الخميس، 27 مارس 2014

رماد


ليلة أمس كانت أحدى ليالي أمشير الغاضبة ، أحتقنت السماء بالغبار الأحمر القادم من الشرق وأشتد هيجان الرياح على الأرض وأغتاظ البحر معانداً الريح فأرتفع الموج وضرب الشاطيء التي تطل عليه البلدة الصغيرة ووصل الموج الى بعض البيوت القريبة من الشاطيء ، لم تصمد الأشجار كثيراً أمام هؤلاء الغضبى ، فتطايرت الأغصان وتكسرت أمام بيت السيدة العجوز وقطعت أسلاك الكهرباء ....
كانت ليلة عصيبة عليها ، ظلت المصابيح الكهربائية تهتز وتصدر أزيزها كلما أهتزت الأسلاك ، تطفيء وتعود مرة أخرى ، الى أن أنقطعت الكهرباء وباتت العجوز ليلتها على الشموع ....
هدأت الهة الريح وفتر غضب سيد البحار وسطعت مركبة الشمس الذهبية تراقب بعين حذرة تلك الفوضى التي خلفها الغاضبون ليلة أمس ...
أخذت العجوز ترتب بيتها وتنفض الغبار عنه ثم خرجت الى الشارع تبحث عن عمال شركة الكهرباء لأصلاح أسلاك الكهرباء التي قطعتها أغصان الأشجار ...
لم تتغير نظرات أهل البلدة اليها منذ ستة عشر عاماً ، السهام التي غُمزت في قنينة الأحتقار ، عيون الغضب والاشمئزاز ، همسات النسوة الواقفات أمام الدكاكين وعلى جانبي السوق ، غمزات الرجال وترتيل أسفار الذكريات عنها وعن الحادث والتي حفظوها ونقشوها داخل صدورهم منذ ستة عشر عاماً ....
وقفت أمام المكتب الصغير لشركة الكهرباء الذي يتوسط الميدان في البلدة ، اصتدمت بأحد المشتكين من انقطاع الكهرباء فنظر لها الرجل ولم يتكلم ثم انصرف مباشرة ، دخلت الى المكتب وسحبت الكرسي الذي يبعد عن المكتب قليلاً وجلست عليه ، التفت لها الموظف وهو يقرأ الجريدة ...
كانت تتنفس بصعوبة بعد أن تشبّع صدرها بالغبار ليلة أمس وبعد نفضه من البيت ، قالت : أعيش في الظلام منذ البارحة وانا وحيدة أكره الظلام ، كابل الكهرباء الرئيسي أنقطع ولم يأتي أحد ليصلحه لي ، قطعته أغصان شجرة الكافور المطلة على البيت ....
لم يلتفت اليها مثبتاً عينيه على الجريدة ثم قال : غالبية بيوت البلدة انقطعت فيها الكهرباء ، انتظري دورك سنصلحه قريباً ...
اتكأت على المكتب وقامت بصعوبة : لكني أعيش وحيدة ولا أتحمل الظلام ؟؟
أمسك القلم وسجل أسمها في ورقة وحيدة على المكتب القديم المتسع ولم يرد عليها .....
عاد من مدرسته مبكراً ، كان يوماً دراسياً قصيراً ، أصر عليه زملائه أن يذهب معهم الى الساحة القريبة من المدرسة كي يلعبون الكرة ، لكنه رفض ...
أخذ دراجته وأنطلق الى مكانه المفضل بجوار المركب القديمة التي تكسرت في يوماً ما ورقدت على الشاطيء في ثُبات عميق يصفر بين جنباتها صوت الريح كنواح أبدي لا يتوقف ...
ركن دراجته على الرمال وجلس بجوارها ينظر الى الأفق البعيد الممتد ، الى مابعد هذا البحر لعله يبلغ الأسباب ....
كما أعتادت منذ ستة عشر عاماً ، تخرج وحيدة بعد الظهر وانتصاف الشمس في السماء ، تجلس على الأريكة الخشبية المواجهة للبحر وللمركب القديمة ....
وضعت بعض الفاكهة بجوارها ، برتقالة وأصبعين من الموز وزجاجة مياه صغيرة ، ثم أخرجت أبرة حياكة الصوف وأستكملت غزل الشال الذي بدأت فيه منذ ثلاثة أيام ...
التفت خلفه فوجدها تجلس على الأريكة الخشبية ، يشاهدها كثيراً عندما يأتي الى هنا ، يثير دهشته وحدتها الدائمة وهمسها الدائم مع نفسها وحركة أناملها السريعة الممسكة بأبرة الحياكة لا تتوقف ، ماذا تقول لنفسها والى من تتحدث ، تبتسم تارة ، وتتساقط دموعها تارة أخرى ، لم يعطي أذنه لحديث خالاته وأمه عنها وكرههم الشديد لها ....
ترك دراجته ترقد بجوار المركب على الرمال وذهب والقى عليها التحية ...
توقفت أناملها عن الحياكة ونظرت له بدهشة ، لم يلقى أحد عليها التحية منذ سنين ، ردت له التحية وأبتسمت أبتسامة واهنة ...
جلس بجوارها على الأريكة ، بينما هي عادت للحياكة مرة أخرى ، أحس بالخجل قليلاً فسكت ولم يتكلم ...
قالت : أشاهدك تأتي كثيراً الى المركب وتجلس بجواره وحيداً ، لماذا لم تذهب مع زملائك للعب الكرة ، أليس لك أصدقاء ؟؟
شبّك أصابعه ببعضها ثم قال : لا أشعر بالسعادة بينهم ، دائما مصروفي قليل ولا أستطيع شراء الحلوى معهم ولست ماهراً في لعب الكرة ، أبي وأمي كثيراً مايتشاجران ، أصبحت لا أطيق البيت ...
أخرجت من حقيبتها الصغيرة التي تضعها بجوارها سكيناً صغيراً والبرتقالة ، قامت بتقشيرها وقطعتها نصفين ، أعطته نصفها ومعها أصبع موز ، أحس بالخجل وقال : لست جائعاً ...
قالت وهي تقشر له أصبع الموز : وانا لست جائعة لكني سأكون سعيدة لو شاركتني غدائي ، لا تُكسفني أرجوك .....
لم يأكل أحدٌ معي منذ سنين !! .. قال وهو يأكل نصف البرتقالة : لا أدرى لما أنتي وحيدة لكن أحقاً ما تقوله أمي وخالاتي عنك ؟؟
ضحكت وقالت : منذ أن سمعوا صوت طلقة الرصاص في البيت ومقتل زوجي وهم يقولون الكثير عني ، أتصدق مايقولونه عني ؟؟
قال : لا ، أمي وأبي اثناء شجارهما كثيراً مايفتعلان الأكاذيب عن بعضهما ، لا أعلم أن كانا يكذبان أم صادقان ، لا أهتم لما يقولون ....
قالت وأبرة الحياكة بين أناملها والشال معلق في أبرة الحياكة : أصبحت كشجرة التهمتها تلك البلدة الى أن اصبحت رماداً للحكايات والذكريات ، رماداً ينتظر رياح الخريف كي تذروه ويختفي بين الرمال او في أعماق ذلك البحر الكبير .....
نظر الى السماء وقال : أقتربت الشمس من المغيب يجب أن اذهب ...
قالت وهي تضع أبرة الحياكة والشال في حقيبتها الصغيرة : لا أريد أن اعيش ليلة أخرى في الظلام ، أكره الظلام وأخاف منه ، أتمنى أن يكونوا قد أصلحوا كابل الكهرباء ، عامة سأشتري الشمع لليلة أخرى ....
هب واقفاً وقال : سأتي لزيارتك الليلة ، أنا أعرف بيتك فهو قريب من بيتنا ...
ركب دراجته وأنطلق ببطء بسبب الرمال ، ثم أسرع عندما خرج الى الطريق ...
لم تعد الكهرباء الى بيتها رغم أصلاح أغلب كابلات الكهرباء في البلدة ، وضع دراجته بجوار عتبة البيت ...

لم يكن الباب مغلقاً جيداً ، فدفعه بيده فأنفتح ، كان ضوء الشموع ورائحته يسيطران على البيت ، كان خائفاً ، لكنه نادي عليها فلم تستجيب ....
أمسك شمعة موضوعة في طبق صغير ، وتجول في البيت يبحث عن السيدة العجوز ، صورة زوجها مُحاطة بالورود الأصطناعية تزين واجهة صحن البيت ، صورة أخرى كبيرة تجمع بينها وبين زوجها ....
دخل الى غرفة النوم المواجهة للمطبخ في أول الطُرقة الصغيرة ، وجد عشرات من الشيلان الصوف متعددة الألوان بجوار صورة زوجها الممدة على حافة السرير ....
والسيدة العجوز جالسة على الكرسي في ثباتها العميق كالمركب القديمة ، بجوارها شمعة قاربت على الأنتهاء ,,,,,,,,