السبت، 28 يوليو 2012

أرواح هائمة


لم تكن الشمس قد وصلت للشفق بعد ، مازالت تتابع سيرها الخجل الحثيث في السماء نحو شفقها الأرجواني ، تُلقي على الكون وشاحها الأحمر الدامي فتجعله كالعذراء التي تستحي من نظرات المعجبين ،،،
يتسلل ضوء الشمس الخجل من مشربية القصر العتيق فيصنع خيالاً يكّحل تلك العيون الزرقاء الصغيرة فتنسدل عليها خصلة شعرها كستار أسود حريرياً يحميها فترفعه برقة ثم تتأمل أبيها الجالس واضعاً يديه على ركبتيه المثنيتين يتأمل اولئك المنشدين داخل الصحن الدائري للقصر العتيق ،،،،،
يذكرون الله ثم تتصاعد دقات الدفوف كأنها تسبح مع أمواجٍ هادئة تأتي من خلف البحور البعيدة ، بل من خلف تلك الأفاق الكونية اللاحدود لها ....
تتمشى في صحن القصر العتيق بالقرب من أولئك المنشدين تصور بكاميراتها جوانب وزخارف القصر ، تلك الخُشيشة المملوكية ، عواميد الرخام ، العرائس التي تُزين تلك العواميد ، والزجاج الملون الذي يظلله الضوء فيصنع أطياف من الألوان السبعة ،،،
كلما تحركت ينساب من ضفيرة شعرها ذلك المنديل الأخضر الطويل يجعلها كفرس يستريح على شواطيء الأندلس ......
يتابعها بنظريه بينما تتسلل روحه الهائمة عبر أذنيه ، يتوسط الصحن الدائري ذلك الرجل ذو القبعة الحمراء الطويلة يدور ويدور كروح تسبح في ذلك الملكوت الفسيح ،،،،
تتهادي دقات الدفوف وينشد أخر ، تنظر الفتاه الصغيرة الي أبيها بعد أن لمعت عيناها الزرقاوين كسماء صيفيه تحنوا على ذلك البحر الهاديء أمواجه ، فيرفع رأسه من على المشربية فيبتسم لها ثم يترجم كلمات الرجل الهائم لأبنته الصماء زرقاء العينين ....
 ما أسعد ذلك القلب الذي يسكنه العشق ،، فيلهيه عن أمور دُنياه ...
ويتوهج فيه برقٌ مُضيء ،، يحرق متاع العقل والصبر ،، لا تبقى به أحزان ويصبح جبل الشقاء كقطرات المياه ،، تتعود تلك الروح على العشق ،، فيزداد ذلك القلب شوقا الى رؤياه ...
تسير أشعة الشمس فترتفع قليلاً فيمتزج ضوئها مع ألوان الطيف المتسلسلة من الزجاج الملون فيزداد وجه الفتاة الصغيرة توهجاً ولمعاناً .....
تمشيت قليلاً  بجوار الراقص الذي يدور ويدور بتنورته فكأنها أصيبت بشيء من تلك الروح السابحة فتطاير المنديل الأخضر الطويل المربوط في ضفيرة شعرها ، فجلست ساندة ظهرها الى العمود المرمر واضعة كاميرتها بجوارها .....
تتهادى دقات الدفوف وبدأ الأنشاد يصّعد للسماء ، فهبطت دمعة رقيقه على وجنتيه قد تذكر زوجته الراحلة ثم حرك شفتيه ويديه وانامله لينشد لفتاته الصغيرة الصماء زرقاء العيون :
إن القلب الخالي من العشق ماهو بقلب ،، والجسد الذي لا يؤرقه القلب ماهو الا جماد ... فأنظر بقلبك من شرفتك الى مواجيد العشق ،، فلا خلا من احزان العشق قلب أنسان .... قد تتسابق الشمس القمر والقمر الشمس الا عشقاً ،، وبه تتهادى الأمواج الى شواطيء الأمان ....
سقطت الشمس في وشاح شفقها الأحمر الخجل وذهبت بعيداً بأشعتها خلف مسقط الغروب ، فأصبحت المشربية تنعم بحريتها من تلك الأشعة التي تتسلل عبرها ، فأقتربت الفتاة الصماء فأمسكت بأصابعها الرقيقة المشربية ولم تنظر لأبيها ، كانت تتابع بعينيها الزرقاوين ذلك الرجل الذي يدور ويدور أمامها كطيارة ورقية تأخذها دومات الريح الى السماء العالية ...
اجعل من نفسك أسيراً للعشق تصبح حراً ،، واملأ قلبك به فلا تكن مهموماً .. فجمال لله يتجلى في كل شيء جميلاً خلقه ،، فأعشق الله فيه وفي مخلوقاته .......
ظل يتلفت بنظريه عنها فلم يجدها ، كان منديلها الأخضر الطويل يتطاير بهدوء الى أن سكن وأرتاح أسفل المشربية ، شم عطره وظل يتمشى خلف العطر فلم يجدها ....
بينما تقف الفتاة الصغيرة زرقاء العينين متشبثة بأناملها الصغيرة بالمشربية ,,,,,,
 

الأحد، 15 يوليو 2012

أنتيجون



نعم انها شرفتها المهجورة ، رغم أن البيت مايزال تسكنه أسرتها ، وأختها الصغيرة كل حين تدخل الشرفة لتُسقى الياسمين والقرنفل ، ألا انها شرفة مهجورة ، وحياة مهجورة ....
صوت النحيب والبكاء لم يتوقف منذ الصباح ، وافراد عائلتها يتوافدون ، يقفن أمام عتبة البيت ينظرن لشرفتها ثم يبكين في تصنع ويضعن المناديل البيضاء يخفين جفاف عيونهن من الدموع ....
وحده يبكي عند قدميها غير عابيء بالتقاليد والطقوس والبشر جميعاً ....
أغمض عينيه في كفيها ، يستمد منه اخر ماتبقى من أمان وأمل ، ميلاده وحياته وموته بين حنايا كفيها ، أنعكاس وجهه ومشاعل عقله تستنير من وضع كفيها على جبينه ، ذكرياته كشريط سينما يتحرك ببطء بين حنايها ، مازال مغٌمض عينيه كُمصلي في محرابها يتلو تراتيله الأخيرة .......
ينتظرها قبل الغروب عن شجرة الكافور الكبيرة بجوار كنيسة السيدة العذراء القديمة ، يتهامسان وينظران الى احلامهما عبر الأفق البعيد ، خلف تلك العمارات القديمة وقصور مصر الجديدة الشامخة في قسوة متراصة كجنود تدفع تلك الأحلام بدروعها النحاسية اللامعة ، تراتيل حبهما تتمازج بالتراتيل والأناشيد الدينية التي تخرج من الجوقة متسللة عبر نوافذ الكنيسة العملاقة ،،،،،
يلمع في عينيهما برق كهرباء مترو النزهة  ، مقاطعاً احلامهما بضجيجه المعتاد ، يقفزان سوياً لعربة المترو المهتزة ، تجلس بجواره قابضة على يديه ، يظلا صامتين ينظران لمحلات الروكسي المتلألأة بفاتريناتها المضيئة ، يمران من أمام السينما فيتفقان سوياً على دخول الفيلم الجديد .......
تمر السنوات وهي مازالت قابضة على يديه ، يقاومان جنود الزمن بدروعة النحاسية اللامعة ، الى أن يطلبها للزواج فيرفض أبيها ,,,,,
يقاومان كما قاومت انتيجون ظلم الملك لها ومنعها من الزواج من ابنه فماتت وحيدة في حفرة في العراء ,,,,,,
في عشية اليوم السابق عادت مهزومة الى بيتها بعد أن ارغموها على الزواج من أبن خالها ، لم تكن تعرفه قد عاش طيلة حياته في الخارج ، عاد فقط  ليتزوجها فرفضت ،،،،
ظلت متمسكة بحبها القديم وقاومت مثل أنتيجون ، فكانت نهايتها الرحيل الى عالم أخر كأنتيجون .....
رفع رأسه من بين كفيها ، تطارده بقايا الذكريات في عينيها المغمضتين ، سئما من المقاومة وينتظران السير بطمأنينة وهدوء في ذلك العالم الأخر .....
كغاية الحياة والأمل الوحيد لهما هو أن يلتقيا في ذلك العالم الأخر ، يرفعهما كأكسير النشوة في النفوس ، يجعلهما يتابعان الطريق الى مابعد حدود هذا العالم ، عبر الظلام والضباب والحواجز والأبواب ، كضوء ممتد مخترق تلك الضباب والأفاق ،،،،
الى الشاطيء الخالد الذي يوفر هدوء الغروب وتغريدات طيور الخريف المهاجرة ،،،،
على أجنحة ملاك يحلق بهما فوق تلك القصور الشامخة القاسية ، انه طريق مفتوح الى افاق لا نهائية ,,,,,
أنها انتيجون رحلت عن شرفتها فأصبحت شرفتها مهجورة دائماً ,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي


الأربعاء، 11 يوليو 2012

ليلة مزدحمة


اعتادت دائماً أن يكون طريقها في الحواري والأزقة الضيقة بعيداً عن الشوارع الرئيسية حتى تصل الى الميدان الكبير الذي يوجد فيه المطعم الأيطالي الذي تعمل فيه نادلة ، يقع المطعم على يمين المكتبة ودور النشر الكبيرة ومواجهاً لدار السينما القديمة ....
نفس الخطوات الخجولة الخائفة تتخذ سبيلها بجوار الجدران ، أبتسامة الرضا لا تُفارق وجهها ، رغم هذا الشجار المتواصل في بيتها بين أمها وأبيها ، يتلاشى داخل عقلها أصوات السيارات والمارة ويتردد في جنبات عقلها صوت الشجار المتواصل ، الا أن الأبتسامة تظل تُخفي خلفها احزانها الممتدة لا تدري منذ متى ، ربما منذ طفولتها ، قد تكون الأبتسامة المرسومة بريشة حانية لا تعبر عن حقيقة ماتحتويه لوحة الأنسان من اسرار ، أحياناً يكون الوجه كصدفة بحرية صلبة جميلة كانت أم قبيحة لكنها لا تُكشف أبداً هما تحتويه داخلها ......
تصل الى المطعم ، الميدان دائم الزحام كعادته ، والمحلات تتجهز بالزينات استقبالاً للعيد ،  والعجوز بائع الجرائد أمام الفاترينه الزجاجية  يجلس على كرسيه الخشبي يحتسي الشاي ، وبعض المارة يقرئون عناوين الصحف وقوفاً أمامها ....
كان الصبي الصغير قد بدأ لتوه في تنظيف زجاج المطعم ، أبتسم عندما رأئها تقترب ، فألقت عليه التحية واضعة كفيها الرقيق فوق شعره المجعد ثم أسرعت للدخول ,,,,,
الكراسي مقلوبة على الطاولات وزميلاتها يضعن الزينة بطول المطعم وعرضه ، لا يتوقفن عن الثرثرة ويظل السؤال الدائم بينهن هل سيغادرن اليوم مبكراً بمناسبة العيد أم لا  ؟؟
دخلت الى غرفة تغير الملابس وارتدت ملابس المطعم المميزة باللون الأحمر والأسود ، اعتادت حتى مع تغير ملابسها ان ترتدي ثوب السعادة أمام الزبائن والكلام المُنمق أن تنزع عنها عباءة الحزن ، أن تطرد أصوات الألم مؤقتاً من عقلها حتى تعود اليها من جديد مع ارتداء ملابسها العادية مرة أخرى ....
مع أقتراب موعد الغداء يبدأ المطعم في الازدحام ، موظفون الشركات المنتشرة في الميدان يتوافدون على المطعم مع وقت الراحة الخاص بالغداء ، وتتسارع الحركة في المطبخ وفي المطعم من عمال ونادلات ،،،،
تتلفت عليه بلهفة وتنتظره بشوق ، يأتي بأنتظام وحيداً يطلب البيتزا الايطالية ويجلس يأكلها في الخارج في الحديقة الكبيرة التي تتوسط الميدان ، تظل تراقبه من خلف فاترينة المطعم ومن خلال الأعلانات الملونة التي تُزين الفاترينة العريضة ، ينظر لها بأبتسامته المشرقة ويتكلم معها قليلاً يطمأن على أحوالها ثم ينصرف سريعاً .....
لم يأتي في موعده هذا اليوم ، تختلف الوجوه وتتعالى الأصوات بطلبات الطعام ، وهي تقفز مُسرعة من طاولة الى طاولة ، يجب عليها ان تكون حريصة سريعة مبتسمة دائماً ...
يزداد الميدان ازدحاماً ، واشارة المرور القريبة من الميدان متوقفه بأستمرار عند الأشارة الحمراء فتتوقف السيارات ، يتعالى منها أصوات اجهزة التسجيل بالأغاني الصاخبة ، والات التنبيه لا تتوقف أبداً ،،،،،
دخل الى المطعم ممسكاً بيديها يتحدث اليها ضاحكاً ، ثم توقف أمامها مبتسماً وطلب منها البيتزا المفضلة له ولفتاته ......
غابت تلك الأبتسامة عن وجهها عندما رأته مع فتاته الجميلة ، ضعفت حركتها السريعة المطلوبه منها دائما ، ثم غاب عنها حرصها فسقط من يديها أحد الأطباق فأصدر ضجة مفاجئة ، صمت الجميع لبرهة بحثاً عن الشيء المكسور ثم عاد الضجيج كما هو سريعاً ,,,,,
لم يأخذ البيتزا كما اعتاد ليأكلها في الحديقة التي تتوسط الميدان ، لكنه جلس مع فتاته على احد الطاولات بالقرب من عازف الجيتار الذي بدأ يعزف الحانة ,,,,
وضعت الأطباق على الطاولة ، فشكرها مبتسماً ثم قدم اليها فتاته على أنها خطيبته ، فألقت عليها التحية ثم أنصرفت لتلبي طلبات الزبائن ،،،،
مازال عازف الجيتار يعزف الحانه ،،،
دفع حساب البيتزا ثم أمسك بيد فتاته وأنصرف ، تتبعته بعينيها من خلف الفاترينة الزجاجية والملصقات الملونة المنتشرة على الفاترينة الى أن اختفى وتلاشى بين الزحام وضجيج الميدان ,,,,
غيرت ملابسها وارتديت عباءة همومها من جديد ، ثم غادرت مع زميلاتها ، كان زميلاتها يضحكن فرحاً بالعيد وهي على ابتسامتها الخجولة ، تركنها وانصرفن وهي وقفت وسط الزحام ،،،
أنطلقت من حولها الألعاب النارية أحتفالاً بالعيد ، وألات التنبيه لا تتوقف والموسيقى الصاخبة تنتشر في كل مكان ، كان الميدان يموج كبحر لجي يغشاه الزحام من يمينه ويساره ،،،،
لم تذهب كالمعتاد الى الأزقة والحواري الضيقة ، لكنها توقفت في الحديقة التي تتوسط الميدان وجلست على الأريكة الخشبية المقابلة لدار السينما القديمة ،،،،
تأخر عليها المساء وهي جالسة وحيدة ،يجلس بالقرب منها هذا العجوز الذي يجلس وحيداً كل ليلة الى أن يشرق الصباح ,,,,,
أقترب الفجر وأصبح الميدان خاوياً الا من بعض سيارات تمر مسرعة ، الدكاكين مغلقة وتطاير الزينات وأوراق الجرائد والقمامة في وسط الميدان ، بينما تجوب الميدان سيارة النظافة بالمصباح الأصفر الذي يدور فوقها ،،،،،
مع تكبيرات العيد وتلك النسمات الصباحية عادت الى بيتها ، لكن بعيداً عن الأزقة والحواري الضيقة ,,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو

الأربعاء، 4 يوليو 2012

رواية ناقصة

عاد وحيداً من غربته التي عاش بين طياتها قرابة الثلاثين عاماً كأستاذ للأدب الأنجليزي في انجلترا ، مئاله وعودته لمكتب أبيه القديم ، لم يتغير شيء صورة أبيه كما هي في واجهة المكتب ، رائحة خشب الأرو والبخور تسيطر على جنبات الغرفة ، الجرامافون القديم في الركن اليمين أسفل النافذة التي تغطيها الستائر ولم تنسدل عنها منذ طفولته ، المكتبة العتيقة عشش فيها التراب وطلائع من النمل تخطط للانقضاض عليها .....
نحت الزمن هو من غير الأشياء ، شعره الأبيض وامراض الشرايين ونظره الضعيف ، أمراضه التي هاجمته ماهي الا برزخ سيمر من خلاله من الحياة الى الموت ،،،،
تحرك بوهن ، كاد يسقط بعد ان اصتدمت رجله النحيله بالكرسي الهزاز الذي كان يجلس عليه عندما كان يقرأ بجوار أبيه ،،،
ازاح الستائر من على النافذة فأحس بتلك الرياح الباردة رياح يناير تتسلل عبر فتحات النافذة ، ففتحها فأندفعت الستائر لأعلى فتطايرت بعض الأوراق من على المكتب ،،،
نظر لحديقة البيت وتنفس تلك الرياح الشتوية الجافة ، نسمات شتوية باردة ربما تكون الأخيرة ، النسمات الأخيرة هي الامتع دائماً كأي شيء قد لا نلمسه او نراه ثانية .....
رواية وحيدة ناقصة لم يستكملها منذ أن رحل الى انجلترا مازالت بأوراقها الصفراء في غلاف جلدي مترهل موضوعه على المكتب القديم ، مازال القلم على نفس الصفحة التي توقف عندها ، جف الحبر من القلم كما جفت كلماته عن تلك الرواية ،،،،
ينظر الى حديقة المنزل على الأفق البعيد بالقرب من هنا
كان المطر حينها شديداً ،، والوحل  قد حاوط قدميها ،، تحاول ان تخطو مسرعة فلا تستطيع ،، تريد أن تجعل رحيلها سريعاً بدون أن تسمع أنفاسه ودقات قلبه واخيراً ندائه بأن تعود ،،،،
قد حسمت أختيارها بأن لا عودة اليه ، لا يستطيع أن يحقق  ماتريد ،،،،
ترفع قدميها من الوحل تريد أن تتركه وترحل سريعاً ،، طغى على أعماق قلبها صوته وهو يناديها ،، انتظري ....
توقف عقلها عن التفكير ،، وتباينت المشاعر داخل قلبها ،، أصبحت تجهل الطريق فلم تعد تشعر بشيء الا بالضياع والرغبة في الهروب ،،،،
أين تذهب ،، كانت لا تريد أن تسمع صوته أو ان ترى دموعه ،، لا تريد شيء يردعها عن قرارها بالرحيل ،،،
ترحل عن من ....
مازال صوته يتردد في جنبات الضباب اللامتناهي فيعود اليها صدى صوته محملاً على قطرات المطر ،، أنتظري ....
ليت المطر والفضاء يخنق ذلك الصوت ،،،
مضت تجر قدميها وتنازع الوحل العالق بها ،،،
من بين حنايا الضباب والظلمه سمعت أنفاسه لاهثه واقدامه مسرعه تلاحقها ،،،
احتضنها ،، فوضعت رأسها على كتفيه ،، وحنى بكفيه على شعرها المبلل بالمطر ،، لا تذهبي ،،،،
لم يسمح الضباب بأن يرى كل منهما دموع الأخر ،  بعدت يده عنها وقالت : سأرحل ،،،
لم تنظر خلفها واستكملت الرحيل ،،،،،
لم تعد تحتمل ذلك الحب الجنوني ، أيقنت بأنها لم تكن تلك البطلة الأسطورية في حكايا الجدة العجوز ، او فارسة أحلام تأتي من التاريخ والزمن البعيد ، او بطلة من روايات جين اوستن او شكسبير او الاخوات برونتي ،،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
لا تستطيع أن تحب طفل يلهو في أحضانها ، او تحب رجلٌ يجعلها تلميذة في محراب عقله ، سئمت ذلك الحب ،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
قال : انتظري لا تذهبي ،،،،
بدت كأنها كوميض يبتعد ، كضوء فنار ، يبحر بمركبه الصغير ويصارع الأمواج كي يصل اليها ، أذا بها تطفيء انوارها في وجهه ،،،،
كاد يسقط في وحل المطر ، كأنها أحدى سقطات المسيح السبع على طريق الألام ،،،،،
أبتعدت ، أصبحت كالطيف يترك بقايا ضوء فيخفت تدريجيا الي ان ينزوي فيصبح مجرد زكري يلتهمها النسيان ،،،،،
الرياح اشتدت عبر النافذة بدأت تطاير الصفحات الصفراء للرواية الناقصة ، كما تطايرت الأوراق من صفحات عمره كشجرة كستناء تطايرت اوراقها في خريف شديد القسوة .....
بالقرب من البحر وقفت من بعيد تنظر الى المقهى ،، كانت على الجانب الاخر من الشارع ،،،
كان المساء قد بدأ يرخى سدوله وحركة المارة بدأت تقل قليلاً ،،،
ضوء المقهى يتسلل عبر الستائر وهو دائما يجلس يحتسى قهوته  بجوار الشباك الزجاجي المطل على الشارع ،،،
يتنازعها الخوف والأمل ،، كلما مدت رجلها لتعبر الطريق تأتي سيارة مسرعه فتعيدها كأنها هاتف من الماضي يردعها أن تذهب اليه بعد أن هجرته ورحلت عنه ،، أمل في أن يصفح عنها بعد ماكان منها ،، وبين الخوف والأمل يسكن الضباب ،،،،
جلس على الكرسي الهزاز ، كرسي ذكرياته القديمه لم يعد يحتمل تلك الرياح الشتوية البارده ،،،،
تشتد الريح وتطاير صفحات الرواية الناقصة ، صفحة تلو الاخرى تطاير ...

عبرت الطريق بعد أن هدأ الشارع من مرور السيارات ، وقفت بجوار المقهى تنظر اليه وهو يحتسى قهوته وأمامه بعض أوراقه وقلمه الذي يحب أن يكتب به دوماً ،،،
دفعت باب المقهى بيديها وذهبت الي الطاولة التي يجلس عليها ،، ما أن وقعت عينيها عليه حتى خفق قلبها بشدة ،، لحظات مابين الرغبة في الصفح والغفران وبين الخوف من المجهول ،،،
انتظار الغفران فيعود طفلاً يلهو بين حناياها ، أو معلماً تعيش بين جنبات محرابه ،،،،
نظر اليها ، كأنها العدم لم يعد يراها ،،،،
لملم أوراقه وقال لها معذرة ,,,,
دفع حساب قهوته وانصرف ،،،
سقط القلم الذي جف حبره وتطايرت اوراق الرواية في جنبات الغرفة القديمة ، وهو مازال يهتز على كرسيه القديم ، والكرسي يُحدث نفس صوت الأنين كأنين السواقي الحزينه ، وهو الى ثٌبات عميق ,,,,,,,,,,,