السبت، 19 يناير 2013

الباب



لم تكن لتتحمل حتى ذلك الجلباب الفضفاض الذي تلبسه ، الحر شديد وأخذت تتصبب عرقاً ، ظلت تتمشى في غرفتها جيئة وذهاباً كما أمرتها الداية ، تسند ظهرها بيديها لعلها تساعدها في حمل بطنها الكبير الذي يحوي ذلك الكائن المنتظر ، والذي يترقب باب الخروج من الظلمات الثلاث والدخول الى العالم الصخب ....
صخب الأطفال يزداد خارج الغرفة ، ينتظرون بشغف وحيرة كائن صغير سيأتي بنائاً على وعد من الأم والخالة والجد ، يتسائلون فيما بينهم من أين سيأتي وكيف أصبح ومن هو ...
ترتفع حرارة الغرفة وتثاقلت أنفاسها كأنها تتصاعد في السماء ، بدأ تدق المطرقة السماوية في ظهرها تنبؤها بقرب الخلاص ، وكلما أقترب الخلاص أشتد الألم ....
بدأ يزداد ضجيج وحشرجة المروحة المُعلقة في السقف ، ساعة القيلولة تلك يتشبع جو غرفته بالرطوبة فيحس بالأختناق ، فيجلس أسفل المروحة المتهالكة على سجادة الصلاة التي يصلي عليها منذ ثلاثين عاماً عندما أتى بها من رحلته للحج ، يسكب الماء الرطب من قلة الماء على منديله الكبير ويرطب به صهد جسمه الحار ، ينصت بأذنه لأذان العصر القادم من مأذن الازهر والحسين وشارع المعز ، صوت الأحفاد المتجمعون في صحن البيت لا يجعله يميز مابين صوت الأذان والصخب المتصاعد من الحارة ، شجار في المقهى وبائع البطيخ يشدوا متباهياً ببطيخة الأكثر احمراراً وحكايات النسوة في الشرفات .....
ينظر لساعته المُعطلة دائماً يهزها بقوة ثم ييأس منها مرة أخرى ،،،،
دقات المطرقة السماوية في ظهرها تشتد وطئتها ، وجيوش الألم الغازية تجتاحها بأنتظام ، لم تعد تحتمل ، تصرخ بشدة فتزداد غزارة العرق على جبينها ،،،
على الوابور تستعر ناره أسفل  الحَلة النحاس الكبيرة ، مقبضها يلفه قطعة قماش مبتلة بالماء وتقف الأخت تنتظر ، بينما الأم ترسل أحد الفتية  في طلب الداية المسؤلة عن أخراج اطفال تلك العائلة الى الحياة ......
تتسلل الفتاة الصغيرة من بين زمرة الأطفال وتفتح باب الغرفة في خوف وتنظر للجد الجالس القرفصاء يستمع الى الراديو ، تتمشى في خجل الى أن التفت اليها ، تبّسم في وجهها وحملها بوهن بين كفيه وأجلسها على ركبتيه ، قبلها على وجنتيها فتأذت من وخذات شعر شاربه الأبيض ومن خشونة شفتيه فأبتعدت قليلاً ، فضمها الى صدره وأخرج من جيب عبائتة سبحته الخشبية ذات رائحة العنبر ، ووضعها بين كفيها الصغيرين ، ضمتها بقوة واخذت تقلد جدها كما يسبح عليها ويتداول حباتها بين أصابعه ، فتدور حبات السنين والزمن في ذاكرته فيعود الى ولادة أمها وخالتها وخالها ، وبقية الأطفال ، كيف لكل طفل وُلد في عائلته ان يتلقاه بين يديه ، تلك الصغيرة قرأ على جبينها المعوذتين ومقدمة سورة يس واذن في اذنيها الصغيرتين .....
يضحك لها وينهرها عن قطع مسبحته العزيزة لديه ، يرسلها الى جدتها ويخبرها أنه يريد كوباً من الشاي ، فتضع الصغيرة المسبحة على سجادة الصلاة وتركض الى جدتها ، مازالت المروحة المتهالكه منذ زمن تحشرج وتزمجر لكنها لا تستسلم .....
تأتي الداية العجوز مُسرعة وفي ذيلها الفتى الذي أُرسل في طلبها ، تدخل الى غرفة الأم الحُبلى التي تستغيث ، تمسك يديها وتطالبها بالنوم على ظهرها والصبر وتثرثر بكلام غير مفهوم عن ذكرياتها الغابرة في توليدها وتوليد اختها وبنات عمها .....
ينهش الوابور حلة الماء النحاس فيزداد فوران الماء فتحملها الأم الى الغرفة ، تصرخ في زمرة الأطفال كي يبتعدوا عن طريقها ، يتسللون خلفها ليروا الحدث المهيب والجلل الذي يدور في تلك الغرفة ....
تتعالى تكبيرات اذان العصر من مأذن المساجد ، فيتمتم بسُنن الأذان والدعاء ، يستند الى طرف سريره وينهض الى الصلاة بوهن وتعب ويبدأ صلاته  .....
الصراع يحتدم بين الداية العجوز والأم الحُبلى التي بدورها تصارع الألم وتتوق الى الخلاص ، تطالبها بالدفع بقوة ، لا تستطيع !! تمسك بيد أمها ... ، تذكرها الأم بالدعاء ... ، تعطيها الأخت وهي تبكي منديلها كي تعض عليه ... ، تهتف الداية العجوز لقد حان الأن تناشدها المساعدة بدأ الوليد يطل برأسه الان هاااا أدفعي ، تمسك بهِ ، تصرخ بشدة ، صراختها تتصاعد في  السموات تلو الأخرى ، حتى السماء السابعة ، ها قد حان الأن قطع ذلك الحبل الأنساني المقدس الذي كان يربطها بهِ في أحشائها .....
خيم صمت مهيب لم يكن ليصرخ الوليد ، تناست الأم الألم تنظر اليه تنتظره يصرخ ، تمسكه العجوز من قدميه وتضربه على ظهره فيسعل ويصرخ مستغيثاً في ذلك العالم الغريب ، فتدمع الأم ويهدأ قلبها اللاهث المتضطرب .....
يرفع يده الى السماء ويدعو لأبنته ، يجسم الحر الشديد على صدره فيأخذ نفسه بصعوبة ، يضع منديله المبلل بالماء على جبينه ثم يستند الى سريره ويستكمل ختام صلاته بمسبحته الخشبية ذات رائحة العنبر ....
تخرج الجدة بالوليد وسط زمرة الأطفال فيتحلقون حولها بشغف ودهشة ...
تدخل الى غرفة الجد مبتسمة مُبشرة بالوافد الجديد ، فتضعه بين يديه فيكبر ويبتسم ويقرأ المعوذتين ومقدمة سورة يس ، ويُلقى الأذان كاملا على أذن الوليد ....
أحس بثقل الحر على صدره ، دقات قلبه تتهاوى ببطيء ، فأرتعشت يده بالوليد فوضعه بجواره على السرير ، ومسك مسبحته ضاغطاً عليها بكفه الضعيف ، نُصب عينيه على ذلك الباب السرمدي .....
تعود الجدة بكوب الشاي ، تقترب منه ، الطفل يتحرك بهدوء بجوار جده لا يدري ان كان في حلم غريب ومازال في ظلماته الثلاث أم أنه خرج لظلمته الصاخبة وهذا العالم الكبير ....
تدور المروحة المتهالكة تأن من سنين ، مسبحته بين كفيه ، مبتسماً وفي ثباته العميق ....
تمسك الجدة يدي زوجها فتحركها بدون جدوى ، تطلق صرخة عالية ومدوية ، وزمرة الأطفال يقفون عند ذلك الباب وينظرون ,,,,,,,,,,,