السبت، 31 ديسمبر 2011

التطور والنشوء للمواطن الشريف



عام 2011 أو عام الربيع العربي نسبة للثورات العربية التي بدأت من تونس مروراً بليبيا ومصر واليمن وصولاً الى ثوريا ، كان هذا العام هو بزوغ نجم المواطن الشريف على الساحة العربية والمصرية بالخصوص ، وهو بالمناسبة لقب مجازي فكاهي أطلقه الثوار على مؤيدي الثورة المضادة او من يشككون في الثوار والناشطين وحتى المؤيدين للثورة ووصفهم بالمخربين واصحاب الاجندات والمندسين وغيرها من الأتهامات سواء كانت على حق أم على باطل .

لم يكن ذلك المواطن الشريف وليد تلك الثورات أو ما أعقبها من أحداث بل هو مواطن جذوره ممتدة لمئات بل ألاف السنين .
لو تعمقنا في التاريخ الأنساني قد نجد انه ظهر بعد أبو البشر ونبي الله ادم عليه السلام بالتحديد في حقبة سيدنا نوح عليه السلام  ، بعد أن كان الناس يعبدون الهٌ واحد ، بدأ الناس يقدسون بعض الأشخاص الصالحين وبعد مماتهم صنعوا لهم تماثيل ومعابد تخليداً لذكراهم ، فاستغل الملك حين ذاك تلك التماثيل والأصنام ليقنع قومه انه بيحكم من وحي هؤلاء الأشخاص المقدسين ، وتحولت تلك الأصنام الى الهة يعبدها الناس من دون الله ، فبعث الله نوح عليه السلام ليهدى قومه الى عبادة الله الواحد الأحد .
هنا ظهر المواطن الشريف التي تتعارض دعوة وثورة نوح عليه السلام مع مصالحه الخاصة ، فكان ذلك المواطن الشريف يعمل في تلك المعابد التي تُقدم فيها القرابين ويسرقها ، كان يعمل لدى الملك الظالم ومن حاشيته المقربين فكانت شبكة مصالحه مرتبطه ببقاء هذا الملك ،المواطن الشريف الغني منهم يرفض مبدأ المساواة والعدل وأن يُؤخذ من ماله للفقراء ، ومنهم ذلك المواطن الكاره والرافض للمحاسبة والقيود همه الأول الهلس والمنكرات التى حرمها الله ، وخوفه الأول من الأداب والقيم الأنسانية التي جاء بها نبي الله نوح عليه السلام ....
فتحرك المواطن الشريف بغريزته الفطرية لرفض هذا النبي والذين امنوا معه ، ظل يرفض ويقاوم النبي مئات السنين ، ويحاربه هو والمؤمنين بضراوة ، وصفه ساحراً ووصفه مجنوناً ورجل هرم اختل عقله ، طاردوه في الصحاري والغابات ،،،،
يرى المؤمنين وهم يُعذبوا فيشمت بهم ويتلذذ بألامهم لأنهم يستحقوا ذلك ان عذابهم من غضب الالهة ، يوصفهم بأنهم اصحاب دين جديد ليحققوا مكاسب خاصة بهم ، فتفنن المواطن الشريف الأول في رفض ثورة نوح والذين امنوا معه .
الى ان بنى نوح السفينة فكانوا يسخرون منه ، كيف يبني سفينة في قرية لا تطل على البحر !!
فجاء الطوفان ، نجا نوح والمؤمنين برسالته وبعض الحيوانات والطيور والنباتات ، وهلك المواطنين الشرفاء وكان اشهرهم الأبن الأكبر لنبي الله نوح والرافض لثورة ورسالة أبيه .......
لم ينقرض ذلك المواطن الشريف بعد أن هلك اسلافه في الطوفان ، بل ظهر مرة أخرى مع جميع الأنبياء والرسل ، مواطن يرفض الرسالة والحق ويسعى خلف الباطل ،،،،
يكذب عينيه وهو يرى نبي الله ابراهيم كيف ينجيه الله من النار ، يرفض منطق ابراهيم عليه السلام بعد ان حطم الأصنام ، يقول لهم ابراهيم عليه السلام لقد حطمهم كبيرهم هذا ، فسألوهم ان كانوا ينطقون ، فينظر مندهشاً ويهرش بأصبعه في شعره ويفكر برهة ثم يختلق حجة بديعة ماعلمت هؤلاء ينطقون ،،،
يصف هود وصالح بالجنون ، وشعيب بالخرف والكبر في السن ، وموسى بالسحر والتواطيء والسعي للملك والسيطرة على أرض مصر ،،،،
يتهم مريم العذراء في شرفها ثم يشمت في المسيح عيسى عليه السلام وهو يسيل دمه على طريق الألام ......
وصولاً لخاتم النبين والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام كذبوه واتهموه بانه ساحر وكاهن وشاعر ثم اخرجوه ،،،،
فنصر الله الأنبياء والرسل جميعاً ، وفي كل حقبة زمنية ينهزم ذلك المواطن الشريف ويهلك ويعود خاسئاً نادماً .
الى ان وصلنا لعصرنا الحالي  ، مروراً بالمواطنين الشرفاء في العصر الفرعوني والروماني والقبطي والاسلامي .
المواطن الشريف ليس مرتبطاً بسن معين فهو شاباً او في خريف العمر ، تراه في طبقات اجتماعية مختلفة من الطبقات الدنيا الفقيرة وصولاً للغنية المرفهة , ليس مرتبطاً بالتعليم فهو قد يكون حرفياً او معلماً او طبيباً ومهندساً ، او يعيش في الخارج ،،،،،
يدعي الحكمة والعقل والثقافة ، يتناقش بحدة ويستخدم مصطلحات لم يكن قبل عام مضى يعرفها ، يردد كثيرا كلمات كاليسار واليمين والليبرالي والعلماني وحكومة التكنوقراط  وعجلة الأنتاج والحكومة الألكترونية ، التجربة الماليزية والتركية والكورية ، النظام البرلماني والرئاسي .
يحزن كثيراً على خسائر البورصة وهو ليس له ناقة ولا جمل في المؤشر المنهار .
مشاعره مرهفة وحساسة والغريب انها متناقضة ، يحزن كثيراً وينفعل بشدة على مقتل الفلسطنين على ايدي الاسرائيلين ، وعندما تحرر الثورة ارادة الشعب وينادي الثوار بحقوق الفلسطنين ، يندهش ويقول : خلينا في الهم ال احنا فيه ، فلسطين ايه دلوقتي ده الفلسطنين دوول يستاهلوا ماهما ال كانوا بيبيعوا اراضيهم لليهود .
يبحث دائما وبشكل متواصل عن حجج لاثبات صحة سلبيته وعدائه للثوار ، يصنع اعداء وهمين يستلهمها من وسائل الأعلام المروجة لتلك التخاريف ، حاملات طائرات على الحدود منتظره سقوط مبارك لتنقض علينا ، اسرائيل في الشرق والناتو في الغرب والحبشة في الجنوب واوروبا في الشمال ، لا يغمض له جفن وهو يفكر في العدو الماسوني وان سألته ماهي الماسونية يتصبب عرقاً من الخوف والارتجاف ويظنها مس من الشيطان والعيوذ بالله .
يكون هو نفسه محباً لأعلامي يظهر على التلفزيون المصري كان محباً وموالساً للنظام السابق ، ونفس الأعلامي يعتبره خائناً ممولاً من الخارج لانه يؤيد الثورة .
يدعى التدين ويجعل في الدين تبرير لسلبيته وعدائه للثوار ، وهو يمارس الرشوة وظلم اهل بيته والهروب من العمل ، يصف الفتيات ال تم سحلهن وانتهاك اعراضهن بصفات مشينه وسيئة وهو قد يكون بيتلصص على زوجة جاره ، او يتحرش بزميلته في العمل .
يعيش حالة من اليتم الأبوي والخوف من المستقبل عندما لا يجد طاغية وديكتاتور يعبده ويمجده ويعيش تحت مظلته الدائمة ، يصنع حوله البطولات الأسطورية والمعارك التي انتصر فيها على الأعداء ويظل يتغنى بها ، يعيش في ذل وقهر ذلك الأب والقائد ، ثم يبتسم ويقول هل من مزيد .....
دائماً هو صنيعة الملوك والطغاة ، يتعمد الديكتاتور او الطاغية ان يجّهل شعبه ، فلا يجعل له في العلم نوراً يرى من خلاله الحق والمعرفة فيهتدي بها في ظلمات الجهل والتخلف ،،،،
يجوع شعبه فلا يعطى لهم سبيلاً للتفكير والتأمل والبحث عن حقوقه المغتصبة والضائعة ، فيظل رهيناً للبحث الدئوب عن سد جوعه بالكفاف والقليل .
وفي النهاية ينتصر الحق ويزهق الباطل ، وينهزم ذلك المواطن الشريف ثم يعيد انتاج نفسه من جديد في عصور وازمنة أخرى . 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يسقط حكم العسكر

