السبت، 22 فبراير 2014

عندما أتى المساء


بدأ يخفت النور في عينيه رويداً وأصبح جفنه ثقيلاً لا يقدر على رؤية من حوله ، اثنين او ثلاثة أصبحوا كأشباح تتراقص أمام عينيه وهم يهربون ، الدم المالح عالق في حلقه مختلطاً بالطين والتراب ، جبهته اليمنى ممرغة في الوحل ، الضربة التي تلقاها على رأسه كانت قوية جعلت رأسه يتهشم ، الألم يتسلل من كل مكان في جسده الملقى على الطريق المهجورة ، لم يعد يستطيع أن يتنفس لا يدري أن كان قلبه مازال ينبض أم توقف الان ...
المطر ينذر بغيثه القليل وقطراته الثقيلة ترتطم بعينيه المغمضتين ، تغسل الدماء التى بدأت تتخسر على شفتيه ، أصبح كعصفور في العراء صعقته قطرة مطر قوية فجعلته يرتعش رعشته الأخيرة قبل الموت ....
في غيبوته تلك كان يبحث في الظلام ، صور وعيون وهمسات وضحكات تحاصره في ذلك الممر المظلم ، يبحث عن تلك العينين التي ربما يعرف منها أسمه ...
روحه تتبدد وتتسلل في بطء ، تهوي عاجزة متجمدة ، لا يجد تلك الحقيقة والحياة في هذا الظلام وبين تلك الاشباح والضحكات والعيون ....
أيدي ثقيلة ترفعه ، يكاد يسمع صوت طقطقة عظامه وهم يضعونه على تلك الحفافة ، صوت سارينة الأسعاف يدوي ويحاصره ، ذلك الضوء الأحمر يطوف في كل مكان ، يغلقون عليه أبواب السيارة وينطلقون به .....
                                                     
                                                     ***********

طرق كعب حذائها الطويل يدوي صداه في تلك الطُرقة الطويلة الممتدة ، تمشي بثقل كأنها تُساق على طريق الامها السرمدي ....
صوت وصفارات أجهزة العناية المركزة كان مزعجاً لها ، كانت دوماً تخشى المستشفيات ورائحتها المميزة تُصيبها بالدوار ، همهمة الممرضات كأنها تُطاردها حتى المرضى الممدون على أسرتهم كانت تخشى أن ينظرون أليها ......
مبتسماً في سريره تحاوطه أجهزة العناية المركزة ومكبلاً بخراطيم المحاليل  ، صوت ضربات قلبه على الجهاز ينبض ببطء ، كان في سُباته الأبدي مبتسماً دائماً ...
وقفت أمامه ثم نظرت للنافذة الزجاجية التي ينعكس عليها ضوء صغيراً متسلاً من عواميد الأنارة التي تعانق الأشجار في حديقة المستشفى ...
ذهبت الى النافذة ، أخذت تدلك كتفيها بيديها ، أحست ببرودة الغرفة تنهش في جسدها النحيل ، نظرت عبر النافذة وهي تدفي صدرها بيديها ...
قالت : لا أدري أن كنت سامحتني أم لا ، لقت أغلقت أبواب غفرانك ولم يعد لدي ذلك الأمل البعيد ، أقف أمام عينيك ولا أستطيع أن أنظر أليها ، كأنها تضربني بسياط لا هوادة فيها ولا رحمة ، لقد أصبحت أتوق للألم بعد أن صنعته بيدي ، ربما نهاية الألم ذلك الفردوس الذي أتمناه بين أحضانك ، ربما طريق الألم هو المطهر بعد أن صعدت من الجحيم الذي هربت أليه عمياء في لحظات النزوة الدنيوية لأتخلى عن جنتي السماوية بين أحضانك ، أنزع تلك الأجهزة والخراطيم وافتح لي أبواب مغفرتك أو أطردني منها !!
صرخت : سامحني وافتح لي أبواب مغفرتك أو أطردني منها !! وكررتها ثلاث ....
نظرت الى عينيه المغمضتين فوجدته مبتسماً ، أقتربت من سريره ...
فدوى الجهاز المتصل بقلبه بصفارة طويلة ورُسم ذلك الخط على شاشته وتوقف الرقم المجاور له عند الصفر .....
دخل الطبيب والممرضات ، واحدة منهن تضع جهاز الصدمات على صدره فينتفض نفضة قوية ثم يهدأ ، وضعته مرة أخرى فينتفض ثانية ثم يهدأ ....
اقترب منها الطبيب والممرضات كي يهدئوا من روعها ، فتركتهم ورحلت وهي تصتدم بهم ...
تستند على الحائط في تلك الطُرقة الطويلة البيضاء ، صوت طرق كعب حذائها يدوي صداه مرة أخرى .....

                                                    ************

كقطة منبوذة في تلك الشوارع الخلفية ، جلست تلعق جراحها تنظر فزعة وخائفة الى عيون تراقبها من كل أتجاه ، جلست أمام مرأتها متشحة بالسواد ، ينساب شعرها الأسود الطويل ليغطي صدرها وكتفيها النحيلين ...
تلك الأصابع الغليظة الخشنة تحط على كتفيها ، تنبش في شعرها ثم جسدها ، أبتسامته تعكس أسنانه الكريهة في المرأة أمامها ، يضحك عالياً ثم يتركها ويرحل ....
ثقل صدرها وأصبحت تتنفس ببطء كأنما تصعد قمة جبلاً عالياً وكلما صعدت تنزلق قدميها على تلك الصخور الملساء ....
بدأ يسيل العرق على صدرها النحيل المنعكس عليه ضوء غرفتها الخافت ، يسلك رحلته كقطرات ثقيلة من صدرها وظهرها حتى قدميها الحافيتين ....
أمسكت المقص ونظرت لوجهها في المراة ، تلك العينين يسيل منهما الكحل في خطين ممزوجاً بدمعتين ثقيلتين ، ينسدل عليهما شعرها الطويل كستار ثقيل محملاً عليه الخير والشر الذي لقيته منذ سنون ....
كلما قصت خصلة من شعرها تضعها أمامها الى أن انتهت منه ....
ألقت بفستان صباها الذي تعتز به على السرير ، ثم أرتدته وجمعت ماتبقى من أشيائها القديمة ووضعتها في حقيبة صغيرة ....
أتى المساء وهدأ ذلك الزحام ، تتابعها عيون جيرانها ، كجوارح أنقضت على فريسة ملقاه في هجير صحراء بعيدة ....

أتجهت الى محطة القطار كي ترحل بعيداً عن تلك المدينة الكبيرة ، الى مدينتها الصغيرة التي تطل على البحر .....
في القطار تجلس بجوارها طفلة مبتسمة تأكل الحلوى والعسل يتساقط من شفتيها الصغيرتين ، تنظر عبر زجاج النافذة لا تسمع شيئاً مما يحدث في الخارج ، أناس يتحركون ويصتدمون ببعضهما ، أخر يلوح من خارج القطار ويتكلم فلا أحد يسمعه في الداخل ....
يطلق القطار صفارته ويتحرك ببطء ، يختفي ويتراجع ذلك الزحام ، تنظر عبر الزجاج فترى وجهها يتخلله انعكاس وجه  تلك الطفلة التي تأكل الحلوى مبتسمة ينساب العسل على شفتيها الصغيرتين ,,,,,,,, 

ليست هناك تعليقات: