان منها ،، وبين الخوف والأمل يسكن الضباب ،،،،
جلس على الكرسي الهزاز ، كرسي ذكرياته القديمه لم يعد يحتمل تلك الرياح الشتوية البارده ،،،،
تشتد الريح وتطاير صفحات الرواية الناقصة ، صفحة تلو الاخرى تطاير ...

عبرت الطريق بعد أن هدأ الشارع من مرور السيارات ، وقفت بجوار المقهى تنظر اليه وهو يحتسى قهوته وأمامه بعض أوراقه وقلمه الذي يحب أن يكتب به دوماً ،،،
دفعت باب المقهى بيديها وذهبت الي الطاولة التي يجلس عليها ،، ما أن وقعت عينيها عليه حتى خفق قلبها بشدة ،، لحظات مابين الرغبة في الصفح والغفران وبين الخوف من المجهول ،،،
انتظار الغفران فيعود طفلاً يلهو بين حناياها ، أو معلماً تعيش بين جنبات محرابه ،،،،
نظر اليها ، كأنها العدم لم يعد يراها ،،،،
لملم أوراقه وقال لها معذرة ,,,,
دفع حساب قهوته وانصرف ،،،
سقط القلم الذي جف حبره وتطايرت اوراق الرواية في جنبات الغرفة القديمة ، وهو مازال يهتز على كرسيه القديم ، والكرسي يُحدث نفس صوت الأنين كأنين السواقي الحزينه ، وهو الى ثٌبات عميق ,,,,,,,,,,,