الثلاثاء، 25 ديسمبر 2012

اللافندر

كادت أن تصدمه سيارة مسرعة وهو يعبر الطريق ، فارتمى على جانب الطريق وسقطت منه زجاجات عطر اللافندر ، لملمها بيدِ واحدة ووضعها في الحقيبة الورقية ثم ترك الحقيبة ونفض التراب عن معطفه ودس كُم المعطف الأيسر في الجيب وأخذ الحقيبة الورقية وانصرف ....
المحال تتزين بأستقبال العام الجديد ، وسانتا يبتسم ويطل من الفاترينات الزجاجية والاشجار تتلألأ بالاضواء والكرات الملونة ....
يرى انعكاس عينيها العسليتين مطله من الفاترينات حتى في أضواء السيارات ، في عواميد الأنارة التى ينقض شعاعها كالسهم مخترقاً الضباب ورزاز الأمطار المنتظرة .....
كلما أغمض عينيه يكاد يصتدم بسيارة او سيدة عجوز تنظر له بأشفاق او صبي يخافه ويرتاب منه ، فأسرع الخطى حتى يصل الى العمارة العالية المطلة على الميدان ويسكن فيها .....
ينتظر المصعد القديم ، فيتدلى الحبل الذي يسحبه ثم يتهادى وتخرج منه تلك الشابة الحسناء تتعلق بذراع خطيبها ، لم تكن أكثر منها جمالاً لكنه نظر لها وأطال لكنه أحس بالخجل واغلق عليه باب المصعد الخشبي وظلت الحسناء تتلفت الى الوراء ناظرة اليه ....
تتوالي الأدوار والبيوت  ، يمر من خلالها بطفولته السعيدة ثم صباه الهاديء ثم شبابه الجامح الى مثواه وعمله في البحر ....
هاجر اليابسه وانطلق الى منصات التنقيب عن البترول في البحار ، لم يعد يطيق أن يلامس تلك الارض والعمارات العالية والبشر الكثيرين ، تلك السماء الضيقة والهواء الشحيح ، كلما عاد الى اليابسة يصيبه الأكتئاب الا عندما التقى بها ، فأصبحت مرساته وشاطئه الأخير ....
توقف المصعد في الدور الأخير ، دفع الباب الخشبي بكتفه فارتد الباب خلفه مرة أخرى ، وضع الحقيبة الورقية وفتح باب شقته ....
لم يتبقى سوى القليل على انتصاف الليل ، والمطر بدأ غيثه رويداً وثقيلاً مصتدماً بزجاج شباك غرفته ....
على الحائط مُعلق صوره وهو على منصات التنقيب في البحر وبعض شهادات التقدير ، اخرها شهادة التقدير بعد أن اُنهيت خدمته بعد ان فقد ذراعه الأيسر في حادث اثناء عمله وعاد بعدها الى عالم اليابسة مرة أخرى ....
ظل يبحث عنها بعد عودته الاخيرة لكنها اختفت ، يبحث عنها في كل صباح وعند مغيب الشمس في نفس المقهى الذي التقيا فيه ....
يصتدم بالمارة ويكاد يُسحق تحت عجلات السيارات وهو يبحث عنها في تلك الوجوه والزحام ...
صورتها على الحائط وفي أدراج المكتب وفي غرفة النوم ، وعطر اللافندر هو من تبقى منها .....
مبتسمة كعادتها عينيها البريئتين تنظران بشقاوة الأطفال ، معلقاً في رقبتها تلك الدلاية الرقيقة ، شعرها القصير ينسدل في حنو يكاد يصل الى كتفيها ......
علق جميع صورها على الحائط ، بجوار التلفاز ، أسفل ويمين واعلى ويسار صوره ، على الشرفة ، على الأبواب ، نثرها جميعاً على الأرض .....
قبل انتصاف الليل ، أدار أسطوانة التانجو التي كانا يسمعاها في ذلك المقهى الفرنسي ، كأنه يرقص معها ، كالقوقازي الذي يحفر بحافر نعليه قبره الذي سيرقد فيه بينما يظنه الأخرون انه يرقص طرباً وفرحاً .....
أخرج من الحقيبة الورقية زجاجات عطر اللافندر ، استنشقها في هدوء ....
ثم سكبها واحدة تلو الأخرى حول صورها المنثورة جميعاً على الأرض .....
أنطلقت الألعاب النارية في السماء عالية وضحكات المحتفلين في الميدان تصعد اليه عبر شرفته ، واسطوانة موسيقى التانجو الحزينة تنساب بدون توقف .....
أغلق باب شقته عليه من الداخل والقى بمعطفه بعيداً فظهر الجزء المتبقى من ذراعه اليسرى المقطوعة ....
وضع علبة الكبريت بين ركبتيه ثم أشعل عود الثقاب فتلألأ ضوئه الصغير وأنعكس في عينيه ، ثم القاه على عطر اللافندر المسكوب على الصور ....
ارتفعت السنة النيران بين الصور وأمام عينيه وهو جالس على كرسيه الهزاز ....
مازالت الألعاب النارية تضوي في السماء وفي شرفته المطلة على الميدان ،،،،
وأسطوانة موسيقى التانجو الحزينة تنساب بدون توقف ,,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي