السبت، 26 أكتوبر 2013

ثرثرة على شفاه البحر



نظر إلى السماء فإذا بالنجوم طُمست تحت وهج الشال الفضي الذي بسطه القمر على السماء وفتح له البحر ذراعيه فلمع كصحاف الفضة المتلألئة تتراقص في نعومة محتضنة تلك المراكب الصغيرة التي تحمل على متنها  مصابيح تساعد الصيادين قليلاً قبل بزوغ الفجر وإشراق الصباح من خلف البحر تجاه الشرق .....
قد سبقه والده العجوز بخطوات يستقبل هواء الفجر بصدره لا يبالي بتلك الشيخوخة التي انقضت بمخالبها عليه منذ سنون لقد اعتاد هواء وملوحة البحر فأصبح كسلطعون طاعناً في السن يعيش مابين الماء ومابين اليابسة وسط الصخور ....
أخذ من والده الشِباك الثقيلة وجهاز الراديو الصغير ، وحمل العجوز المصباح ، نظر إليه العجوز بخشونة وبعض القسوة وقال له : أسرع حتى نرمي الشباك مبكراً قبل أن ينحصر الموج ....
تتمايل المراكب المحملة بالمصابيح ، تتصاعد منها الهمهمات والضحكات العالية وغناء الصيادين ، كأنها صلاة وابتهالات لسيد البحار حتى يحنوا عليهم ولا يغضب ويعطهم ما يريدون   ولا يعودوا إلى الديار خائبين .....
وضع المصباح في وسط المركب الصغير ، جلس هو على أحد طرفي المركب وجلس والده العجوز على الطرف الأخر ...
أدار المذياع فإذا بابتهالات صلاة الفجر قد بدأت ، رمى الشباك وتسرسبت من بين يديه رويداً رويدا ، يفكها عقدة تلو الأخرى وتختفي في أعماق شفاه البحر الفضية ....
جلس العجوز يدندن بأغانيه البحرية التي يتملق فيها البحر والرزق ، ثم الدعاء بأن تخرج شبكته حبلى بالبوري والدنيس والمرجان ....
ابتعد بعينيه إلى الشاطئ والبيوت المتراصة الشاهدة على الزمن ، نوافذ مُغلقة وأخرى مفتوحة يشع منها ضوء صغير كعيونٍ تراقب وتنتظر ، لا يدرى ماذا تنتظر والى متى سوف تنتظر ؟؟
في أحدى تلك الشرفات ربما تقف تنظر وتبحث عنه من بين تلك المراكب المحملة بالمصابيح ، ثرثرته المعتادة عنها على شفاه البحر الفضية ، أمنياته وحكاياته عنها ومواقفه اليومية ، انتظاره اليومي لها على الكورنيش قبل الغروب ، أنها هيباتيا تلك المدينة ، هبة السماء وما خلف الشموس المنيرة  وتلك الأجرام البعيدة ، هبة الروح التي تضيء أركان قلبه كتلك الفنار الرابض بعيداً على أطراف المدينة يضيء ظُلمات البحر للسفن خوفاً من تضل طريقها يوماً ما .....
يأتي صوت الأذان قادماً من مئذنة المسجد الشامخة القريب من الكورنيش ، تتصاعد التكبيرات إلى السماء يتبعها دعوات الصيادين على المراكب المتمايلة على صفحة البحر الفضية ، كل واحداً منهم بدعائه الخاص ....
يتحسس النور طريقه من خلف البحر تجاه الشرق ، مبدداً ظلام الليل ، معركة أبدية مابين النور والظلام ينتصر أحداهما على الأخر تارة وينتصر أخر تارة ، ينسحب الظلام في هدوء وانكسار المهزوم ، وتزهوا الشمس منتصرة بضيائها تنطلق في رحلتها من البداية للنهاية في انتظار الظلام مرة أخرى ....
تنطفئ المصابيح على المراكب مرحبة بالصباح الجديد ...
يسحب عُقد شبكته واحدة تلو الأخرى ، يحس بثقل الشبكة منذرة برزقٍ وفير ، يساعده العجوز و يأخذ هو المجداف كي يبحر إلى الشاطئ ....
يفرغا شبكتهما فتتقافز منها الأسماك الكثيرة ، فيبتسم العجوز إلى أبنه ويقول : بارك الله فيما رزق ....
                                                     *********
يعبر شارع الكورنيش متخطياً السيارات المسرعة ، ثم يقف بجوار الأريكة الخشبية المواجهة لسور الكورنيش ، قاربت الشمس على الغروب مبكراً في أيام الخريف القصيرة ، تحوطها بعض السحب الخريفية المشاكسة ، ينتظرها كالمعتاد في ذلك المكان في الجهة المقابلة لدكان الايس كريم ....
تلهو الفتاة الصغيرة حوله حافية القدمين ، تغني وتلهو بدميتها بجوار أبيها ماسح الأحذية ، يطقطق بفرشاته على صندوقه الخشبي ناظراً إلى أحذية المارة منتظراً أحدهم يضع قدمه فوق صندوقه ....
يعطي ظهره للشارع والمارة وينظر إلى البحر ومشاكسات سُحب الخريف مع الشمس التي قاربت على الغروب ....
يسمع صوت فرملة سيارة مسرعة وارتطام صغير وصراخ ضعيف ....
ينظر إلى الشارع والسيارات التي توقفت وتجمع المارة وهمهمات بعضهم باللوم والتجريح لسائق السيارة الشاب ، وصوت الموسيقى الصاخبة يخرج من سيارته ....
يندفع ماسح الأحذية بين الجمع صارخاً ومنادياً على أبنته ...
أنها الفتاة حافية القدمين ، غارقة في دمائها يحتضنها أبوها وبجوارها دميتها المهشمة ....
لم يستطع أن يقترب أو أن يغوص في وسط هذا ، ظل بعيداً يرتعش يراقب عن بعد ....
ونحيب الأب ماسح الأحذية لا يتوقف ....
وضعت كفها الرقيق على كتفه فأحس بالسكينة تعود أليه ، غمرته برائحة الياسمين التي تُميزها دائماً ، دفئ كفها الرقيق جعل تلك الأصوات والعالم ينزوي ويختفي بعيداً ، إنها الهبة السماوية والشموس المنيرة وما خلف الأجرام البعيدة   .....
مع هبوط الشمس خلف البحر باتجاه الغرب وتلاشى السحب الخريفية ، وضعت كفها الرقيق بين يده وذهبا بعيداً بمحاذاة البحر ,,,,,, 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لفان جوخ