الأحد، 4 ديسمبر 2011

أنتصار روح



صعد درجات السلم بصعوبة ووهن ، لم يعد حتى عُكازه يساعده على تحمل الألم ، دقات قلبه تتباطيء ، ويديه ترتعشان ،،
جلس على أخر درجات السلم بجوار باب شقته واضعاً عُكازه بجواره ملقى على الأرض ، استعاد توازنه وبدأ قلبه يعود الى طبيعته ،،،،
أخرج مفتاح شقته ووقف كي يفتح الباب ثم انتظر قليلاً  ، لا يوجد في الداخل سوى الوحدة ، زوجته ماتت منذ ست سنوات وابنه وابنته تزوجوا وهاجروا الى كندا ، وأصبح هو وحيداً يُحادث التلفاز ويستمع الى الراديو ، يلتهم الجرائد ويجلس طيلة النهار في المقهى ،،،
وضع مفتاح شقته في جيبه وأنحنى ليمسك عُكازه وهبط الى الشارع ،،،
خرج الى الشارع ، مزيج من صوت السيارات والمارة وثرثرة الزبائن في المقهى وأغنية لأم كلثوم تأتي من مذياع ليس ببعيد ،،،
نادي على صبي المقهى وطلب منه أن يأتيه بكرسي يجلس عليه ،،،،
جلس على الكرسي واضعاً يديه ورأسه على العكاز ، تذكر مرضه ووحدته ،،،،
أصبح المرض كبرزخ بين الأمس واليوم ، الماضي والحاضر ، اللحظة الفارقة بين الضوء والظلام ، مهزوماً أمام اتحاد الوحدة والمرض ، لا يتضامن معه سوى عُكازه ،،،،،
انتشله من ظُلمات التفكير صوت الفتى يناديه بأن التاكسي وصل ،،
جلس بجوار السائق وقال له : اطلع على سيدنا الحسين .......
توقف السائق فجأة وقال : صعب ياحج المظاهرات قافله شوارع وسط البلد .....
نظر من الشباك وبعد تفكير قال : طيب اطلع على اقرب شارع لميدان التحرير .....
أعاد السائق تشغيل سيارته وقال : توكلنا على الله .....
الزحام خانق ، وراديو السيارة يُطرق عقله بموسيقي صاخبة ، الى جانب ثرثرة على فترات من جانب السائق يرد عليها بكلمات قليلة ، ثم ينظر من الشباك فتدور عينيه في دوامة البشر اللامتناهية ،،،،،،
توقف السائق واخبره ان هنا اقرب مكان لميدان التحرير ، ثم ابتسم السائق وقال : خلي بالك من نفسك بقى ........
كانت رائحة الغازات المسيلة للدموع تنبعث من الشوارع المحيطه بالميدان وأصوات سيارات الأسعاف لا تتوقف ، أحس يالخوف والتردد لكنه أستكمل سيره يسنده عُكازه ،،،
الميدان ككعبة يطوف حولها المتظاهرون ينشدون اناشيد الحرية ،،،،
وصل الى احد الخيام المُقامة في الميدان وجلس بجوار أحدى الفتيات ، كانت تعمل طبيبة متطوعه لعلاج الجرحى ، وبجواره على الجهة الأخرى مدون وناشط سياسي ،،،،
وفلاح يحمل السندوتشات والشاي ويوزعها على من في الخيمة ،،،،
كان صامتاً لا يتكلم ,,,,
أحس بأنه استعاد عائلته ، روحه انطلقت في حرية بعد أن خنقها المرض وتكالبت عليها الوحدة ،،،
كان يذهب الى بيته في المساء ويعود الى الميدان في الصباح ،،،،
ظل مواظباً على الميدان حتى لو لم يوجد اعتصام أو تظاهر ,,,,,,,,

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

تغريدة الجدران



أنطلق بدراجته يجوب شوارع الحي والأحياء المجاورة فرحاً بأنتصار الأهلي ، يحمل علماً احمر كبيراً يرفرف بحرية فوق الدراجة ، فهو أهلاوي مُتعصب منذ نعومة أظفاره ، تعلم تشجيع الأهلي من أبيه وأخوته ، فأصبح يسرى في عروقه سريان الدم ،،،
جلس على الرصيف سانداً بظهره على سور المدرسة الثانوية التجارية التي يدرس بها عامه الأخير ، كان ينتظرها ان تنتهى من يومها الدراسي كي يتمشيان سوياً ويقوم بتوصليها الى بيتها ،،،
أصغر منه بعام ، لها ثلاثة أخوة أكبر منها كانوا يعارضون كثيرا تعليمها ، لكنها أصرت أن تستكمل تعليمها وتأمل أن تدخل كلية التجارة ،،،
خرجت من بوابة المدرسة بملابسها المدرسية ذات اللون الكٌحلي ، والحجاب الأبيض ، وحقيبتها الصغيرة تُثقل كتفها الرقيق ، تضحك مع زميلاتها ،،،،
يجلس ينتظرها ، ثم أخرج من حقيبته اسبراي الألوان ثم رسم على الجدران " أعظم نادي في الكون " ونسراً يرفرف بجناحيه ،،،،
فأنتظرته حتى أنتهى ثم ضحكت وقالت : لن تُشفى أبدا من هذا الجنون ،،،،،
أخذ منها حقيبتها ووضعها على الدراجة وتمشيا سوياً حتى الحي الذي يسكنان فيه ،،،،،
وجدت أمها تستقبلها بوجه بشوش وفِرح وأمسكتها من يديها وأخذتها على غرفة نومها ، وقالت لها وهي تضحك : مبروك ، تقدم اليكِ عريس ، وأباكِ وافق عليه ، أنه الشيخ ابو العزم ، صديق أبوكِ ،،،،
أندهشت الفتاه ، توقفت عن الكلام للحظات ثم قاطعت أمها وقالت : انه أكبر مني بثلاثون عاماً ومتزوج وله أولاد وبنات أكبر مني ،،،،،
نظرت لها الأم بأستخفاف وريبه وقالت : وما العيب في ذلك الشرع يحلل له اربع ، وابوكِ واخوتك وافقوا ولن يستطيعوا رد كلمة الشيخ ،،،،
بكت الفتاة وقالت : لماذا ، أريد أن استكمل تعليمي ومجموعي يؤهلني في سنوات دراستي أن التحق بكلية التجارة ،،،
يدخل الأخ الاكبر بعد أن سمع حديث أخته مع أمه ونظر بأستهزاء لأخته وقال : هذة الأمور لا يتناقش فيها النساء ، لقد وافقنا وحددنا ميعاد عُرسك ، الرجل يريدك كما أنتي ، وأياك أن اسمعك تتناقشين في هذا الأمر ،،،،،،
مازال الفتى ينقش على الجدران حبه للأهلي ، الحرية للألتراس  ، هفضل وراه ،،،،
في الميدان كانت التظاهرة قد وصلت وعدد غفير من الشباب والفتيات يحملون لافتات ، لم يكن ليهتم بها  ، هتافات مدوية تحاكي تلك التي يهتف بها في الأستاد ،،،،
وقف من بعيد ينظر ويراقب ،،،،،
لافته كبيرة مكتوب عليها " لا للمحاكمات العسكري " واخرى تحملها فتاة " يسقط قانون الطواريء " ولافتات اخرى مكتوب عليها الحرية لأشخاص لا يعرفهم ،،،،،
انطلق بدراجته خلف التظاهرة ، واقترب منها ،،،،
شاب يعطيه ورقه بها الكثير من الكلام فنظر الى الشاب وقال ما معناه ،،،،،
فأبتسم الشاب وظل يتكلم معه ويشرح له عما تحتويه تلك الورقة ،،،،
نظر الفتى الى الشاب والتظاهرة الكبيرة وقال : لقد فهمت الأن ،،،
وضع دراجته فسقطت على الرصيف وجلس بجوارها أسفل سور المدرسة ينتظر صديقته ، ظل ينتظر ، حتى خرج زميلاتها ، فتقدم وسأل احدهن عن صديقته فأخبرته أنها لم تأتي الى المدرسة منذ يومين ،،،،
لم يراها منذ أسبوع ، كل يوم يذهب الى المدرسة وينتظرها ،،،
خرج بعد الفجر وظل يجوب كل مدارس الحي وجدران العمارات ، يٌخرج الأسبراي الملون والورنيش ،،،،
جعل من الجدران تغريدة يتردد صداها ، يسمعها ويراها الجميع " لا لمحاكمة المدنين عسكرياً " على جدار المصلحة الحكومية رسم باللون الأحمر وجه شاب ممن راهم على اللافتات وكتب أسفلها  " الحرية لأصحاب الرأي " على سور المدارس صرخ " لا لقانون الطواريء " وأمام احدى مراكز الشرطه كتب على الرصيف بخط عملاق " نعم للدولة المدنية وتسقط الدولة العسكرية " ،،،،،،
الفتاة تقف في وجه أبيها وتقول له : أريد أن استكمل تعليمي ، حرام تزوجني لرجل يكبرني بثلاثون عاماً ،،،
يشتاط الأب غضباً ، فيضربها ضرباً مبرحاً فتسيل الدماء من جبتها وتسقط على الأرض ،،،
وفي الشارع تصرخ أم الفتى !!
لقد اُلقى القبض عليه من قبل الشرطة العسكرية ،،،،
الفتى يبتسم للشرطي ويُخرج له علم الأهلي من الدراجة ، فألقاه الشرطي في وجهه وأقتاده الى سيارة الشرطة ,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا لمحاكمة المدنين عسكرياً
لا لقانون الطواريء 
لا للدولة العسكرية 

الخميس، 27 أكتوبر 2011

الصوت المؤلم

لقد انتهت للتو من مراجعة الدروس لأبنتها ، الساعة قاربت على التاسعة وكوب الشاي بجوارها قد أصبح بارداً ، مسكته بيديها فأحست بالضيق ، كانت تحتاجه بشدة كي تحس بالدفء ،،،،

مع دقات الساعة التاسعة تذكرت موعد الدواء الخاص بالسكر لوالدتها العاجزة ،،،،

كانت الأم العجوز تجلس على كرسيها المتحرك أمام التلفاز ، ملقية رأسها في سُبات عميق ،،،،

جائت بكوب الماء وقرص الدواء وأيقظتها ووضعته في فمها واعطتها الماء كي تشرب ، ثم دفعتها بالكرسي الى غرفة نومها واستندت عليها الأم حتى نامت في سريرها ،،،،

الطفلة ابنة العشر سنوات وقفت أمام المرأه تصفف شعرها وتصنع منه ضفيرتين وتعبث بأدوات التجميل الخاصة بأمها ،،،،

ما أن وجدتها هكذا حتى أبتسمت واقتربت منها ، وقفتا معاً أمام المراه ، جائها ذلك الطنين الذي يجتاح عقلها عندما تصبح وحيدة ، ذلك الأجتياح كان يحمل معه  أساله وذكريات ،،،،

عشر سنوات مرت منذ زواجها ، طفلتها الصغيرة أصبحت طويلة ترى نفسها في التسريحة بدون ان تقف على كرسي ، شعرها أصبح طويلاً يصل الى منتصف ظهرها ،،،،

خمس سنوات مرت على وفاة الزوج ، أحبها كثيراً لكنه خرج يوماً للعمل فاتصلوا بها واخبروها انه مات بعد ان اصتدم بسيارته في سيارة نقل كبيرة ،،،،

بدأ الطنين والصداع يجتاح عقلها ويسيطر عليها كلما كانت وحيدة ، بعد موت زوجها بستة أشهر ،،،

المسكنات تهدئه قليلاً لكنها لم تنتصر عليه ، أصبحت تخاف الوحدة ، وتخاف ذلك الصوت المؤلم  لكنها اعتادته ،،،،

الوهن والضعف والتجاعيد بدأت تظهر على عنقها الطويل وهالات سوداء أسفل عينيها ، أنها لم تتجاوز الرابعة والثلاثين من عمرها ،،،،

طلبت من طفلتها أن تذهب الى السرير فالان موعد نومها ،،،

تقف وحيدة أمام المنضدة ، تمسك بيدها سكيناً وتقّطع بعض الفاكهة ،،،
قطعت أصبعها بالسكين وسال الدم منها ، واتكأت على المنضدة تبكي ، الدم مازال ينزف منها وهي منحنية على المنضدة أمام صورة زوجها المعلقه على الحائط ، هاهي بنتها جائت ، أمسكت يديها ووضعت المنديل على أصبعها ثم احتضنا بعضهما  ،،،،

تكرر ذلك معها كثيراً ، تقطع أصبعها بالسكين او تسقط منها الأطباق ، والطنين المزعج مازال يجتاحها ،،،

عندما تخرج في الصباح يكون الجار الشاب صاحب محل الزهور قد بدأ يفتح دكانه ، يُخرج عصافير الجنة واصص الورد البلدي واشجار الدراسينا الصغيرة ويضعها أمام الدكان ،،،

دائما تحب أستنشاق رائحة الورد البلدي الأحمر وهي تركب سيارتها ،،،،

ودائماً مايتابعها بنظره حتى تغيب وتختفي بسيارتها بعيداً ،،،

كان يكبرها بعام واحد ويعيش وحيداً في شقته بعد موت أمه وأبيه وزواج اخته الصغرى ، أحبها ومازال يحبها ، لكنها أحبت رجلٌ غيره وتزوجته ولم تلتفت أبداً الى نظراته ،،،،،

تعود الطفلة الصغيرة من المدرسة ، تحمل وردة حمراء اللون ، فتقول لأمها أنها اخذتها من دكان الزهور ، كلما خرجت الطفلة الصغيرة يعطيها وردة حمراء ، كانت الطفلة تحب اللون الأحمر مثل امها ،،،،

طنين الوحدة يهاجمها بشراسة أصبحت لا تنام ، تستيقظ من نومها تبكي ، لا تستطيع تحمله ولا مقاومته ،،،،

خرجت في الصباح ، عندما اخترق ضوء الشمس عينيها أحست بذلك اللون الاحمر القرمزي يحاصرها ، ودوامات من الاصوات واجسام غير واضحه من البشر ،،،

ظلت تقاوم حتى وصلت لسيارتها ، أخرجت المفاتيح من حقيبتها وما أن اخرجتها سقطت المفاتيح من يدها ، ثم ازداد الطنين وتوقف فجأة مع سقوطها على الارض ،،،،

،،،،،،،،،،،

فتحت عينيها ، وتلفتت حولها ، بائع الزهور يجلس على كرسي نائماً ، محاليل معلقة ومثبته بيديها ، على اليسار باقة من الزهور والورد البلدي الأحمر ،،،،

تتسائل أين هي وماذا حدث لها واين طفلتها ؟؟

أستيقظ بائع الزهور وابتسم لها وقال : حمد لله على سلامتك ، لقد تعرضتي لاغمائه ونقلتك الى المستشفى بسيارتي ، كنتِ في حالة صحية صعبه بين الحياة والموت وذهبتي في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام ، الطبيب طمئننا لكنك تحتاجين الى الراحة ،،،

تحركت ببطء وخجل وقالت : أين ابنتي ؟؟ وامي لوحدها ؟؟؟

أبتسم لها وقال : لا تقلقي أبنتك بخير كانت بجانبك لكنها الان في البيت ، واختى بجوار امك وتتابع ادويتها بأنتظام ،،،

لم تستطع الكلام ، لكنها ذهبت في نومٍ عميق ،،،،

بعد مرور أسابيع ، أو اشهر ، أو سنة ,,,,,

تجلس في دكان الزهور تنسق الورد البلدي وعصافير الجنه والداليا ، وهو يجلس بجوارها يراجع الدروس للطفلة الصغيرة ،،،

يغلقان الدكان ويعودا سويا ً الى البيت ،،،،

والأم العجوز تتابع المسلسل في هدوء ورضا ،،،

لم يعد يجتاح الطنين والصوت المؤلم عقلها  ،،،،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لمونيه

