الأربعاء، 31 يوليو 2013

شمس

مترو الميرغني والنزهة لم يعدا يمران أسفل البيت القديم بكثرة كما كانا بالماضي ، زحام سيارات الأجرة والأتوبيسات الكبيرة طغى على صوت ارتجاج المترو والبرق الذي يخطف الأبصار عندما يحتك بالكابلات الكهربائية ....
 الشُرفة القديمة التي تطل على الميدان الكبير  شاخت لم تعد تحتمل اتكاء الزمن عليها ، على الجدران سالت أمطار الشتاء كدموعٍ شقت طريقها  تجعلها شاهدة على الميدان الكبير ، أصص الجارونيا والدراسينا التي  طالما اعتنى بها  وجلس ليرويها قبل الغروب ، ملقاة كصبار قبرٍ بدون شوك .....
أنتبه لصوت الحمالين وهم يتململون في ساحة البيت بالدور الأول وأحدهم ينادي سينقضي النهار ولم نفعل شيئاً بعد ....
أخرج عدة مفاتيح وأخذ يجرب واحداً تلو الأخر حتى أستطاع أن يفتح باب المكتب ، رائحة الخشب القديم والتراب المعتق أصابته بالدوار ، لم يلاحظ ذلك العنكبوت الطاعن في السن الذي هرب وتسلل خلف المكتبة ....
هنا طفل صغير يتلصص خلف باب المكتب ، العم شمس يمسك العود يشد الأوتار ثم يبدأ في عزف ألحانه وتغني عليها سيدة جميلة صوتها كأنه قادم من الأساطير ، يدخن سيجاراً ثم يعيد اللحن مرة أخرى ويطالب السيدة بإعادة  الغناء ، يتوقف ثانية وينظر الى الباب ، يقف الطفل خجلاً يغلق الباب ببطء فيناديه العم شمس ويجلسه بجواره ، مبتسماً : هذا ابن أخي .....
في الشُرفة القديمة يحتسي الشاي تنعكس في عينيه شمس الأصيل ، تلك العينين اللامعتين تُخفي خلف ستائرها غموضاً وحزناً لم يكن ليفهمه ذلك الطفل الصغير الذي يجلس بجواره مبهوراً بالعود والألحان والملابس المبهجة التي يتأنق بها  العم شمس ، ينظر إليه كمهرج السيرك الذي يغُرقه بالسعادة لكنه لا يرى مايخُفيه الوجه الباسم والشارب الممشوق المدبب ....
يُمسكه من كفه الصغير ويتمشيان سوياً في صباح أيام الجمعة في شوارع مصر الجديدة الواسعة ، أسفل أشجار السرو والكافور بجوار كنيسة البازليك ، يقفان أمام دكان الحلويات ، يتعرف عليه البائع العجوز ويسأله : أمرك يافنان ، منذ زمن لم نراك الدكان كله ملكك ....
في الحديقة الخلفية للكنيسة القديمة يعلم الطفل الصغير العزف على العود ، ثم يغني له بعض ألحانه فيتجمع المارة حولهما ثم يصفقون له بعد أن ينتهي .....
لم يدرك الصبي الصغير ماهية الأدوية الكثيرة التي تملئ البيت ، في الثلاجة وعلى الطاولة الصغيرة بجوار السرير ، ينظر إلى عينيه لم يدري لماذا أنطفأ ذلك اللمعان الغامض ، ولما بهِت الشارب الممشوق المدبب ...
في الصباح قبل ذهابه إلى المدرسة يأتيه العم شمس بالفطور المعتاد الحليب والمربى وقطعة الزبد الصغيرة وبيضة مسلوقة ثم يفطران سوياً ، يعود من مدرسته فيجده يعزف بدون غناء وحيداً على كرسيه البامبو في الشُرفة المطلة على ميدان ، ضِعف صوت شمس لا يستطيع الغناء بعد الآن ، لم يعد يستطيع مجابهة صوت المترو وحشرجته وزحام الميدان  ......
يضع الراديو بجواره على الطاولة الصغيرة ممسكاً الجريدة ، جسده النحيل لم يعد يقاوم نسمات أكتوبر الباردة ، فيطلب من الصبي الشال الصغير ، يجلسان سوياً في الشُرفة يستمعان إلى الراديو فتأتي أغنية يبتسم وتلمع عيناه ويقول : هذه من الحان عمك شمس ....
وقف الصبي ناظراً الى الميدان ثم نظر لعمه وقال : لماذا تحب تلك الملابس المبهجة ؟؟
ضحك شمس وهو يضع العود بجواره : حياتي هي تلك الألوان وحتى لا ينساني الناس ....
يمر المترو فُيحدث حشرجته وضوضائه المعتادة وتهتز الشُرفة القديمة فينظر للصبي ويقول : تُرى من سيصمد أكثر البيوت أم المترو القديم ؟؟
في تلك الليلة من ليالي يناير الباردة والقاسية ، أشتد المرض بشمس لم يتوقف عن السُعال طوال الليل ،ولم يتوقف المطر تلك الليلة ، نام الصبي في غرفته واستفاق في الصباح على صوت قطرات المطر ترتطم بالشباك وصراخ الجدة مات شمس .....
أدرك وحدته عندما جلس على الكرسي البامبو في الشُرفة القديمة بجواره الراديو على الطاولة الصغيرة كل نصف ساعة يمر المترو بحشرجتهِ وضوضائه ، مازال البيت القديم يقاوم المترو والميدان ، بينما الزحام لا يبالي ولا أحد يبالي .......
صرخ أحدهم احترس هذا المكتب من الأبنوس أحمله وأنزله بحرص ، ثم جاء إليه أخر  وقال : لقد حملنا كل العفش ولم يتبقى سوى بعض الصور المعُلقة على الحائط ....
نظر الى غرفة المكتب فوجد العنكبوت الطاعن في السن يتعلق بأحد الأركان ، ثم قال للحمّال : لا سأنزل أنا الصور ....
أغلق باب الشُرفة المطلة على الميدان فأظلمت الغرفة رويدا رويداً ...
وضع صورة العم شمس في الصندوق ووقف في منتصف الميدان يمر أمامه مترو الميرغني وعبد العزيز فهمي محدثاً حشرجته وضوضائه المعتادة وسط الزحام ,,,,,,,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو