الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

انه خريفٌ اخر

نظر الى الساعة القديمة ذات البندول الثقيل الذي يُحدث حشرجة ثقيلة كل حين ، كانت الثانية عشرة ظهراً ورياح خريفية رطبة مُحملة برائحة البحر تجتاح الستائر والشرفة فتصتدم ابواب الشبابيك ببعضها وتنغلق ثم تعود وتنفتح من جديد ....
أزاح ستار الشرفه فتطايرت خلفه لداخل الغرفة ، وقف ليحصى زهرات الياسمين الصغيرة فوجدها زادت اثنتين عن البارحة ، اقتطفها ووضعها في طبق الفنجان الصغير ....
 السُحب الخريفية الغازية من خلف البحر تقترب الى الشاطيء لتشاكس شمس الظهيرة التي بدأت تُلقي بشال دافيء يعكر تلك النسمات الرطبة المحملة برائحة البحر ....
انطلق غباراً ثقيلاً من الشرفة المجاورة المهجورة منذ سنوات ، منذ أن غادرها أصحابها للهجرة خارج البلاد لم يسكن البيت المجاور أحد ، سمع سعالاً رقيقاً ثم أندفع باب الشرفة ، وضعت دلواً بجوار الباب ثم وقفت للحظات تستنشق بعض النسمات الرطبة ....
يتدلى شعرها الكستنائي خلف منديلاً أبيض تُلفه حول شعرها يكاد صفاء عينيها يُعكس زُرقة البحر والسُحب الخريفية التي تمتزج فيه ، صفاء عينيها يكاد يُعكس تفاصيل ذلك الكون الممتد الى افاق بلا حدود ....
أمسكت المكنسة واخذت تزيح التراب العالق بالشرفة المهجورة ... أحس انها تزيح ذكريات سنواته التي قضاها بين جنبات هذا البيت ، أصبحت تلك الأيام والسنوات والذكريات مجرد غبار منثوراً تذروه ريح خريفية ضائعة بين أحضان ذلك البحر الممتد الى افاق بلا حدود ....
لم تكن تشبهها لكنها أعادته فتى صغيراً مرة أخرى ، يتسللان سوياً الى الشرفة هرباً من عالم غير مفهوم ، يتتبعان بعيون مطمئنه طائرة ورقية تحلق بعيدا ، يستقبلان اول قطرات مطر الشتاء في ليلة من ليالي اكتوبر البعيد .....
وقف أمام بائع الجرائد يتطلع على مانشيتات الصحف والصور الكثيرة التي تكاد تُحدثه وتتبعه بنظراتها قد تكون لائمه او مستهزئه وقليلاً حانيه ، رياح الخريف تُطير الصحف والمجلات فلحقها الصبي بتثبتيها بالحجارة ....
نزلت من سيارتها وفتحت حقيبة السيارة وأخذت تحمل بعض الاغراض لتضعهم على الرصيف ، ثم أتت بحوض صغير بهِ سمكة زرقاء وحيدة ...
أقترب منها وقام بالقاء التحية عليها ، ردت تحيته بأبتسامة هادئه ، أخبرها انه جارها ويسكن في البيت المجاور وعرض عليها مساعدتها في حمل الأغراض !!
حمل حوض السمكة الزرقاء وادخله الي البيت الذي يعج ببعض الفوضى ، تلك الرائحة المميزة لم تغادره بعد ، كأنه الأمس الذي هاجره وتركه أصحاب البيت القدامى ....
تعيش مع أبيها وأخوها الصغير ، أتوا من العاصمة  حيث يعمل أنتقل أبوها من عمله في العاصمة الى هنا ، أخبرته أنه أحبت البيت خاصة تلك الشرفة المُطلة على البحر ، ورائحة الياسمين الدائمة التي تأتي من شرفته .....
جلسا سوياً في الحديقة المجاورة للكنيسة القديمة التي تتوسط الشارع الموازي لكورنيش البحر ، واخوها الصغير يلعب بدراجته بالقرب منهما ، لم يكن يتوقع أن تطرح عليه ذلك السؤال ... الديك حبيبة ؟
 ترانيم ليلة الأحد تتسلل من الكنيسة القديمة وصوت الجوقة اليوم أكثر عذوبة والأضواء خافته خلف النوافذ الملونة والمتزينة بصور القديسين ، صمت للحظات لكنه أجابها ... هاجرت منذ سنوات !!!
بحثت بعينيها عن أخوها الصغير فوجدته يلعب بدراجته بعيداً ...
أرتفع صوت جوقة الفتيات الصغيرات بالترانيم مع صوت الأرغن الغليظ ، قالت : حبيبي سيأتي ليستقر هنا في تلك المدينة قريباً !!!
صمتت جوقة الفتيات مع الأرغن الحزين أعقبها دقات أجراس الكنيسة القدينة مُعلنة قُداس المساء .....
نظر بعيداً عنها ثم قال : يبدو أنها ستُمطر على غير المعتاد ، هي بنا !!!!
نهاية خريفٌ أخر ينذر بقدوم شتاء مبكر ، مطراً ثقيلاً يرتطم بزجاج شرفته ، نظر الى الساعة القديمة ذات البندول الثقيل محدثاً تلك الحشرجة المعتادة ، أوشكت على التاسعة مساءً ....
أزاح ستائر الشرفة ونظر الى شجيرة الياسمين ليُحصى زهراتها فلم يجد سوى زهرة واحدة ، تركها مكانها لم يقطفها ....
تلك الضحكات والهمسات تتسلل اليه من الشرفة المجاورة ...

وقف ممسكاً بطبق الفنجان الفارغ من زهرات الياسمين يستقبل قطرات مطر الشتاء الثقيلة ناظراً الى تلك السُحب الكثيفة القادمة من وراء ذلك البحر الممتد ,,,,,,,,

السبت، 31 مايو 2014

أمطار مابعد الربيع

وضعت القطة الكبيرة صغارها منذ أسبوع ، فأصبح سطح البيت كمستعمرة للقطط موائهن يسيطر على المكان ويقفزن في كل ركن من أركان السطح ....
نظرت لجدتها من الشباك الصغير المطل على السطح وهي تأتي ببقايا الطعام لتضعه للقطط ، فتجمعن حول قدميها لا تستطيع أن تمشي بيسر خشية أن تدهس احدى القطط الصغيرة ....
قالت لنفسها بصوتِ خافت وهي جالسة في الشباك الصغير  : ربما قريباً ستحتل تلك القطط غرفتي وسريري !!
الصيف يطرق الأبواب في صخب برياح ساخنه والربيع متشبثاً لا يريد أن ينصرف في هدوء ، أصبح الجو رطباً والسحب تغزو السماء تحجب الشمس وتشاكسها بعد سطوع دام لأسابيع ، ربما اقترب المطر وجاء ضيفاً في غير موعده ....
لم يمر عليها منذ ثلاثة أيام كي يشترى الجرائد ، ويقف أمام عنواين الجرائد والمجلات غارقاً في تفاصيلها لا يُبالي بها ولا بنظراتها اليه ، كانت كل صباح تنتظر منه الشكر مع أبتسامة رقيقة ، وهي تحاول أن تعطله بعدم وجود الفكة ، وتختلق الأسباب كي يبقى معها أكثر وقت ، تستمد من عينيه ذلك الأمل الذي تنتظره منذ سنين كأن ضوء فنار يرشدها من بعيد في ظلمات بحر اللجي المتلاطم التي تُبحر فيه وحيدة بزورق صغير قد يتكسر يوماً على امواجه العاتيه ....
جلست في الكشك الصغير الذي تديره هي وجدتها ومعها الصبي الذي يساعدها ، بجوارها تفترش الجرائد والمجلات بألوانها وصورها التي تختزل كل العالم بما يحتويه داخل تلك الصحف والمجلات ، يقف بعض المارة يلقون نظرة على ذلك العام ثم يستكملون سيرهم ، أسماك هي تنظر لثواني ثم تسبح سريعاً لتنسى ما قراته في ثلاث ثواني ....
لم تهدأ الريح من الصباح وازداد موج البحر صخباً ، بدأ المطر غيثه بقطرات خفيفة تداعب خصلات شعرها السوداء ، طلبت من الصبي ان يضع غطاء البلاستيك على الجرائد والمجلات ، وقفت تنظر للبحر والأفق الممتدد بلا نهاية فيما وراء البحر ، تتسارع خطوات المارة أمامها ولا تبالي ، تصتدم برجلٍ عجوز فتبتسم له ويتمتم العجوز بكلمات غير مفهومة ، ينزل المطر زخات فُتسرع السيارات وتغتسل خصلات شعرها السوداء فتزداد لمعاناً تحت المطر كأن النبي المعمداني عمدها بماء المطر فعادت طفلة صغيرة نقية من ذنوب ذلك العالم ....
دائما مايطول مطر مابعد الربيع ، تلك النوة الأخيرة تستمر طويلاً ، لملمت الجرائد والمجلات وأغلقت الكشك الصغير وعادت الى بيتها فوق السطوح داخل الحارة القريبة من شارع الكورنيش ....
لم تجرؤ القطط الصغيرة وأمهم أن يخرجن من بيتهن الصغير ، خرج قط صغير فأصابته زخات المطر فأرتعش فرحاً وعاد سريعاً بين اخوته ....
جلست العجوز بجوار الفرن الصغير تّعد العشاء لها ولحفيدتها ، ضوء البرق الخاطف يُنير الغرفة الصغيرة كمصباح يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يحترق ، وصخب الرعد هو حديث السماء الذي لم يستطع أحد تفسيره ....
لفت الشال حول صدرها وربطت شعرها الطويل ، نزلت الى عتبة دارها ووقفت حافية القدمين ،أحست بالبرودة تتسلل من قدميها الى باقي جسمها ، فكانت تدفىء كل قدم بالأخرى ، ناظرة بتأمل الى افق بعيد مضيء  ....
أقترب الفجر ، صدى الأذان المنطلق من المأذن القريبة والبعيدة ممزوج بنباح كلب مُسبحاً مُبتهلاً ، ودعاء كروان متلهف يمر سريعاً ويختفي ....
تمشت في الحارة الضيقة حافية ، أبتعدت عن اتجاه الفرح الصاخب الذي هدأ قليلاً مع علو تكبيرات الفجر الى السماء ، اتجهت  الى الضوء المنبعث من الكورنيش ، وكلما اقتربت من البحر استنشقت رائحته وهوائه المالح .....
المطر يزداد وقدميها تبللت وشعرها اصبح أكثر لمعانا وبريقاً مع قطرات المطر التي تتساقط  بثقل عليها ....
خرج القط الصغير مرة أخرى من بيته الصغير ، ربما يود ليرتعش فرحاً أسفل المطر لمرة أخيرة ، ظل قليلاً أسفل المطر لكنه قفز وعاد سريعاً ....
كانت السيارات تسير مسرعة في شارع الكورنيش اضواء كشافتها ينعكس في عينيها ، فوقفت تنتظر حتى تمر الى الجانب الأخر  وتقف أمام البحر ...

عبرت الشارع وهي حافية ووقفت أمام البحر تستقبل هوائه في صدرها ، وخلفها بعض الصبية الذين انتهوا من الفرح يطلقون الصواريخ المضيئة في السماء ، لا يوجد من هو أشقى في هذاالكون المتسع من فتاة تسير وحيدة تحت المطر .....
نظرت الى البحر والأفق الممتد بعيداً تبحث عن عينيه كضوء فنار ينبعث من بعيد يرشدها في ظلمات بحرها اللجي الذي تُبحر فيه بزورقها الصغير الذي ربما يتكسر على أمواجه العاتيه .....

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

حكايات الرمال

صاح الديك الرابض على أحد البيوت المتراصة أسفل الجبل وخبط بجناحيه مللاً في أنتظار الفجر ، لم يتوقف صفير الريح في سفح الجبل منذ أن خُلق هذا الجبل ليكون شاهداً سرمدياً على تلك البيوت المتراصة بين أحضانه ، صفير الريح يتكلم مع البيوت وأحياناً يأن حزيناً على شيئاً ما ....
لمعت نجمة فتدلى لمعانها كخيط رفيع تسلل عبر كوة البيت المتشقق لينعكس على وجهها الصارم الذي حفرته الريح نحتاً فجعلته كتلك الصخور والتماثيل  العتيقة التى أصبحت صدى لحكايات الغابرين والموتى الذين يحرسون ذلك الجبل منذ الاف السنين ....
أستيقظت الأم تقاوم ضعف همتها والذكريات التي تثقل كتفيها ، تروضها وتقتلها في زحام يومها وتعود اليها زاحفة مع صوت الألم والأنين الذي يخرج مكتوماً من حنجرة أبيها العاجز ....
لم يتوقف صفير الريح الذي يتخلل جنبات ذلك الجبل ، مع هبوط الصباح وخفوت تلك النجمة اللامعة التي تلألأت مع أختفاء القمر ، وقفت على باب الدار تنتظر أمها كي يهبطان الى الوادي ليلحقا مكانهما في السوق .....
كانت الرمال الجبلية مازالت رطبة بعد تلك الريح الباردة ، أخرجت قدميها من نعلها وتلمست الرمال وتسائلت ، أهي مثل رمال الشاطيء في الشمال ؟ ، دائماً ماتكون رمال الشاطيء دافئة وتصبح باردة عندما يغطيها الموج ، المؤكد أن الريح القادمة من وراء البحر أكثر عذوبة من تلك الريح الجافة التي تأن دائماً ومحملة بحكايات الرمال والصخور وأناشيد الغابرين والموتى ....
جلست أمها العجوز على عتبة الدار تسند يديها على قائمة الباب ، نظرت لأبنتها وهي تُحكم ربط شالها حول عنقها وصدرها بعد أن طيرته الريح ، وقالت : لقد تأخرنا على السوق ، كان لابد أن أضع الفطور لجدك قبل أن نهبط للوادي ،  كم أود لو نهبط ولا نعود أبداً ، لكن لقد فات الأوان ، تلك الأحلام القديمة تسرسبت كحبات مسبحة من بين يدي واحدة تلو الأخرى ، سنوات نحاول الخروج من صحراء التيه تلك ، تلامس جلودنا الجافة نسمات الوادي وسرعان مانعود لحضن الجبل والريح المنتحبة دائماً ...
توشحت الأبنة بالسواد ، ثم أعطت ظهرها للبيوت المتربصة خلفها الناظرة بقلق وأرتياب للوادي ، يتطاير وشاحها الأسود من على كتفيها ، لم تلتفت لأمها ، قالت وهي تنظر للوادي الأخضر الممتد على مرمى البصر أسفل الجبل : كثيراً ماقلت لكِ ألم يأن الأوان للرحيل حيث البحر في الشمال ، منذ أن مات أبي وهجرنا أخي الأكبر وانتي وعدتني أن نرحل ، لم يعد لدينا شيء هنا سوى هذا البيت ، كنت أحس أن هذا الجبل قد أطبق الأخشبين علينا فلم يعد لدينا فكاك منه ، لكنك قررتي الأنتظار !! أنتظار ذلك الأخ الذي هجرنا ونجى بنفسه من تلك الريح المنتحبة دائماً ، أنها أنانية منك أن تجعليني أسيرة قيد الأنتظار لوهم بعيد ....
دمعت عينا الأم ووضعت شالها على عينيها وقالت : أعلم أني ظلمتك ... لكنك أبدا لم تستطيعي أن تشعري بما أنا اشعر بهِ كأم تنتظر أبنها حتى لو كان وهم ، كل صباح أنظر الى الطريق الممتدة الى الوادي أتفحص الأشباح البعيدة بنظري الضعيف واقول ربما يكون هو ...
لم تشعري بأن جزء من روحك تهيم في المجهول ، وتناديها وتنتظريها ولا تُجيب ، أي مرارة قد تشعرين بما أشعر بها أنا ...
هموم الأنتظار والوحدة والألم قد أجهزت على ماتبقى من عظامي ، أمك الشامخة مثل هذا الجبل قد تهاوت ، ما عانيته في عمري المنقضى جعلني أخشى من اليوم الجديد الذي قد أعيشه ....
ألتفت أليها وقاطعتها وقالت : على قدر مانقضى من عمرك في الأنتظار أريده أنا لأعيش بعيداً وأحقق ماحلمت به ، ذلك الوجه الصارم الذي تراه يُريد أن يبتسم بعد أن ادمن البكاء ، تلك الشفاه المتشققة تُريد أن يقبلها رجل مُحب عاشق ، ذلك الجسد الجاف يُريد أن يذوب في أحضان رجل وينعم بدفء وحنان صدره ، تلك الأذن التي اعتادت على صفير الرياح ونواح النسوة تشتاق لسماع غزل المحب وغرامه بمحبوبته ....
نظرت الى البيوت المتراصة والمتدرجة على سفح الجبل ، المزينة بالرسومات القديمة والملطخة بالكفوف الدموية وقالت : أتعلمين ،أن العالم بالنسبة لي غير معقول ، ومهما حاولت ان افهم الأشياء والاحلام التي يجب ان افكر فيها تأكدت من بُعدها عني ولا مبالاتها بمصيري  واقداري واهدافي الخاصه وتأكدت ايضاً من غربتها عني وجهلها بي وانكارها لوجودي ، انني اتوق للحظات فقط احس فيها بحريتي بعيداً عن تلك الجدران وعن هؤلاء الاشخاص انظر لأفق ممتد بعيدا ليس له مدى ولا حدود  لقد كرهت تلك البيوت التي تطاردني دائما بنظراتها ، أينما ذهبت أجدها تجاهي كأنها تعاقبني على شيء ما ، لا أدرى ماهذا الجُرم ، حتى عيون تلك التماثيل القديمة تحاكمني كل مساء عند الغروب عندما تُدفن الشمس خلف هذا الجبل .....
أتسمعين تلك الغربان والصقور بأصواتها الحادة التي تحلق بعيداً على قمة الجبل وتراقب عن بعد تلك البيوت ، كثيراً ماحلمت بطيور البحر بتغريداتها الرقيقة وحركتها المرحة فوق الشاطيء .....
أبعد كل هذا تريدين أن تتخلي عني ولا تساعديني على الرحيل ، من أجل أنتظار العائد من المجهول ؟؟
كان سعال الجد العاجز قد ازداد مع الصباح ، تمّلكه الصمت وأحط عليه منذ سنين لم يعد يخرج منه سوى السعال وأهات الألم المتقطعة ....
قالت الأم وهي تنظر الى داخل البيت : حتى وأن أتفقت معكِ ورحلنا سوياً ، لمن أترك جدك وهو يكاد روح بدون جسد أو كالمعذب الذي ينتظر الخلاص ، حتى هذا لم أعد أحتمله ....
أمسكت حفنة من الرمال وقبضت عليها بكفها ثم تركتها تذروها الرياح ، تلك هي حكايتنا ، رمال تذروها الريح فتصبح هباءً منثوراً الي أين تذهب ومن يدري بها ، لا أحد يهتم !!!
                                                  
                                              *************

في صباح يومٍ أخر حلقت الصقور والغربان بأصواتها الحادة فوق البيوت المتراصة على سفح الجبل ، وقف النسوة المتشحات بالسواد يبكين على باب الدار بعد أن ماتت العجوز ....
تلك البيوت تراقب بعيون حذرة ، ازدادت الالوان التي تزين جدرانها احتقاناً والكفوف المخضبة بالدماء لمعاناً ، والريح تصفر دائماً ، أنها ريح الربيع التي تهب باردة في الصباح وتحرقها الشمس مع الظهيرة فتجعلها لاسعة وجافة ....

نظرت الى الوادي الممتد على الأفق ، البيوت المختلطة بالغيطان الخضراء والنهر البعيد ، يتطاير شالها الأسود ، تتحرك ببطء على بداية الطريق الهابط الى الوادي تلاحقها عيون البيوت ونواح النسوة والريح التي تصفر دائماً ....

الخميس، 27 مارس 2014

رماد


ليلة أمس كانت أحدى ليالي أمشير الغاضبة ، أحتقنت السماء بالغبار الأحمر القادم من الشرق وأشتد هيجان الرياح على الأرض وأغتاظ البحر معانداً الريح فأرتفع الموج وضرب الشاطيء التي تطل عليه البلدة الصغيرة ووصل الموج الى بعض البيوت القريبة من الشاطيء ، لم تصمد الأشجار كثيراً أمام هؤلاء الغضبى ، فتطايرت الأغصان وتكسرت أمام بيت السيدة العجوز وقطعت أسلاك الكهرباء ....
كانت ليلة عصيبة عليها ، ظلت المصابيح الكهربائية تهتز وتصدر أزيزها كلما أهتزت الأسلاك ، تطفيء وتعود مرة أخرى ، الى أن أنقطعت الكهرباء وباتت العجوز ليلتها على الشموع ....
هدأت الهة الريح وفتر غضب سيد البحار وسطعت مركبة الشمس الذهبية تراقب بعين حذرة تلك الفوضى التي خلفها الغاضبون ليلة أمس ...
أخذت العجوز ترتب بيتها وتنفض الغبار عنه ثم خرجت الى الشارع تبحث عن عمال شركة الكهرباء لأصلاح أسلاك الكهرباء التي قطعتها أغصان الأشجار ...
لم تتغير نظرات أهل البلدة اليها منذ ستة عشر عاماً ، السهام التي غُمزت في قنينة الأحتقار ، عيون الغضب والاشمئزاز ، همسات النسوة الواقفات أمام الدكاكين وعلى جانبي السوق ، غمزات الرجال وترتيل أسفار الذكريات عنها وعن الحادث والتي حفظوها ونقشوها داخل صدورهم منذ ستة عشر عاماً ....
وقفت أمام المكتب الصغير لشركة الكهرباء الذي يتوسط الميدان في البلدة ، اصتدمت بأحد المشتكين من انقطاع الكهرباء فنظر لها الرجل ولم يتكلم ثم انصرف مباشرة ، دخلت الى المكتب وسحبت الكرسي الذي يبعد عن المكتب قليلاً وجلست عليه ، التفت لها الموظف وهو يقرأ الجريدة ...
كانت تتنفس بصعوبة بعد أن تشبّع صدرها بالغبار ليلة أمس وبعد نفضه من البيت ، قالت : أعيش في الظلام منذ البارحة وانا وحيدة أكره الظلام ، كابل الكهرباء الرئيسي أنقطع ولم يأتي أحد ليصلحه لي ، قطعته أغصان شجرة الكافور المطلة على البيت ....
لم يلتفت اليها مثبتاً عينيه على الجريدة ثم قال : غالبية بيوت البلدة انقطعت فيها الكهرباء ، انتظري دورك سنصلحه قريباً ...
اتكأت على المكتب وقامت بصعوبة : لكني أعيش وحيدة ولا أتحمل الظلام ؟؟
أمسك القلم وسجل أسمها في ورقة وحيدة على المكتب القديم المتسع ولم يرد عليها .....
عاد من مدرسته مبكراً ، كان يوماً دراسياً قصيراً ، أصر عليه زملائه أن يذهب معهم الى الساحة القريبة من المدرسة كي يلعبون الكرة ، لكنه رفض ...
أخذ دراجته وأنطلق الى مكانه المفضل بجوار المركب القديمة التي تكسرت في يوماً ما ورقدت على الشاطيء في ثُبات عميق يصفر بين جنباتها صوت الريح كنواح أبدي لا يتوقف ...
ركن دراجته على الرمال وجلس بجوارها ينظر الى الأفق البعيد الممتد ، الى مابعد هذا البحر لعله يبلغ الأسباب ....
كما أعتادت منذ ستة عشر عاماً ، تخرج وحيدة بعد الظهر وانتصاف الشمس في السماء ، تجلس على الأريكة الخشبية المواجهة للبحر وللمركب القديمة ....
وضعت بعض الفاكهة بجوارها ، برتقالة وأصبعين من الموز وزجاجة مياه صغيرة ، ثم أخرجت أبرة حياكة الصوف وأستكملت غزل الشال الذي بدأت فيه منذ ثلاثة أيام ...
التفت خلفه فوجدها تجلس على الأريكة الخشبية ، يشاهدها كثيراً عندما يأتي الى هنا ، يثير دهشته وحدتها الدائمة وهمسها الدائم مع نفسها وحركة أناملها السريعة الممسكة بأبرة الحياكة لا تتوقف ، ماذا تقول لنفسها والى من تتحدث ، تبتسم تارة ، وتتساقط دموعها تارة أخرى ، لم يعطي أذنه لحديث خالاته وأمه عنها وكرههم الشديد لها ....
ترك دراجته ترقد بجوار المركب على الرمال وذهب والقى عليها التحية ...
توقفت أناملها عن الحياكة ونظرت له بدهشة ، لم يلقى أحد عليها التحية منذ سنين ، ردت له التحية وأبتسمت أبتسامة واهنة ...
جلس بجوارها على الأريكة ، بينما هي عادت للحياكة مرة أخرى ، أحس بالخجل قليلاً فسكت ولم يتكلم ...
قالت : أشاهدك تأتي كثيراً الى المركب وتجلس بجواره وحيداً ، لماذا لم تذهب مع زملائك للعب الكرة ، أليس لك أصدقاء ؟؟
شبّك أصابعه ببعضها ثم قال : لا أشعر بالسعادة بينهم ، دائما مصروفي قليل ولا أستطيع شراء الحلوى معهم ولست ماهراً في لعب الكرة ، أبي وأمي كثيراً مايتشاجران ، أصبحت لا أطيق البيت ...
أخرجت من حقيبتها الصغيرة التي تضعها بجوارها سكيناً صغيراً والبرتقالة ، قامت بتقشيرها وقطعتها نصفين ، أعطته نصفها ومعها أصبع موز ، أحس بالخجل وقال : لست جائعاً ...
قالت وهي تقشر له أصبع الموز : وانا لست جائعة لكني سأكون سعيدة لو شاركتني غدائي ، لا تُكسفني أرجوك .....
لم يأكل أحدٌ معي منذ سنين !! .. قال وهو يأكل نصف البرتقالة : لا أدرى لما أنتي وحيدة لكن أحقاً ما تقوله أمي وخالاتي عنك ؟؟
ضحكت وقالت : منذ أن سمعوا صوت طلقة الرصاص في البيت ومقتل زوجي وهم يقولون الكثير عني ، أتصدق مايقولونه عني ؟؟
قال : لا ، أمي وأبي اثناء شجارهما كثيراً مايفتعلان الأكاذيب عن بعضهما ، لا أعلم أن كانا يكذبان أم صادقان ، لا أهتم لما يقولون ....
قالت وأبرة الحياكة بين أناملها والشال معلق في أبرة الحياكة : أصبحت كشجرة التهمتها تلك البلدة الى أن اصبحت رماداً للحكايات والذكريات ، رماداً ينتظر رياح الخريف كي تذروه ويختفي بين الرمال او في أعماق ذلك البحر الكبير .....
نظر الى السماء وقال : أقتربت الشمس من المغيب يجب أن اذهب ...
قالت وهي تضع أبرة الحياكة والشال في حقيبتها الصغيرة : لا أريد أن اعيش ليلة أخرى في الظلام ، أكره الظلام وأخاف منه ، أتمنى أن يكونوا قد أصلحوا كابل الكهرباء ، عامة سأشتري الشمع لليلة أخرى ....
هب واقفاً وقال : سأتي لزيارتك الليلة ، أنا أعرف بيتك فهو قريب من بيتنا ...
ركب دراجته وأنطلق ببطء بسبب الرمال ، ثم أسرع عندما خرج الى الطريق ...
لم تعد الكهرباء الى بيتها رغم أصلاح أغلب كابلات الكهرباء في البلدة ، وضع دراجته بجوار عتبة البيت ...

لم يكن الباب مغلقاً جيداً ، فدفعه بيده فأنفتح ، كان ضوء الشموع ورائحته يسيطران على البيت ، كان خائفاً ، لكنه نادي عليها فلم تستجيب ....
أمسك شمعة موضوعة في طبق صغير ، وتجول في البيت يبحث عن السيدة العجوز ، صورة زوجها مُحاطة بالورود الأصطناعية تزين واجهة صحن البيت ، صورة أخرى كبيرة تجمع بينها وبين زوجها ....
دخل الى غرفة النوم المواجهة للمطبخ في أول الطُرقة الصغيرة ، وجد عشرات من الشيلان الصوف متعددة الألوان بجوار صورة زوجها الممدة على حافة السرير ....
والسيدة العجوز جالسة على الكرسي في ثباتها العميق كالمركب القديمة ، بجوارها شمعة قاربت على الأنتهاء ,,,,,,,,

السبت، 22 فبراير 2014

عندما أتى المساء


بدأ يخفت النور في عينيه رويداً وأصبح جفنه ثقيلاً لا يقدر على رؤية من حوله ، اثنين او ثلاثة أصبحوا كأشباح تتراقص أمام عينيه وهم يهربون ، الدم المالح عالق في حلقه مختلطاً بالطين والتراب ، جبهته اليمنى ممرغة في الوحل ، الضربة التي تلقاها على رأسه كانت قوية جعلت رأسه يتهشم ، الألم يتسلل من كل مكان في جسده الملقى على الطريق المهجورة ، لم يعد يستطيع أن يتنفس لا يدري أن كان قلبه مازال ينبض أم توقف الان ...
المطر ينذر بغيثه القليل وقطراته الثقيلة ترتطم بعينيه المغمضتين ، تغسل الدماء التى بدأت تتخسر على شفتيه ، أصبح كعصفور في العراء صعقته قطرة مطر قوية فجعلته يرتعش رعشته الأخيرة قبل الموت ....
في غيبوته تلك كان يبحث في الظلام ، صور وعيون وهمسات وضحكات تحاصره في ذلك الممر المظلم ، يبحث عن تلك العينين التي ربما يعرف منها أسمه ...
روحه تتبدد وتتسلل في بطء ، تهوي عاجزة متجمدة ، لا يجد تلك الحقيقة والحياة في هذا الظلام وبين تلك الاشباح والضحكات والعيون ....
أيدي ثقيلة ترفعه ، يكاد يسمع صوت طقطقة عظامه وهم يضعونه على تلك الحفافة ، صوت سارينة الأسعاف يدوي ويحاصره ، ذلك الضوء الأحمر يطوف في كل مكان ، يغلقون عليه أبواب السيارة وينطلقون به .....
                                                     
                                                     ***********

طرق كعب حذائها الطويل يدوي صداه في تلك الطُرقة الطويلة الممتدة ، تمشي بثقل كأنها تُساق على طريق الامها السرمدي ....
صوت وصفارات أجهزة العناية المركزة كان مزعجاً لها ، كانت دوماً تخشى المستشفيات ورائحتها المميزة تُصيبها بالدوار ، همهمة الممرضات كأنها تُطاردها حتى المرضى الممدون على أسرتهم كانت تخشى أن ينظرون أليها ......
مبتسماً في سريره تحاوطه أجهزة العناية المركزة ومكبلاً بخراطيم المحاليل  ، صوت ضربات قلبه على الجهاز ينبض ببطء ، كان في سُباته الأبدي مبتسماً دائماً ...
وقفت أمامه ثم نظرت للنافذة الزجاجية التي ينعكس عليها ضوء صغيراً متسلاً من عواميد الأنارة التي تعانق الأشجار في حديقة المستشفى ...
ذهبت الى النافذة ، أخذت تدلك كتفيها بيديها ، أحست ببرودة الغرفة تنهش في جسدها النحيل ، نظرت عبر النافذة وهي تدفي صدرها بيديها ...
قالت : لا أدري أن كنت سامحتني أم لا ، لقت أغلقت أبواب غفرانك ولم يعد لدي ذلك الأمل البعيد ، أقف أمام عينيك ولا أستطيع أن أنظر أليها ، كأنها تضربني بسياط لا هوادة فيها ولا رحمة ، لقد أصبحت أتوق للألم بعد أن صنعته بيدي ، ربما نهاية الألم ذلك الفردوس الذي أتمناه بين أحضانك ، ربما طريق الألم هو المطهر بعد أن صعدت من الجحيم الذي هربت أليه عمياء في لحظات النزوة الدنيوية لأتخلى عن جنتي السماوية بين أحضانك ، أنزع تلك الأجهزة والخراطيم وافتح لي أبواب مغفرتك أو أطردني منها !!
صرخت : سامحني وافتح لي أبواب مغفرتك أو أطردني منها !! وكررتها ثلاث ....
نظرت الى عينيه المغمضتين فوجدته مبتسماً ، أقتربت من سريره ...
فدوى الجهاز المتصل بقلبه بصفارة طويلة ورُسم ذلك الخط على شاشته وتوقف الرقم المجاور له عند الصفر .....
دخل الطبيب والممرضات ، واحدة منهن تضع جهاز الصدمات على صدره فينتفض نفضة قوية ثم يهدأ ، وضعته مرة أخرى فينتفض ثانية ثم يهدأ ....
اقترب منها الطبيب والممرضات كي يهدئوا من روعها ، فتركتهم ورحلت وهي تصتدم بهم ...
تستند على الحائط في تلك الطُرقة الطويلة البيضاء ، صوت طرق كعب حذائها يدوي صداه مرة أخرى .....

                                                    ************

كقطة منبوذة في تلك الشوارع الخلفية ، جلست تلعق جراحها تنظر فزعة وخائفة الى عيون تراقبها من كل أتجاه ، جلست أمام مرأتها متشحة بالسواد ، ينساب شعرها الأسود الطويل ليغطي صدرها وكتفيها النحيلين ...
تلك الأصابع الغليظة الخشنة تحط على كتفيها ، تنبش في شعرها ثم جسدها ، أبتسامته تعكس أسنانه الكريهة في المرأة أمامها ، يضحك عالياً ثم يتركها ويرحل ....
ثقل صدرها وأصبحت تتنفس ببطء كأنما تصعد قمة جبلاً عالياً وكلما صعدت تنزلق قدميها على تلك الصخور الملساء ....
بدأ يسيل العرق على صدرها النحيل المنعكس عليه ضوء غرفتها الخافت ، يسلك رحلته كقطرات ثقيلة من صدرها وظهرها حتى قدميها الحافيتين ....
أمسكت المقص ونظرت لوجهها في المراة ، تلك العينين يسيل منهما الكحل في خطين ممزوجاً بدمعتين ثقيلتين ، ينسدل عليهما شعرها الطويل كستار ثقيل محملاً عليه الخير والشر الذي لقيته منذ سنون ....
كلما قصت خصلة من شعرها تضعها أمامها الى أن انتهت منه ....
ألقت بفستان صباها الذي تعتز به على السرير ، ثم أرتدته وجمعت ماتبقى من أشيائها القديمة ووضعتها في حقيبة صغيرة ....
أتى المساء وهدأ ذلك الزحام ، تتابعها عيون جيرانها ، كجوارح أنقضت على فريسة ملقاه في هجير صحراء بعيدة ....

أتجهت الى محطة القطار كي ترحل بعيداً عن تلك المدينة الكبيرة ، الى مدينتها الصغيرة التي تطل على البحر .....
في القطار تجلس بجوارها طفلة مبتسمة تأكل الحلوى والعسل يتساقط من شفتيها الصغيرتين ، تنظر عبر زجاج النافذة لا تسمع شيئاً مما يحدث في الخارج ، أناس يتحركون ويصتدمون ببعضهما ، أخر يلوح من خارج القطار ويتكلم فلا أحد يسمعه في الداخل ....
يطلق القطار صفارته ويتحرك ببطء ، يختفي ويتراجع ذلك الزحام ، تنظر عبر الزجاج فترى وجهها يتخلله انعكاس وجه  تلك الطفلة التي تأكل الحلوى مبتسمة ينساب العسل على شفتيها الصغيرتين ,,,,,,,, 

الخميس، 30 يناير 2014

الاضواء المبهرة

عادة ما يأتي الليل في الشتاء مبكراً ، ويخيم الهدوء سريعاً على تلك الشوارع الحُبلى بالزخم والزحام ...
أنتهى من عمله في المحل الذي يعمل فيه بائعاً طوال اليوم ، أنه يوم شبيه بباقي الأيام السابقة لم يكن حتى يتسائل بينه وبين نفسه بمسميات تلك الأيام وربما الساعات والدقائق التي يعيشها ...
أذنه ضعيفة السمع تساعده دائما على الهروب من الضوضاء وثرثرة الركاب في الترام أو الاوتوبيس ، يفصل تلك السماعة الصناعية عندما يخرج من المحل ويعيد تشغيلها عندما يرى أخيه الصغير ....
يخطو مسرعاً بين المارة ، يخترق الميدان الذي يطل عليه المحل الذي يعمل فيه ، تنعكس في عينيه تلك الأضواء المبهرة للفتارين وواجهات المحلات المتلألأة ، وحيداً في هذا الزخم ككلب خرج تائهاً من جحره فأصبح غريباً منبوذاً وسط الزحام ، يسارع للأزقة والشوارع الضيقة كي ينعم بالطمأنينة والأمان الذي ينشده ....
قد تأخر على أخيه الصغير الذي يتركه عند حبيبته التي تقرب لأمه قرابة عائلية بعيدة وتعتني بهذا الصغير الذي يعاني ضعفاً عقلياً وخللاً في النطق يجعله كملاك صغير منزهاً نقياً كماء المطر خالياً من الشوائب الأنسانية الكريهة ....
وجده يجلس على عتبة الدار يتابع الصبية وهم يلعبون الكرة ، أعاد تشغيل سماعة الأذن عندما أقترب منه ، فجرى عليه الصغير قافزاً بين ذراعيه مختبئاً في حضنه ، يحكي له بكلماته المتقطعة البطيئة ماحدث بينه وبين الصبية والفتاة الصغيرة التي تلعب معه ....
قادمة من أخر الممر الذي ينتهى عند عتبة الدار ، يتبدد الضوء الخافت في الممر كلما أقتربت فظهرت ملامحها أخيراً عندما وصلت أليه ، لم تنظر أليه كانت تنظر للصبية الذي يلعبون الكرة ، حافية القدمين تضع قدم فوق الأخرى ....
ناظراً اليها منتظراً أن تتكلم ... تحدثت وهي تنظر بعيداً تدلك قدميها الحافيتين ببعضهما : اعذرني لا نستطيع أن نعتني بأخيك الصغير بسبب ظروف خارجة عن أرادتنا وخطبتي ستكون يوم الخميس القادم على أبن عمي ....
وضع أصبعه خلف أذنه وأغلق السماعة التي تصله بالعالم ككل ، ظل ناظراً ألي شفتيها مبتسماً ...
كان الصغير مشدوهاً الى بائع غزل البنات الذي أتى بزمارته حاملاً أكياس غزل البنات الملونة ، ظل يصرخ لأخيه ويشد ذراعيه كي يشتري له غزل البنات ....
ألتفت الى أخيه الصغير وترك نفسه اليه حتى سحبه الصغير الى بائع غزل البنات ، ظل ناظراً اليها وهي واقفة على عتبة الدار تدلك قدميها الباردتين ببعضهما ....
أشترى لأخيه غزل البنات ممسكاً بيده الصغيرة عائداً الى الميدان حتى يستقلا الترام ، كان اخيه الصغير يحب الترام بنافذته الكبيرة الواسعة واهتزازه الدائم وانعكاس ضوئه المبهر في عينيه ، يجلس على رجليه ناظراً الى العالم عبر نافذته الكبيرة ....
وصلا الى بيتهما في سطح العمارة العملاقة التي تطل على المدينة ، تلك الغرفة الصغيرة في هذا السطوح المتسع ، يجلسان سوياً ويطلان على العالم ، يظل الصغير يغني أغانيه المتهدجة الصافية ينظر الى أضواء لوحات الأعلانات الكبيرة المبهرة التي تضيء وتخفت ، النوافذ المضيئة الصغيرة كحشرات الغابات التي تلمع ليلاً فتصبح كمصابيح صغيرة في الظلام ، أضواء السيارات على الكباري المتقاطعة لا تتوقف ابدا في تلك المدينة المزدحمة دائماً ....
يجلس محتضناً أخيه الصغير الذي غلبه النعاس ...

 يُبعث في قلبه كل ليلة ذلك الألم الذي يقتله في زخم اليوم وزحامه ,,,,,