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

الصورة الأخيرة



كان الحِصان يجري بحرية على الشاطيء ، تتدافع الأمواج من بين أرجله ، ذيله يتطاير في سباق مع الريح ،،،،
ظبط عدسة كاميرته ووقف يلتقط عدة صور للحصان الجامح على شاطيء البحر والشمس تتساقط  الى الغرب واشعتها الأرجوانية مازالت تداعب الأمواج ،،،،
صوت التقاط الكاميرا للصور كأنها دقات الزمن تدون من خلال عينيه وتحفظه مجرد ذكرى وصور فوتوغرافية ،،،،،
موجات الألم بدأت تشتد عليه ، الطبيب قد أخبره في أخر زيارة انه في المراحل الأخيرة من مرضه ، أقترح عليه أن يسافر الى المانيا كفرصة أخيرة لأنقاذه ، لكنه رفض واصر أن يعيش أخر أيامه بين أصدقائه ويلتقط مايستطيع من صور فوتوغرافية ،،،،
وضع حقيبة الكاميرا جانباً وأغلق باب معمله الصغير ، الضوء الأحمر الخافت وبعض الصور معلقة على الحبل حتى تجف ،،،،
أخذ يحمّض أخر صور التقطها ، ثم قام بتعليقها على الحبل ذاته ،،،،
أحس بالدوار والألم يعاوداه لكنه تماسك حتى ينتهى من تحميض كل الصور ،،،،
ارتكز بيده على المنضدة ينظر للأدوية بأشكالها المختلفه والوانها المتعددة لا تسعفه ذاكرته أي منها جاء موعدها ، فدفعها جانباً فتساقطت وتطايرت على الأرض ،،،،
احتاج الى حمام ساخن حتى يستفيق من موجة الألم التى عاودته ، البخار عالق في الهواء كلما تنفس يتطاير حوله ، والماء يصتدم بجسمه ورأسه ، فيدق بقوة على عقله الواهن الضعيف  ،،،،
مازال صدى كلامها له يتردد مع ارتطام الماء الساخن بدماغه ،،،
كلٌ منا في طريق ... لم يكن بيننا حب ، ربما يكون اعجاب .... اعترف اني تعلقت بك لكني لم أعد أحبك .... اتمنى لك التوفيق ،،،،
تقفز الكلمات بنبرات صوتها كأنها فلاش كاميرا غريبة عنه أول مرة يمسكها ، فلاشها يخطف بصره فيرهقه يكاد يعميه ،،،،
اغمض عينيه وترك الماء الساخن يساعده على تحطيم ألمه ،،،،
في غرفته بجوار المكتبه الصغيرة حائط عريض معلق عليها صور عدة مثبته بدبوس صغير ،،،،
معلقه بشكل عشوائي ، صور للبحر والغروب ولحيوانات ،،،
اصدقائه في أوضاع مختلفه وهم يأكلون او يسبحون ، فيهم من يبتسم او يظهر عليه الحزن ومنهم من يشعر بلحظات جنونية لحظة التقاط تلك الصور ،،،،
في الوسط توجد صورها رقيقه كالعادة ، تفرد ذراعيها كأنها تطير وخلفها امواج البحر ، تمسك شعرها في نظرات شقية ومثيرة ، تجلس على صخرة متلثمة كالفارس ، ترسل قبلة في الهواء له اثناء التقاط تلك الصورة ،،،
نظر للصور جميعا ثم قام بنزع صورها ووضعها جانباً بجوار جريدة قديمة وكوب ماء فارغ ،،،،
صديقته القريبة منه عادت للتو من أجله ، هي الوحيدة من بين اصدقائه التى علمت بمرضه ، فقررت أن تعود لكي تبقى بجواره ،،،
رأته وارتمت في حضنه وظلت تبكي ، رفع وجهها وهو يبتسم : لماذا تبكي  ، الحياة لا تعني لنا شيئاً ، اخذنا منها سوياً قدراً من السعادة لم يستطع أحد ان يتمكن منه ، لنا من الذكريات مايكفينا حتى لما بعد الموت ، لقد عشتي داخلي في الماضي كصديقة عمري ، اتركيني اعيش في داخلك المستقبل ، فنكون سوياً ماضي ومستقبل ،،،
بدأ يحس بموجةً أخرى من الألم والدوار فأمسك بيد صديقته ، وقال لها : سألتقط لنا صورة وسأتركك انتي تحمضيها  لقد علمتك في الماضي كيف تحمضين الصور ، تحتفظي بمفتاح المعمل وكامرتي الخاصة ،،،،
تمشيا سوياً على البحر ، مازالت الشمس توُلد من جديد من اجل الشروق ،،،،
كان الحِصان الذي يأجره الفتى على الشاطيء واقفاً في هدوء وسكينه والفتى مازال نائماً بجواره ،،،
وصديقته وقفت خلفها البحر والشمس تنبت تدريجياً من باطن البحر ، يتطاير شالها الذي تربط به شعرها ،،،،
وضع الكاميرا على الصخرة ثم نزع الوشاح من شعرها وترك شعرها يتطاير بحرية ولف الوشاح حول رقبته ،،،
ظبط الكاميرا على وضع الأستعداد ، ثم ذهب سريعاً ووقف بجوار صديقته ،،،
قال لها أبتسمي ..........
أخذها بين ذراعيه ، وفي اقل من ثلاث ثواني أصدرت الكاميرا صوت التقاط الصورة الأخيرة ,,,,,,,,,

الأحد، 16 أكتوبر 2011

الغفران



وقفت من بعيد تنظر الى المقهى ،، كانت على الجانب الاخر من الشارع ،،،
كان المساء قد بدأ يرخى سدوله وحركة المارة بدأت تقل قليلاً ،،،
ضوء المقهى يتسلل عبر الستائر وهو دائما يجلس يحتسى قهوته  بجوار الشباك الزجاجي المطل على الشارع ،،،
يتنازعها
الخوف والأمل ،، كلما مدت رجلها لتعبر الطريق تأتي سيارة مسرعه فتعيدها كأنها هاتف من الماضي يردعها أن تذهب اليه بعد أن هجرته ورحلت عنه ،، أمل في أن يصفح عنها بعد ماكان منها ،، وبين الخوف والأمل يسكن الضباب ،،،،
كان
المطر حينها شديداً ،، والوحل  قد حاوط قدميها ،، تحاول ان تخطو مسرعة فلا تستطيع ،، تريد أن تجعل رحيلها سريعاً بدون أن تسمع أنفاسه ودقات قلبه واخيراً ندائه بأن تعود ،،،،
قد حسمت أختيارها بأن لا عودة اليه ، لا يستطيع أن يحقق  ماتريد ،،،،
ترفع قدميها من الوحل تريد أن تتركه وترحل سريعاً ،، طغى على أعماق قلبها صوته وهو يناديها ،، انتظري
....
توقف عقلها عن التفكير ،، وتباينت المشاعر داخل قلبها ،، أصبحت تجهل الطريق فلم تعد تشعر بشيء الا بالضياع والرغبة في الهروب ،،،،
أين تذهب ،، كانت لا تريد أن تسمع صوته أو ان ترى دموعه ،، لا تريد شيء يردعها عن قرارها بالرحيل ،،،
ترحل عن من
....
مازال صوته يتردد في جنبات الضباب اللامتناهي فيعود اليها صدى صوته محملاً على قطرات المطر ،، أنتظري
....
ليت المطر والفضاء يخنق ذلك الصوت ،،،
مضت تجر قدميها وتنازع الوحل العالق في قدميها ،،،
من بين حنايا الضباب والظلمه سمعت أنفاسه لاهثه واقدامه مسرعه تلاحقها ،،،
احتضنها ،، فوضعت رأسها على كتفيه ،، وحنى بكفيه على شعرها المبلل بالمطر ،، لا تذهبي ،،،،
لم يسمح الضباب بأن يرى كل منهما دموع الأخر ،  بعدت يده عنها وقالت : سأرحل ،،،
لم تنظر خلفها واستكملت الرحيل ،،،،،
لم تعد تحتمل ذلك الحب الجنوني ، أيقنت بأنها لم تكن تلك البطلة الأسطورية في حكايا الجدة العجوز ، او فارسة أحلام تأتي من التاريخ والزمن البعيد ،،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
لا تستطيع أن تحب طفل يلهو في أحضانها ، او تحب رجلٌ يجعلها تلميذة في محراب عقله ، سئمت ذلك الحب ،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
قال : انتظري لا تذهبي ،،،،
بدت كأنها كوميض يبتعد ، كضوء فنار ، يبحر بمركبه الصغير ويصارع الأمواج كي يصل اليها ، أذا بها تطفيء انوارها في وجهه ،،،،
كاد يسقط في وحل المطر ، كأنها أحدى سقطات المسيح السبع على طريق الألام ،،،،،
أبتعدت ، أصبحت كالطيف يترك بقايا ضوء فيخفت تدريجيا الي ان ينزوي فيصبح مجرد زكري يلتهمها النسيان ،،،،،
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
عبرت الطريق بعد أن هدأ الشارع من مرور السيارات ، وقفت بجوار المقهى تنظر اليه وهو يحتسى قهوته وأمامه بعض أوراقه وقلمه الذي يحب أن يكتب به دوماً ،،،
دفعت
باب المقهى بيديها وذهبت الي الطاولة التي يجلس عليها ،، ما أن وقعت عينيها عليه حتى خفق قلبها بشدة ،، لحظات مابين الرغبة في الصفح والغفران وبين الخوف من المجهول ،،،
انتظار الغفران فيعود طفلاً يلهو بين حناياها ، أو معلماً تعيش بين جنبات محرابه ،،،،
نظر اليها ، كأنها العدم لم يعد يراها ،،،،
لملم أوراقه وقال لها معذرة ,,,,
دفع حساب قهوته وانصرف ،،،

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

النظرة الأولى



وقف قليلاً على باب المقهى الفرنسي قبل أن يدخل ، يحمل بعض الأوراق  ويلبس معطفاً بني اللون ويلف حول عنقه وشاحاً أسود ، كان المطر قد توقف فقط منذ قليل ،،،،
أخذ يتفحص المقهى بنظره قليلاً قبل أن يختار طاولة يجلس عليها ، الجرسون يتحرك بشكل دئوب بين الطاولات ، تارة يحمل الأكسبرسو أو القهوة الشرقية أو النسكافيه ، وشاب وفتاه يجلسان سوياً يتهامسان ، وعجوزاً يجلس وحيداً ويشعل سيجاراً ،،،،
على اليمين لفتت نظره بشعرها الأسود الطويل وعيناها السود الواسعتان ، لم يدري كنه ذلك السحر والبريق الأخاذ الذي يشع من عينيها فوقف قليلاً يتأملها ثم أتخذ طاولة مقابله لها ،،،،
أمامها صندوق اسود مكسو بالجلد خاص بالكمان ، وكوب قهوة ممتلىء لنصفه فقط ،،،،
خلع وشاحه ووضعه جانباً ، ثم تخلص من معطفه بعد أن أحس بالدفء داخل المقهى المعبأ برائحة القهوة على مختلف أنواعها ،،،،
نادى الجرسون وطلب كوب من الكابتشينو ، ثم أمسك قلمه الرصاص ونوى أستكمال روايته ،،،،
لم يستطع الكتابة ، توقف عقله وعاصاه قلمه ، ظلت عينيه معلقة بصاحبة العيون السود ،،،،
عيناها الساحرتان لا تلتفت كثيراً ، ناظره أمامها مباشرة ، تحركت يداها ببطء وفتحت صندوق الكمان ، أخرجت الكمان وتحسست اوتاره برقه ثم وضعته أسفل ذقنها ، فسقط شعرها الأسود الطويل عليه ، فلملمته للوراء ، وبدأت تعزف مقطوعتها ،،،،،
حزينة وعذبه ورقيقه ،،،،،
أناملها لم تكن تتحرك على أوتار الكمان ، بل تلامس أوتار قلبه ،،،،
قلمه الرصاص لم يكن ليكتب لكنه بدأ في رسمها على لوحة بيضاء ، عيونٌ سوداء كليلة من ليالي ديسمبر الشتوية ، شعر أسود يسبح بحرية يتناغم مع مقطوعتها الحزينة ،،،،،
لم تكن حياته سوى تلك المقطوعة الحزينة ، عمره وذكرياته ، حبه وأمنياته ، خطاياه وحسناته ، أبحاره كمسافر لا يصل ابداً الى شاطئه وموطنه ،،،،،
من النظرة الأولى سحرته ، أكانت تنظر له  ؟؟؟ ، عيناها كأنها  تبحث دائما عن شيء ما فقدته ،،،،
مع انتهاء مقطوعتها الحزينة ، قد انتهى من رسم لوحته البسيطة ، كان سيكتب ، لكنه رسمها ،،،،،
تحسست بيديها صندوق الكمان ففتحته ووضعت فيه الكمان ،،،،،
قام من على طاولته واقترب منها ، فلم تلتفت له ،،،،
وقف أمامها وأثنى على عزفها الرقيق ،،،،
التفتت له وشكرته على ثنائه وهي لا تنظر الى عينيه ،،،،
أستأذنها أن يجلس معها ، فأخبرته أنها تنتظر صديقتها كي توصلها لمنزلها ،،،،
اصتدمت يداها بكوب القهوة الفارغ فسقط على الأرض ،،،،
وجهها الأبيض الثلجي اصبح وردياً من الخجل ،،،،
صاحبة العيون السوداء الساحرة عمياء ،،،،،
لبس معطفه البني ووضع وشاحه الأسود حول رقبته ، ولملم أوراقه في مقدمتها بورتريهاً لفتاة تعزف على الكمان ،،،،
أمسكت صندوق الكمان ، ووضعت يديها في يده وخرجا سوياً ، يخترقان زحام شارع الكورنيش المطل على البحر ,,,,,,,,,,,

الخميس، 29 سبتمبر 2011

نأسف لرفض شكواكم


مر للتو قطار العاشرة صباحاً فأنتشر الغبار حول البيت الصغير ثم هدأ تدريجياً بعد مرور اخر عربة للقطار ،،،،
الزوجة العجوز تقف منحنية أمام البوتجاز الصغير تنتظر غليان الماء حتى تصُب الشاي ،،،
والزوج رغم هِرمه وكبر سنه لكنه يحتفظ بقوته وصبره على العمل في غيطه الصغير المحيط بالبيت ، يحرث الأرض بالمحراث المربوط بحمارين وكل دقيقه ينظر الى باب بيته منتظراً خروج زوجته بكوب الشاي ، يود أن ينتهى قبل ان تشتدد حرارة شمس مايو القوية ،،،،
صاحت الزوجة وهي تمسك صينية الشاي التى تهتز قليلاً في يديها ونادت زوجها ، فعاد مسرعاً اليها وجلسا سوياً أسفل شجرة التوت  التي تظلل بفروعها الوارفة البيت الصغير والدكة الخشبية التي يجلسان عليها ،،،،
الطريق الزراعي الذي يقطع البلدة يمر بالقرب من بيت العجوزين فيجلس على دكته الخشبية ويراقب المارة الغرباء منهم وابناء البلدة ، دائما ماينتظر عودة أبنه الضال الذي خرج شريداً منذ سنوات للهجرة بعيداً بعد أن ضاق به الحال في البلدة الصغيرة ،،،،
نظرا سوياً الى الطريق ، فوجدا شاباً يحمل حقيبة صغيرة ، يمشى بتردد وخوف تائهاً كأنما يبحث عن شيء ، ما ان راه الرجل حتى ادرك أنه غريباً ، دمعت عينا الزوجة فتذكرت أبنها الشريد كان يشبه ذلك الشاب نفس الطول والشعر البني وربما نفس السن ،،،،
اختفي الشاب الغريب وسط بيوت البلدة ، وقطع تأملات الرجل وزوجته جرس دراجة موظف مكتب البريد الخاص بالبلده ، أقترب منهما وألقى السلام وقال : لك جواب من السكة الحديد ياعم حسن ،،،،
فأندهش الرجل وتغيرت ملامحه وقال لساعي البريد : خير ياولدي طيب اقعد اشرب شاي ،،،
فأنصرف الساعي وقفز فوق دراجته وشكر الرجل ودق جرس دراجته مرة أخرى ،،،،
فتح الرجل الخطاب على عجل ثم بدأ يقرئه ، عبس وجه واكفهر بشدة ، فتسائلت الزوجة وقالت : بالتأكيد يريدوننا أن نترك البيت والأرض ، لا حول ولا قوة الا بالله ، واين نذهب ، الا يكفيهم ماندفعه من أيجار لهم ، كانت أرض خربة مزروعه بالحشيش الشيطاني ونحن عمرناها  ،،،،
رد الرجل على زوجته وهو ينظر للقطار القادم من الجنوب فأنتشر الغُبار عليه هو وزوجته وقال : عايزنا نسلمها وقالوا : نأسف بأن شكواكم تم رفضها حيث ان قطعة الارض ملك للدولة ولا يحق وضع اليد عليها ، وتسليمها واجب النفاذ بعد أن اخطرناكم عدة مرات ،،،،،
دخل المساء على الرجل وزوجته وكانت نسمات شهر مايو مازالت ربيعية خاصة بعد الغروب ، فقرر أن يذهب الى المقهى الذي يقع بجوار الفندق الصغير في البلدة ،،،
تمشى وعبر الغيط الصغير فوصل للطريق الذي يقطع البلدة ، ووصل الى المقهى ،،،،
كان الزبائن قد بدأوا الوصول بعد أن خف قيظ النهار فازدحم المقهى قليلاً ،،،
جلس وحيداً على طاولة صغيرة بالكاد تتسع لصينية صغيرة للشاي او القهوة ،،،
كان صوت التلفاز عالياً لكن لا أحد يهتم به فأغلب الزبائن مشغولون بأحاديثهم او لعب الطاولة ،،،،،
كان الرجل يحدث نفسه وينظر تائهاً بين التلفاز والزبائن وتارة ينظر للشارع ثم وقع نظره على ذلك الشاب الغريب الذي رأه قبل الظهيرة ماراً بجوار بيته ،،،،
سحب كرسيه واتجه الى الشاب الصغير وجلس وبجواره وقال : أزعجك لو جلست معك ؟؟
فرد عليه الشاب الغريب في هدوء :  لا ابداً ،،،،
قال وهو يمسك كوب الينسون الذى اتي به من علي طاولته الصغيرة : شكلك غريب وليس من هنا ؟؟
فرد عليه : نعم انا من بلد بعيدة وجئت هنا لمراقبة امتحانات اخر العام في اخر يومين ، بدلاً من زميل لي حدثت له بعض الظروف ،،،،
فابتسم الرجل وقال : احسست هذا فأغلب الشبان الغرباء يأتون من اجل رقابة الامتحانات .....
ثم سأله : أتُقيم في المدرسة نفسها ؟
قال : لا انني اقيم في هذا الفندق ، صديقي قال لي انها غير مريحة ،،،،
فتنهد العجوز وقال : نعم نعم انها كذلك فهي غير مجهزة اطلاقاً ويتركون المدرسون في الحرارة الشديدة بدون مراوح ولا يحزنون ،،،،،
صمت الرجل العجوز قليلاً ثم قال : عندي ولد في سنك ويشبهك تماما اسمر ونحيف وله نفس شعرك البني  ، انه ولدي الوحيد لكنه شارد دائما ودائماً علي خلاف معي ومع امه ، يظهر اننا قمنا بتدليله كثيراً عندما كان صغيراً ، الي ان شب عنيداً لا يتحمل المسؤلية ، مع اول مشكلة وقعت فيها تخلي عني انا وأمه واصر ان يذهب للعمل بعيدا ، مع انه أتعين في الجمعية الزراعية هنا في البلد لكنه رفضها ، انني في اشد الحاجة اليه الان، قد يضيع بيتنا وقطعة الارض الصغيرة  !!
هيئة السكك الحديدية تريد ان تسحب مننا الارض لانها ملكاً لها وتقول انها منفعة خاصه بها ، وانا ليس لي مكان اخر اذهب اليه ....
تعرف؟ كانت هذة الارض مهجورة ولا احد مهتم بها فزرعتها وبنيت عليها البيت الصغير الذي يأويني انا وزوجتي وابني ، وقدمت طلب لهيئة السكك الحديدية لشرائها فرفضوا وأجروها لي  والان يريدون ان يأخذوها مني ويطردوني انا وزوجتي ....
كان الرجل يتكلم كثيراً ، والشاب الغريب يحس بالصداع يزداد عليه لكنه ظل يستمع له ولا يريد ان يتركه ،،،،،
فنظر له العجوز في حزن  وقال : صدقني يا ولدي انا اتحدث اليك لاني احس انك مثل ولدي تماما ،،،،
أتعرف؟ لي الى الان اكثر من سبع سنوات ارسل في شكاوي لوزير النقل والمحافظ وعضو مجلس الشعب ولا أحد يسأل في ويرد علي ، لكن كل فترة يأتني رجل شرطه ومُحضر يخبرونني بأنه لابد لي من تسليم البيت والارض ، وقطعة الارض هذه لا تتعدى القيراط ، قُل لي أين اذهب انا وزوجتي ؟؟
فنظر له الشاب نظرة اشفاق وعطف وقال : سيدبرها المولى سبحانه وتعالي ياعماه ،،،
نظر العجوز الي اعلي رافعاً يديه وقال : يارب
قال الرجل العجوز بعد أن صمت قليلاً : سأمر عليك غداً بعد عودتك من المدرسة لأريك بيتي فهو قريب من المدرسة بجوار خط السكك الحديديه ،،،،
انصرف الشاب بعد ان دفع حساب الشاي والينسون الخاص بالرجل العجوز ورجع الي الفندق الذي ينزل فيه  ،،،،

بعد مرور يومين  ،،،

كان الرجل يجلس مع زوجته أسفل شجرة التوت الكبيرة ، الشمس قد بدأ يشتد قيظها بعد الظهيرة ،،،
فوجد سيارة للشرطة تقترب منه وتوقفت  ، ثم خرج منها ظابط وموظف من هيئة السكك الحديدية  واثنان من العساكر ،،،
يطلبون منه تسليم قطعة الأرض والبيت في الحال ، فبكيت الزوجة وقالت : واين نذهب بحاجتنا وعفشنا الصغير ،،،،
رد عليا الظابط معكم لأخر النهار ، هذا أمر واجب النفاذ ،،،،
قال لها العجوز : سنعود الى بيت أبي القديم بجوار المقابر ، لا تقلقي سيدبرها المولى ،،،
مر قطار البضائع بعرباته الكثيرة ، فاستمر الغبار والضجيج كثيراً ، فأنصرف الظابط بسيارة الشرطه وقال : سنأتي أخر النهار ،،،،
بدأ الرجل وزوجته في لم حاجيتهم القليلة وجائهم بعض نسوة القرية يساعدونهم ، وما أن أتما جمع الأغراض حتى سلما البيت وقطعة الأرض التي لم ينتهى من حرثها لزراعتها بالذرة ، وانصرفا يوعدان شجرة التوت الكبيرة ، واتجها الى البيت القديم بجوار المقابر ،،،،،
الشاب الغريب قد انتهى  من مراقبة  الامتحان الاخير  في المدرسة خرج يبحث عن بيت العجوز حسب وصف فتى الفندق له الذي سأله عن البيت الصغير المجاور لخط السكة الحديدية  ،،،،
كانت الشمس تتوسط السماء والحرارة عاليه ،،،،
ذهب الي البيت  ووقف تحت شجرة التوت ينظر حوله فلم يجد شيئاً ،،،،،
 
نظر الى الباب فوجد ختماً احمر ،،،،،،
وخطاباً مُلقى على الأرض ،،،،
فسمح لنفسه ان يفتحه ويقرأه ،،،،
نأسف بأن شكواكم تم رفضها حيث ان قطعة الارض ملك للدولة ولا يحق وضع اليد عليها .....
القي بالرسالة ونظر الي البيت ثم الى القطار المار بجواره  بضجيجه وغباره الشديد  ،،،
ثم ذهب الى  المحطة ليعود لبلدته مرة اخرى,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لفان جوخ    

الخميس، 22 سبتمبر 2011

ثلاث ثواني


تناثرت فُتات الطعام الصغيرة من بين أصابعها ، وتساقطت وأصتدمت بهدوء بسطح الماء ،،،

سرعان ما أحست السمكة الزرقاء بأهتزاز الماء في صورة أمواج صغيرة حتى ألتفت بعينيها الصغيرتين واتجهت لسطح الماء والتهمت فُتات الطعام ،،،،،
أمسكت الحوض المكوّر الصغير وذهبت به الى المطبخ ، وقفت تعد لنفسها الغذاء حسب وصفة الرجيم التي اعتادتها منذ سنوات ،،،،
انتهت السمكة من فُتات الطعام وبعد ثلاث ثواني لم تُسعفها ذاكرتها انها قد أكلت للتو فنسيت انه كان هناك طعام ، ونسيت من وضعه لها ، فحركت ذيلها ورأسها ونظرت للخارج عبر الزجاج الشفاف لتستكشف هذا السجن الذي تعيش فيه ،،،،
تذكرت الان وهي تعد الطعام أنها أكملت الثانية والثلاثون من عمرها منذ عشرة أيام ، فسقط رغيف الخبز السن من يديها وقالت وهي تنظر لسمكتها الزرقاء : يااااه اكثر من ثلاثين سنة مرت من عمري كأنها ستون عاماً ، اتدري ؟؟ ، كان أبي وامي يعدان الأحتفال بيوم مولدي قبلها بأسبوعين بعد ماتوفيا منذ عشر سنوات ، لا أحد يتذكر هذا اليوم لا انا ، ولا اخي وأختي ، كان هو فقط بعد أبي وأمي من يحتفل معي بيوم مولدي ، تُري أين هو الأن امازال يتذكرني ، أيحبني ، تزوج وعنده أطفال ، زوجته أحلى مني .......
تتحرك السمكة الزرقاء بشكل فُجائي وتدور داخل الحوض الزجاجي ، يبدو أنها نسيت للتو من يكون هذا الكائن ،،،،،،،،
التقطت رغيف الخبز السن من على الأرض ووضعته في الصينية ثم جلست على المنضدة الصغيرة وبدأت تتناول غذائها ، ثم قامت بسرعة لتلحق قهوتها قبل الفوران ، فصبتها وعادت تستكمل طعامها من جديد ،،،،
كانت السمكة تلامس سطح الماء برأسها تحاول أن تقفز ثم تتردد ، ذاكرة الثلاث ثواني تخبرها  بأن هذا العالم لايصلح لها ، خطأٌ فادح أن تخرج وتهرب لهذا العالم ،،،،
أمسكت كوب القهوة بيديها كي تستمد منه الدفء في هذا الصباح الشتوي البارد ، ونظرت لسمكتها وهي تبتسم وتقول : ليتني مثلك ياصديقتي سمكة صغيرة ، اعيش على فُتات الطعام اعود الى البحر واختبأ انا واصدقائي من الأسماك الكبيرة هاهاهاها ، استعيض بذيلك عن أرجلي ، وبخياشيمك عن صدري وقلبي ،،،،
تنظر لها السمكة الزرقاء بأستخفاف وبعينها الجانبية ، ثم تمر الثلاث ثواني فتنسى هذا العالم وماذا يكون ،،،،
تمسك الحوض الصغير مرة أخرى وتذهب الى البلكونة الكبيرة المطلة على الكورنيش والبحر ،،،،
البلكونه مرتفعه تنتشر العمارات حولها بكثرة والسيارات والمارة في الشارع يظهرون أصغر ، والبحر ممتد الأفق يختفي مع الغيوم البعيدة ،،،،
وضعت الحوض المكوّر على الطاولة الصغيرة وجلست أمام سمكتها ، اقتربت ونظرت الى الحوض الزجاجي فأنعكست عيناها الجميلتين على المياه ، ثم ظهرت العمارات الكثيرة المنتشرة مقلوبة ، ومتعرجه تهتز بأهتزاز الماء وحركة السمكة الزرقاء الصغيرة ،،،
كانت السمكة الزرقاء قد وصلها رائحة البحر ، فتحركت بقوة الى سطح الماء حاولت تقفز ، هنا تذكرت ، أن عالمها قد اقترب ، ذاكرة الثلاث ثواني تُخبرها بأن هذا عالمها الصحيح ،،،،
ضحكت وهي تنظر لسمكتها وقالت : اُتريدين أن تذهبي للبحر ؟؟؟
نظرت السمكة الزرقاء نظرة جدية  واستمرت بهز ذيلها ،،،،،
أمسكت الحوض المكوّر وخرجت من شقتها ، وهبطت في المصعد وابتسمت للفتاة الصغيرة التي كانت تركب معها ،،،،
عبرت شارع الكورنيش والسيارات تمر بجانبها مسرعة لا تبالي بها ولا تبالي هي بالسيارات ، تنعكس السحب البيضاء الصغيرة والسيارات المسرعة على الحوض الزجاجي ،،،
تتحرك السمكة بتوتر كلما اقتربت منها رائحة البحر ،،،،
تصل الى الكورنيش وتمر من الحاجز ، ثم تمشى على الرمال ، هواء الشتاء يحرك شعرها بقوة فيتطاير بحرية ، تحس بثقل الرمال ، فتنزع نعليها من قدميها فيذهبا بعيداً ،،،،
تلامس قدميها الموج البارد ،،،،
تنظر الى السمكة ، فتلامس السمكة سطح الماء وتهز ذيلها ،،،
تقترب من الموج ثم تضع الحوض المكوّر في مواجهة الأمواج القادمة من البحر ، فتقفز السمكة الزرقاء قفزة سريعة وتنطلق بحرية داخل الامواج وتختفي بلونها الأزرق داخل البحر ،،،،،،
تقف حافية على الرمال الباردة  ناظرة الى البحر ويلامس الموج قدميها وشعرها يطير بحرية ،،،،،
وخلفها الشارع المزدحم بالمارة والسيارات والعمارات المرتفعة ، يتداخل صوت الزحام مع هدير الامواج ورياح البحر ,,,,,,

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

الرباط المقدس


الضباب والسقيع يخيم على الشوارع ، بداية فصل الشتاء قاسية هذا العام تُنذر بأنه سيكون الزمهرير بارداً ونوات غاضبة قادمه من الشمال والغرب ،،،،
يجلس عُمر في الشارع وحيداً بعد أن طرده زوج خالته الذي كان يؤويه بعد وفاة أمه وأبيه منذ سنوات ،،،،
جعل من الفتى الصغير خادماً له وللأسرة فكان يأمره ان يذهب بعد طلوع الفجر مباشرة بجلب الفول والفلافل للفطار ويجب أن يكون من البائع الفلاني الذي كان يبعد عن البيت بثلاثة كيلو من المترات ، فرفض الفتى تكرار هذا الأمر ، فقال له في غضب بعد أن وضع ملابسه القليلة وكتبه في حقيبة رثة : انت دلوقتي بقيت شحط وتقدر تشتغل وتصرف على روحك ، عيالي اولى بالمصاريف البتروح عليك ، شيل نفسك ماحدش بيشيل حد ،،،،
فما أن سمع عُمر كلام زوج خالته وصمت خالته بما يوحي برضاها ، فكتم أنفاسه وحبس دموعه وقال : حاضر وربنا مش بينسى عباده ،،،،،
جلس في الشارع لا يدري أين يذهب ويعيش الى أن يجد عمل في أي مكان ويجد مسكن يعيش ويذاكر فيه وهو في الجامعة حالياً ،،،،
احكم الجاكيت حول رقبته خوفاً من البرودة وجلس على الرصيف ينتظر الصباح ،،،،
تنظر كريستين من شرفتها وهي تقوم بنشر الغسيل فتدهش من وجود عُمر على الرصيف ،،،
فتذهب لأبوها وتخبره ،،،،
يلبس الرجل معطفه ويهبط مسرعاً الى الشارع وينادي على الفتى ،،،،
فيخبره عُمر بما حدث ، فيمسك الرجل الحقيبة ويقول : ربنا على الظالم تعالى معايا ماتقعدش في الشارع كده ، أمك واختك كريستين مستنينك فوق ،،،،
تستقبله الأم من على باب المنزل وتحضنه باكية : معلش يابني ياحبيبي مش عارفه الدنيا جرى ليها ايه ، خالتك الله يسامحها وجوزها مش هيشوفوا خير ابدا ، الله يرحمك يا نوال كنتي زي البلسم ، اتخطفتي ياحبيبتي في عز شبابك ،،،
ظلت الأم تبكي ، ثم استوقفها الرجل وطلب منها أن تأتي بالطعام لعُمر ،،،،
يجلس عُمر فيدور بعينيه على الصور المعلقة على الحائط وفي ايقونات صغيرة ،،،
مريم العذراء بوشاحها وشالها الأزرق ، وهذا الرجل القديس المتلفح بالسواد لا يعرفه ، وصورة لفارس يقاتل تنين من فوق حصانه ،،،،
ثم صورة زفاف الأب والأم وصورة أخرى لفتاتان واحدة بالحجاب والأخرى بدون حجاب ويضعان ايديهما على كتفي بعضهما ،،،،
تأتي السيدة بالطعام وتلاحظ استغراق الفتى في الصورة ، فتدمع عيناها مرة أخرى وتذهب الى غرفة النوم وتأتي بألبوم صور ليس بالقديم ولا الحديث وتجلس بجوار عُمر وتقول : الصورة ال فوق دي صورتي انا ونوال الله يرحمها ، أتربينا سوه ودخلنا الجامعة مع بعض وكانت هي سري وانا سرها ، خالتك سميرة مكنتش تحبني ولا تحب أمك عشان بتغير منها لانها كانت اشطر منها والكل يحبها ،،،،
عارف ياعُمر انك ابني واخو كريستين ، لما أمك ولدتك  كنت انا ولدت كريستين قبلك بأسبوعين ، ونوال تعبت وجاتلها الحمى وماقدرتش ترضعك وانت ياقلبي رفضت الصناعي ، فجابك ليا مصطفى أبوك الله يرحمه وقالي مش عارف اعمل ايه ، فرضعتك مع كريستين ،،،
نوال كانت بتموت ووصتني عليك ، ولما مات ابوك وهو في المصنع اخدتك عندي كان عمرك اربع سنين وقتها وكنت مربياك مع كريستين ، لكن جدتك اصرت انك تعيش معاها وبعدها روحت كملت عند خالتك الله يسامحها ،،،
تفتح الألبوم وتقلب صفحاته ، صور كثيرة للصديقتان وهما على الكورنيش وفوق السطوح وفي الجامعة وفي زفافهما ،،،،،
يظل عُمر في بيت أصدقاء أمه وجيرانها بضعة أيام ، كان خلالها يبحث عن عمل ، فوجد عملاً  في أحد المتاجر وطلب من صاحب العمل بعد أن شرح له ظروفه أن ينام في مخزن المتجر أو الدكان ، فوافق الرجل رفقاً منه بظروف الفتى ،،،،
كان عُمر وكريستين صديقين حتى من قبل طرده من بيت خالته ، يذاكران سوياً ويتمشيان كثيراً على الكورنيش ويجلسان أمام البحر كلٌ يحكي للأخر احلامه وأمنياته ،،،،
دائماً ما يطلب منه الرجل الطيب زوج صديقة أمه أن يحافظ على أخته ، أو يوصل أخته للمكان الفلاني ، بحكم أن الفتاة وحيدة وليس لها اخوة ،،،،،

منتصف ليلة رأس السنة الميلادية

كانت كريستين منذ أول المساء وهي في الكنيسة القريبة من البيت  تشارك مع جوقة الفتيات في ترانيم عيد الميلاد وعندما أنتهت كان ينتظرها أبوها وأمها لحضور قداس منتصف الليل ،،،،
لم تكن الساعة قد وصلت للثانية عشرة ، حتى فجأة اهتزت الكنيسة ودوى أنفجار هائل أسقط  زجاج الشبابيك الملون والمزين بصور العذراء والقديسين ، ثم أنقطعت الكهرباء وخرج الكل مسرعاً من الخوف والهلع ،،،
انفجار أخر فتطايرت السيارات وتهشمت ،يتصدع المسجد المقابل للكنيسة فتتهشم أبوابه وشبابيكه المزينه بالزخارف الأسلامية ،،،،،
الجميع في صدمه وفزع ، هذا يبحث عن أبنه واخر عن زوجته وسيدة تبكي أبنتها ،،،،
أختلطت الدماء على الأسفلت لم يستطع أحد أن يفرق بين الدماء ،،،،
الرجل وزوجته يبحثان عن كريستين فلم يجداها ،،،،
كان عُمر في الدكان الذي يعمل بهِ ، وسمع دوي الأنفجارات فهرول مسرعاً الى الكنيسة فوجد أصدقاء أمه يبحثان عن أبنتهما ،،،،
فظل يبحث عن الفتاة الى أن وجدها بجوار أحد السيارات ودمائها تسيل بغزارة ،،،
فحملها ووضعها في سيارة الأسعاف ,,,,
وذهب مع أمها وأبيها على المستشفى ،،،،،
الطبيب يطلب نقل دم على الفور للفتاة حتى تستطيع النجاة ، فتقدم عُمر للتبرع بدمه  ، فتطابقت فصيلة دمائه مع دماء كريستين ،،،،
جلس الى جوارها يتدفق دمه الى عروقها ، يربط بينهما ذلك الرباط التاريخي المقدس ،،،،
يبتسم عُمر الى الأم ويقول لها : لا تقلقي سننجوا ونعيش,,,,,,,

شتاء 2011

الأحد، 11 سبتمبر 2011

أسطوانة الذكريات



الضوء خافتاً بعض الشيء في غرفة المكتب ، غرفة متسعة على الطراز الكلاسيكي ، يوجد بها المكتب الكبير وخلفه مكتبة متوسطة يرتص عليها الكثير من الكتب ، في الجانب الأيمن منها ركن خاص بالاسطوانات الموسيقية ، وعلى الحائط بعض اللوحات لبيكاسو وجويا وفان جوخ ،،،،
في المنتصف لوحة زيتيه لسيدة جميله شعرها الأسود الطويل منسدل على كتفيها ، عينان زرقوان متسعتان مع أبتسامة رقيقه ،،،،،،
على المكتب صورة فوتوغرافية صغيرة في برواز لنفس السيدة الجميلة ، وصورة أخرى لأبنه وأبنته ،،،،
وقف العجوز امام الشباك فحرك الستائر قليلاً حتى يرى البحر ، كانت ليلة من ليالي منتصف الخريف ، الرياح هادئة مع سحب كثيفه وقد يتساقط المطر ، وموج البحر لم يكن هائجا او صاخباً هذا المساء ،،،،
اليوم هو عيد ميلاد زوجته الراحله وعيد زواجهما في نفس الوقت ، رحلت عنه منذ ست سنوات ، واعتاد ان يحتفل بيوم ميلادها ويوم زواجهما كما اعتاد ان يحتفل معها دائماً ،،،
في هذا المكتب على أنغام اوبرا كارمن لبازيه ،،،
اخرج الأسطوانة من الركن الخاص للأسطوانات ووضعها في جهاز تشغيل الأسطوانات ، وبدأت تنساب الموسيقي في غرفة مكتبه وتنساب معها ذكرياته ،،،
كانت يونانية الأصل تعرف عليها في فيينا بالنمسا ، حيث كان عمله في الماضي ، وحضرا سوياً عرض خاص لأوبرا كارمن في دار اوبرا فيينا ، تبادلا النظرات والأبتسامات مع انسياب الموسيقي وغناء السوبرانو ، ثم تعرفا على بعضهما اثناء الأستراحة ، وعزمها على العشاء بعد انتهاء العرض في أحدى مطاعم فيينا ،،،
احبته لدرجة الجنون وذاب هو عشقاً فيها ، وتزوجا وعادت معه الى الأسكندرية ،،،
تنساب الموسيقي من الأسطوانة وهي تبتسم له من اللوحة الزيتية ، الأداء الأوبرالي مازال هادئاً ، وتتحرك الستائر قليلاً ، يبدو أن الهواء القادم من البحر لن يبقى هادئاً ،،،،
في يوم ميلادها ويوم زواجهما ، ترقص معه في تلك الغرفة ، تستريح على صدره ، يتحرر من قيود الزمان والمكان عبر النظر الى عينيها واستنشاق عطر شعرها ، فتأخذه أبتسامتها دائما الى شواطيء بعيده ليس لها حدود فلا يرى سوى تلك الأبتسامة ، ولا يسمع الا همسها ،،،،
تنساب الموسيقى من الأسطوانة ، وعيناه لا تفارق أبتسامتها من اللوحة الزيتية ، الأداء الأوبرالي بدأ يتصاعد تدريجياً ، والستائر تتحرك بنعومة من على الشباك والشرفة المطلان على البحر ،،،،،
أخرج صندوق من الخشب بقى العديد من الصور الفوتوغرافية له وهو وزوجته وأبنه وبنته ، وبعض الرسائل القديمة التى كان يراسلها بها أثناء سفره ، أخرجها جميعاً وظل يقلب فيها ،،،،
أصابها مرض مفاجيء لم يمهلها الفرصة للعلاج ، ورحلت عنه ودُفنت في الأسكندرية وتركت له تلك الصور والرسائل والذكريات ، وظل وحيداً بعد أن سافر أبنه وابنته للدراسة في الخارج ،،،،
دمعت عيناه ، وهي مازالت على نظرتها وأبتسامتها له ،،،،،
رحل في هدوء وهو ينظر لحبيبته ،،،
أداء السوبرانو يتصاعد ويتوتر مع سقوط كارمن ،،،
والستائر تتحرك بقوة مع سقوط المطر في تلك الليلة الخريفية ، وموج البحر يزداد هياجاً وصخباً ،،،،
تنتهي الأوبرا مع تصفيق الجمهور ،،،،
وتتطاير الرسائل والصور الفوتوغرافية من حول العجوز ,,,,,,