الثلاثاء، 28 يونيو 2011

رسائل المائة عام

الجو بارد هذا الصباح والأمطار تهطل في الخارج ، قطرات المطر تصتدم بزجاج الشباك المجاور له  ، يجلس على مكتبه وسط أكوام من الملفات وأمامه جهاز كمبيوتر قديم لا يعمل ، أحتل سطحه وجنباته التراب الأسود ،،،
كوب الشاي مازال ممتلىء للنصف لم يستطع أن يكمله ، أحس بعدم الرغبة فيه ،،،،
واقدام الموظفين وحركتهم في الرواق الخارجي يتردد صداه في جنبات عقله ، بالتالي هو الصداع اليومي ،،،،
تلك الحياة التي قبلها على مضض رغبة منه فيها لكنه دائماً مايحس انه مازال ينتظر تصريح الاقامة في هذا الوجود ،،،
أيقبل هذا العالم بصخبه وهدوئه ، كراهيته وحبه ، شره وخيره ، أم يذهب بعيداً في داخل أعماقه ينتظر عالمه الأخر الذي يصنعه هو ،،،،،
يمكث امام مكتبه ويستمع الى الموسيقي ، يكتفى بالأنتظار في مكانه ، بل يبقي وحيداً صامتاً ، منتظراً أن يأتي اليه عالمه ، يرفع النقاب عن وجه هذا العالم ويبدأ معه حياة أخرى من جديد ،،،،
يرى أن الكتابه هي في حد ذاتها صلاة ،،،
يضع
أوراقه وقلمه الرصاص في حقيبته الصغيرة وخرج في المساء كالمعتاد ، كانت السابعة مسائاً والجو بارد جدا هذا المساء، يوماً شتوياً شديد البروده ،،،،
المقهى الذي يرتاده ليس بعيداً عن بيته ، لكنه يحب ان يتمشى في شوارع مدينته الكبيره في مثل هذا الوقت من المساء ، فيأخذ اكثر من طريق حتى يصل الى مقهاه الخاص ،،،،
ينظر لتلك الوجوه التى اثر فيها هواء الشتاء البارد والانفاس التي يخرج منها البخار ، فأصبحت الضحكات مستعصية عليها والابتسامه تكون بالكاد ،،،،
الخطوات مسرعة والايدي تبحث عن الدفء في جيوب المعاطف ، لا يدري لماذا هو فقط من يبطء في السير ، ويقف أمام الفاترينات والمحلات ينظر للأضواء الكثيرة كأنه يبحث عن المفقود دائماً وسط اضواء الفاترينات والسيارات حتى اشارات المرور ،،،،،
غريب في مدينته التي لم يعرف سواها ولم يخرج منها يوماً ، والغريب دائم البحث عن شيء مفقود داخل تلك العيون الكثيرة ، والغريب دائم الخوف من نفس تلك العيون ،،،،،
هاهو المقهى بضوئه الخافت وشكله الايطالي المميز ، ذهب الى طاولته التي اعتاد الجلوس عليها بجانب الشباك المطل على الشارع ،،،،،
خلع معطفه واخرج أوراقه وقلمه الرصاص وقبل ان يبدأ الكتابه طلب قهوته ،،،،
الورقه مازالت بيضاء لم يخط فيها جمله او حرف منذ يومين ، لماذا يستعصى عليه قلمه ، اكثر مايحزنه ان تهرب منه أفكاره وتتناثر في جنبات عقله الشارد فيعجز كثيراً أن يلملمها ،،،،،
بدأ الكتابه ، وظل حائراً في العنوان ، لا يهم العنوان الان ، سيختار العنوان بعد حين ،،،
لا لا ليكن العنوان هو المدينه ورسائل المائة عام  ،،،،
أنها مدينته الصاخبه وحكايتها التي لا تنتهى خلف ابواب بيوتها القديمه ، الخير والشر ، الحب والكره ، السعادة والتعاسه ،،،،
والظلم والعدل ،،،،،
الفتاة التي تعرف عليها في هذا المقهى الأيطالي ، في أحد أيام الربيع وجدها تجلس بالقرب منه تشرب قهوتها ، وهو يكتب كالمعتاد وعندما لفتت انتابه توقف عن الكتابه ، ظل يراقبها وهى تمسك فنجانها بكلتا يديها ، جمالها ليس بالمبهر ولكن يوجد سحر خاص في عينيها لم يدرك سره الا متاخراً جداً ،،،،
تعرف عليها بشكل لم يجعله متطفلاً ، وانجذبت اليه سريعاً ، واشتعلت سريعاً تلك العلاقة التي ادرك بعد حين انها حباً ،،،،
كانا كثيراً ما يتمشيان سوياً في وسط المدينه وزحامها ، يرتادا المكتبات ، يجلسا أمام النهر وقت الغروب ، تشاركه كتاباته ، يتشاجرا لأسباب كثيرة ، ويسترضيها اخيراً في كل مرة ،،،،
كان يحبها ولا يدري ان كان سيتزوجها أم سيهرب بعزلته بعيدا عنها  ، وجد هذا الشيء المجهول الذي ظل يبحث عنه كثيراً ، انها تلك العينين ،،،،،،
لم يكن يعلم انه سيفقدها سريعاً سواء بارادته او رغماً عنه ، لو كان يعلم مانظر لعينيها منذ باديء الأمر ،،،،
لم يذهب الى المقهى وظلت تنتظره كثيراً ، قوتان متوازيتان تجتذبانه ، رغبة جامحه وحباً قويا للألتحام بها ، وخوف وبعد عنها لعالمه الخاص ،،،،
ربما كانت حلم او طيف ظل يراوده في يقظته وفي منامه حتى صدقه ،،،،،
ربما غدرت به او ربما هاجرت بعيداً أو ربما قد رفضها هو حباً في عزلته التي لا تنتهي ، يعيش متناقضات قلبه وعقله ، رغبته الجامحه في الحب والمرأة وخوفه من أن تسلبه هذه المرأة عالمه الخاص ، هل سيظل بلا حب لا زوجه بلا سلف ،،،،،
قال لها وهي ترتمي بشعرها الأسود فوق صدره تختلط أنفاسه الوهنة مع أنفاسها المتسارعه : انا لا احبك انتي فقط ، لكني أحب ماهو اكثر من ذلك ، انها الحياة التي تتحقق من خلال التحامي بك ،،،
ينظر الى تلك العيون والوجوه وهو يتمشى في مدينته ، وهو يقف أمام الفاترينات ، وقطرات المطر تخترق جسده ، حتى بين ارفف الكتب في المكتبه ، قد يجدها يوماً في المقهى الذي تقابلا فيه سوياً ،،،،،
اشتد البرد هذا المساء ، ونظر من خلف الزجاج فوجد قطرات بسيطه من المطر ،،،
 ، انتهى من قهوته ولم ينتهى من رسائل المائة عام  ، لملم أوراقه ولبس معطفه وترك الحساب وخرج ليتمشى عائداً الى بيته وعالمه الخاص  ,,,,,,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي

الاثنين، 20 يونيو 2011

اللوحة الناقصة


قد اعتاد الوحده لا يتحدث سوى مع البحر او مع نفسه او مع كتبه ،،،، قليلا لو مر عليه أحد الا بعض الصيادين بمراكبهم او مفتشين هيئة الموانيء في الصباح ، فأعتاد عزلته وألفها ،،،،،،
كان ينزل الي وسط المدينه أحياناً ليشتري بعض المستلزمات الخاصه به من طعام و جرائد او ادوات للصيد لكنه لم يألف المدينه ابداً ......
بعد الغروب يصعد الي اعلي برج الفنار ناظراً الي الافق البعيد اللامتناهي محاولاً ان يصل للشواطيء البعيدة ، يعبر ببصره  حواجز الزمن والمكان ، يري السفن بعيدة جداً وصغيرة كأنها مراكب ورقية صنعتها طفلة عابثة  والقتها وسط الأمواج المتلاطمة كي تواجه مصيرها ومستقبلها ،،،،
 يجد نفسه في احدى هذه السفن مبحراً بعيداً في بلاد يولد فيها من جديد ،،،،،،
تدور كشافات الضوء في وسط الظلمات مخترقة ضباب البحر يتسلل عبرها ضوء القمر ، وهو يقف اسفلها ويدور قلبه معها ....
يذهب الى المدينة المطلة على البحر ، الكورنيش يطل على البحر وعلى بيته والفنار القديم ،،،،
هذا الصباح ذهب الى الميدان الفسيح وسط الكورنيش ، طيور النورس تغرد من بعيد فوق الأمواج تسبح في الهواء منتظرة الانقضاض على الأسماك الصغيرة السابحة على صفح الماء ،،،
أخرج لوحته وألوانه ونظر حوله كي يختار من يرسمة هذا الصباح ،،،
رائحة القهوة منبعثة بقوة من المقهى القريب من الميدان ، كان جائعاً هذا الصباح لم يأخذ فطوره بعد ،،،،
ذهب الى المقهى ومعه لوحته البيضاء الفارغه والوانه ،،،،،
كانت الفتاة الغجرية التي تعمل في المقهى تتحرك بخفة جيئة وذهاباً ، يفوح منها عطر ممزوج برائحة القهوة جعلها جسدها الرشيق اكثر سحراُ وجمالاً واثارة ،،،،
ما أن رائها حتى ذاب عشقاً وهياماً في تلك الفرسة الجامحة ،،،،
عينان سودان ، شعرٌ اسود أندلسي تربطه بشريط صغير فيظل معقوداً في قمة رأسها ، لكنه مسافراً في حرية بلا حدود على كتفيها ،،،،،
ظل ينظر اليها حتى التفت اليه ، فجائته ضاحكه تسأله عن طلبه ،،،،
فنظر لها ثم الى عينيها ماراً بشفتيها وصولا الى نهديها ، وطلب منها الأكسبريسو والباتيه ،،،،
ازاحت خصلة شعرها المائله على عينيها وقال : سأتيك بطلبك حالاً .....
من شباك المقهى كان يرى الفنار بعيداً تحلق حوله وتحاصره بالقرب من الصخور طيور النورس ، والباعة والمارة يتحركون في كل مكان مع بداية ساعات الذروة هذا الصباح ،،،
ظل يتابع الفتاة الغجرية الى أن جائته بالقهوة والباتيه ،،،،
عندما اقتربت منه قال لها في صوت خافت : انا رسّام  وأريد أن أرسمك على هيئتك وملابسك هذه ، لم أخذ من وقتك الكثير وسأعطيكي ماتريدين ، سأنتظرك في فترة الراحة وسنذهب سوياً الى بيتي عند الفنار ،،،،
مصت شفتيها بأسنانها وأبتسمت وقالت : لكن لن أتاخر كثيراً ، انتظرني وسأذهب معك ،،،،
أجلسها على الصخرة المقابله للفنار ، تٌحلق خلفها طيور النورس فوق الامواج المتلاطمة على الصخور ،،،
اقترب منها وفك الشريط الصغير الذي تعقد به شعرها ، فحركه الهواء فأصبح كحصان فر من قسورته ،،،،
فردت ساقيها البيضاوان مع اتجاه الريح فكأنها هيرا وافروديت معاً ، النفوذ وقوة الجمال في ان واحد ،،،،
لم يستطع أن يستكمل لوحته ، السحر الأندلسي جعله طفلاً تائهاً ظل يبحث عن أمه منذ زمن بعيد ،،،،
مال عليها ، فأقتربت منه ، فأخترق صدره ذلك العطر المنبعث من جسدها الجامح ، فسقط صريعاً على نهديها وبين شفتيها وغاص في اعماق امواج بحرها الهائج الى مالا نهاية ،،،،،،،،
لم يستكمل لوحته بعد ، أيام وأيام تأتيه بالطعام ، وهو يصتاد لها الأسماك وتصنعها له ويأكلان سوياً ، وينشد على حبها أحلامه اللانهائية ، يطلب منها أستكمال لوحته ، فتقول له في الغد ،،،،،
اليوم لم تأتي ، ظل ينتظرها على الصخرة المطلة على الفنار القديم ولم تأتي ،،،،
تحلق الطيور على سفح الماء وفوق الأمواج يجلس بجوارها ينتظرها
ولم تأتي ،،،،،
اخذ لوحته التي لم تكتمل وذهب هذا الصبح الى المقهى المطل على الميدان ،،،،
رائحة القهوة تنبعث بقوة من الداخل ،،،،،
فوجدها خارجة في صحبة رجلٌ أخر ، ضحكاتها تمتزج مع دقات حذائها ، فيتردد صداه في جنبات قلبه قوياً،،،،
طلب قهوته والباتيه ،،،،،
ثم جاء بحامل اللوحات ووضع لوحته الناقصه على الكورنيش أمام الشاطيء ،،،،
فتاة غجرية بنصف وجه ، الوان رصاصية رمادية ، نصف شفاه ونصف جسم ، شعر أسود جامح ، وابتسامة في نصف شفاه لم تكتمل ،،،،
ترك لوحته للعامة والمارة  يتفرجون عليها وأنصرف وعاد الى الفنار القديم ،،،،،،
 
يأتي الغروب ويصعد الي اعلي برج الفنار ،،،،،
ناظراً الي الافق البعيد ،،،،،
يدور  ضوء الفنار فوق رأسه  مرشداً السفن في الظلمات ،،،،،
وقلبه دائماً يدور معه  ,,,,,,,,


الخميس، 16 يونيو 2011

ظلال


                                            
مجهود كبير قد بذلته هذا العام في عملها كمدّرسة في مدرسة أعدادية ، يصل ذروة هذا المجهود بالاعداد للأمتحانات ومراقبتها والأشراف عليها ، وبعد هذا المجهود تأخذ مكافئتها البسيطة ،،،،
أستلمت منى مكافئتها السنوية من المدرسة ، لم تكن تريد منها شيئاً لنفسها ،،
فظلت تقسمها على اخواتها الصغيرات ، وخصصت الجزء الأكبر منها لأختها التي ستتزوج قريباً ،،،،
في أبتسامة رضا وهدوء وقفت أمام المرأه ، منذ زمن لم تتحدث الى نفسها ، قد يكون أشتياق للذات أو ربما مصارحة مع النفس ،،،،
نظرت وهي تعقد شعرها المنسدل على كتفيها : كأنني لم أرى نفسي منذ طفولتي ، لم أتحدث الى نفسي منذ زمن لا اتذكره ، أبعدت أنا عن نفسي ؟ ، أم تاهت هي مني ؟ ، ربما الخوف من مواجهة النفس ، أو أثرت البعد حتى لا أثير شجون النفس والقلب ،،،،
صدى أسالتها مازال يتردد في جنبات قلبها ينتظر الأجابة ؟؟ ،،،
مُنى .....
نداء الأخت الصغيرة يقطع الحديث مع الذات ، تستأذنها في أن تستعير بعض ملابسها ، فتوافق بدون تردد ،،،،،
الشمس هذا الصباح ساخنه ، سيكون يوماً حاراً من أيام الأقصر الصيفية ،،،

أسرعت الخطى بجوار معبد الأقصر حيث طريقها الى عملها ،،،،
الشمس ترسل أشعتها فتتخلل عمدان المعبد العتيق والتماثيل الشاهقة ،،،
فتصنع ظلالاً كثيرة على الجانبين ، كأن العمدان العتيقة هي من تطارد الشمس بتصنع الظلال على خطوات الفتاة ،،،،
أحست أنها ظلال الذكريات تتبع خطواتها ، دائماً ما تتبعها ، تسرع الحركة مع خطواتها السريعة وتبطئها عندما ينهكها السير ،،،
الذكريات دائماً ماترسل ظلالها حتى تطل برأسها كل حين فنظل في دائرتها السرمدية  الى أن نتخلص من تلك الظلال ونأتي بذكريات افضل تمحي مامضى من ذكريات قديمة  ،،،،
تتقاطع الظلال مع خطواتها مع كل عامود وتمثال ، وتتقاطع ظلال ذكرياتها مع كل حلم او فكر او حتى حديث مع صديق ،،،،
تنتظر أن يأتي الغروب فتنحصر الشمس بأشعتها  ، فتتلاشى الظلال ، فتهب نسمة صيفية باردة مع الغروب ،،،
في أنتظار صباحٌ جديد بدون ظلال ,,,,,


  اللوحة لسلفادور دالي

الاثنين، 13 يونيو 2011

البيانولا


الفتى الأصم الأبكم ذو الملامح الهادئة يجلس في أطمئنان على الأريكة الخشبية أمام البحر ،، يبتسم ويحادث المجهول في الأمواج المتلاطمة ، تأخذ اسألته الصغيرة مع انحصار الموج ، ولا تأتي بجواب ،،،،
قادماً من بعيد أنهكه السير على الكورنيش الممتد ،،، تسيل قطرات المطر من شعره الى عينيه ومعطفه ، يمسحها بكلتا يديه ،، ثم ينظر الى الفتى الأصم الوحيد ويذهب ليجلس بجواره ،،،،
يُخرج الفتى البسكويت من حقيبة المدرسة ويأكلها واحدة واحده ،،،،
الشاب ينظر للفتى ثم للبحر ويقول : لا أظن أن المطر سيتوقف اليوم ، أتدري عندما كنت في مثل سنك وينزل المطر ، كنت أتي وأجلس أمام البحر ، لا أحكي أسراري لأحد غيره ، يأتيني صوت من الأعماق يجيبني عما يدور في داخلي ، لا أخشى الغرق أو الموت في أعماقه ، كنت أظن أنني لو غرقت لن أموت ، وأن في الأسفل حياة وأناس أفضل كثيراً ممن نعيش معهم على الأرض ،،،
قبل ان صاغ الزمن مادته في أيام يوجد البحر ، البحر دائماً هو انعكاس للزمن على سطح امواجه ،،،

من ينظر للبحر كأنه يره للمرة الأولى كل مرة بنفس العجب والرهبة ،،،

البحر هو من سيتلو لوعتي الأخيرة ،،، هو الملاذ الأخير ،،،
كان عازف البيانولا يحتمي بصندوق البيانولا الخشبي تحت مظلة قديمة من مظلات البحر المتناثرة ، انهكه السير هو الأخر قادماً من الجانب الشرقي للشاطيء ، أنزل صندوق البيانولا من على ظهره وجلس أسفل المظلة القديمة ، كان مبتسماً ، تلك الأبتسامة لم تفارق وجهه منذ سنين ، يجوب الشاطيء من شرقه لغربهِ وهو مازال على أبتسامته ،،،،
نفض قطرات المطر من على معطف بدلته السوداء ، وخلع قبعته الغريبة وجلس ينظر للسيدة الجميلة المرسومة على صندوق البيانولا ،،،،
أمسك المقبض الحديد وأداره ، فأنسابت من الصندوق نغمات البحر بيضحك ليه ،،،،،،
مازال الفتى يأكل البسكويت المبتل بماء المطر ، لا يدري ان كان الذي بجانبه يتحدث أم لا ،، والشاب لا يبالي أن كان الفتى يعيره الأهتمام والأستماع ،،،
تسللت موسيقي البحر بيضحك ليه من صندوق البيانولا مخترقه قطرات المطر المتساقطة وهدير أمواج البحر على الشاطيء ، فنظر الشاب الى الشرق فوجد صديقه العجوز عازف البيانولا ،،،،
منذ صباه وهو يلاحقه على الشاطيء يستمع الى انغامه يحاصره بأسالته كيف يعمل الصندوق ويخرج تلك النغمات ، والعجوز دائما على أبتسامته ،،،،
يهدأ الشارع الصاخب الا من أصوات قطرات المطر التي تصتدم بالأسفلت المبتل ،،،
مازالت قطرات المطر تتعانق وتمتزج بأمواج البحر المتتالية في مالا نهاية منذ أن خلق الله البحار ،،،،
نغمات صندوق البيانولا تداعب الشاب من بعيد فأتجه الى صديقه العجوز عازف البيانولا ، قدماه تواجه الرمال المبتلة بالمطر والموج لكنه وصل اليه اخيراً ، تبعه الفتى الأصم بعد أن فرغ من اكل البسكويت المبتل  بالماء وظل يتابع من بعيد ،،،،
وقف الشاب في مقابل البحر تلامس قدميه أمواج البحر ينتظر
أن يأتيه ذلك الصوت من الأعماق ، لم يأتيه بعد ،،،، فأدار العجوز مقبض الصندوق حتى يعزف من جديد ، ثم أخذ العجوز يرقص تحت المطر على نغمات صندوقه الخشبي ،،،،
والفتى الأصم ينظر لما يرقص ذلك العجوز لكنه كان سعيدا ربما لم يسمع تلك الموسيقي ، لكنه قد يحس بها ،،،،
البيانولا لم تتوقف والمطر مازال ينساب من السماء والأمواج في مدها وجذرها اللانهائي ،،،

الأحد، 5 يونيو 2011

النزهة الأخيرة


صوت الاجهزة الدقيقة في العناية المركزة لا يتوقف ، والأنفاس المتقطعة للمرضى تتأرجح في الصدور بوهن ، واجهزة المونيتور المعلقة فوق الأسّرة تشاهد وتراقب ،،،،
الأب يصارع لحظات مرضه الأخيرة ، دقات قلبه تتهاوى في بطء ومستوى الأكسجين يهبط لأدنى مستوى له ،،،،،
أرتمى على الأريكة لا يدري كم وصلت الساعة الأن ، جهاز التلفاز يصدر تشويشاً حيث انتهى بث البرامج ، وملقى بجواره الأريكة كوب من القهوة به بقايا من البن الجاف ،،،،
جرس الهاتف يرن ،،،،
نهض فزعاً ، أحس انه نام وقتاً زائداً عن اللزوم ، نظر للساعة لم يستطع أن يفتح عينيه ليرى بوضوع عقاربها ،،،
أمسك سماعة الهاتف فكان الطبيب يخبره أن والده يحتضر وفي حالة متاخرة ، ولابد أن يحضر حالاً حتى يكون بجانبه ،،،،
ترك جهاز التلفاز كما هو على تشويشه ، اصتدمت قدميه بكوب القهوة فتناثر البن على السجادة ، لبس حذائه لا يدري ان كان هو الحذاء الصحيح أم لا ،،،،
خطوات متسارعه في رواق المستشفى الطويل ، لا يسمع سوى صدى خطوات قدمية وصوت الاجهزة الدقيقه المنتشرة في غرف العناية المركزة ،،،
وجد الطبيب في مكتبه جالساً يشاهد التلفاز وأمامه على المكتب مجلة فنية ،،،
قال له : ماذا حدث لأبي يادكتور هل مات أبي ؟؟
رد عليه الطبيب في هدوء وهو يخفض صوت التلفاز : لا لم يمت بعد لكنه في لحظاته الأخيرة ، أنصحك أن تأخذه حتى يموت في بيته بعيداً عن اجرائات المستشفى والبهدلة ، أنها مسألة ساعات على الأكثر ياسيدي ،،،،
نظر له الأبن فزعاً وقال : كيف تقول ذلك سيظل أبي هنا في المستشفى يستكمل علاجه أو سأنقله لمستشفى أخر ، لا يزال أبي يتنفس وقلبه لم يتوقف بعد ، فكيف أعجل بموته واخذه الى البيت ،،،،
ابتسم الطبيب وهو يعيد صوت التلفاز الى ماكان عليه وقال : كما تُحب ، اردت فقط أن اريحك واريحه ،،،،،،
قام بنقل أبيه لمستشفى أخر في سيارة أسعاف ، جلس الى جواره ممسكاً يده ، نظر اليه باكياً وقال : ستعيش صدقني ستعيش يا أبي لو كان في عمرك ساعة واحدة واستطيع أن احافظ عليها سأحافظ عليها ، تماسك حتى نصل للمستشفى الأخرى ،،،،
المسعفين والممرضات اسرعوا بيه في طرقات المستشفى حتى وصلوا الى غرفة العناية المركزة ،،،،
وصل الطبيب الوسيم ونظر الى الأب الذي ينازع لحظاته الأخيرة ثم قال للأبن : لا تقلق سيأخذ بعض الحقن ثم سندخله غرفة العمليات ، ادعوا له ولنا ،،،،
ظل جالساً يبكي ويقرأ ايات القران ، تمر الساعات وهو على حاله ، ثم اخذته سِنةٌ من النوم ،،،،،
استيقظ على صوت عجلات السرير المتحرك وهو يمر بجانبه ووالده ممداً عليه ،،،،
قام مسرعاً ثم نظر للطبيب وقال : ماذا حدث لأبي ؟
قال الطبيب وهو يبتسم : حمداً لله سيصبح بخير ،،،،

بعد مرور أربع سنوات ,,,,,

يوم جمعة خريفياً جميلاً ، الشمس ساطعة هذا الصباح ، مصر الجديدة هادئة كعادتها يوم الجمعة ، الأشجار المتشابكة بجوار القصور القديمة تمنع أشعة الشمس من التسلل عبرها بحرية ، لكنها تخترقها أحياناً فتصنع خطوطاً ودوائر متقطعة على الأرض ،،،،
كان يمسك بيد أبيه يضحك معه ، ذكريات شبابه وكيف تّعرف على أمه ، هنا كنا نتقابل وأعزم والدتك على الغذاء ، أترى هذا المبنى ، كانت توجد عيادة الطبيب الذي ولدّك وأخرجك الى الحياة ،،،
مكان هذا المطعم كان يوجد محل ملابس وانا شاب صغير احببت ابنة صاحب المحل ، وظللت أحبها حتى باع أبوها المحل وهاجروا من مصر الى اليونان ،،،،
منذ أربع سنوات لم تتوقف نزهات الأبن مع أبيه في شوارع وازقة ذكرياته ،،،،
قد تكون النزهة الأخيرة للأبن مع أبيه ،،،
لكنه سيظل يسعده دوماً حتى لو لم يتبقى سوى ساعة واحدة للنزهة ,,,,,,,