الاثنين، 21 مايو 2012

بابل



لا تهتم دائماً بما يدور حولها في الزحام وربما لا تتأثر بهِ ، انتهى ميعاد عملها في قسم العناية الفائقة لمرضى القلب، نظرت نظرة أخيرة على  الغرفة التي تقوم بالأشراف عليها وكان بجوارها الطبيب يتحدث الى المريض ويخبره انه يمكنه المغادرة هذا المساء والمريض يتقبل كلام الطبيب بأبتسامة ضعيفة واهنة ....
ذهبت الى غرفة الممرضات ، غيرت ملابسها وارتدت ملابسها العادية ، تمشت بسرعة في طرقة القسم الطويلة لا تنظر لأحد ، ودعتها أحدى زميلاتها فحيتها في هدوء وانصرفت ....
أخترقت الشارع لا تٌبالي بالسيارات والمارة ، فتتوقف سيارة كادت أن تدهسها فيخرج السائق من نافذة السيارة ويزعق بصوت عالٍ ، فلا تلتفت اليه ....
تصل الى بيتها التي تُقيم فيه وحيدة ، بيت صغير من غرفة نوم واحدة وصالة صغيرة ومطبخ وحمام ، اول ماتفعله هو أن تذهب الى الحمام تقف أمام المراه للحظات وتظل تدعك يدها بالصابون ثم تترك شعرها الطويل ينسدل بحرية على كتفيها النحيفين ...
تذهب الى المطبخ تُعد كوب من الشاي الأخضر الساخن وتأتي بطعام سمكتها الوحيدة التي تعيش في الحوض الدائري ، تنظر الى سمكتها ثم تنثر الطعام من أناملها الطويلة الرقيقة فيرتطم بسطح الماء فيُحدث دوامات صغيرة تستشعرها السمكة فتنتفض وتتجه للطعام المتناثر في الماء ، تظل تُطعم سمكتها حتى تنتهى ، ثم تصنع طبق من البطاطس المقلية وبعض المكرونة وقطعة من اللحم وتأكل ثم تقف في نافذتها الصغيرة وتنظر للشارع قليلاً وتذهب لسريرها وتنام ........
تستيقظ في الصباح الباكر تأخذ حمام ساخن وتظل تتأمل تلك الندبات والجروح التي تنتشر على كتفيها وصدرها وظهرها ، تدعكها جيداً بالصابون كقطة تلعق بلسانها جراحها  ، ثم ترتدي ملابسها ، وتعد كوب الشاي الأخضر وتُطعم سمكتها قبل أن تذهب للمستشفى .....
تخترق الشارع المزدحم دون أن تُبالي بأحد ، ثم تصل الى المستشفى ، تمشى في طُرقة القسم الطويلة فتحس الان بصوت دقات حذائها وأصوات اجهزة العناية المنتشرة في الغرفة وأهات بعض المرضى ....
تدخل غرفة الممرضات فتقوم بتغير ملابسها وترتدي ملابس التمريض ، ثم تذهب الى الغرفة التي تقوم بالأشراف عليها ، ذهبت الى الطبيب اولا وسألته عن المريض الجديد ، فأخبرها بحالته ، مريض في الأربعين من العمر تعرض لأزمة قلبية حادة ، كفيف لا يرى ، ثم وصف لها الأدوية التي سيحتاجها ومواعيدها ....
دخلت عليه الغرفة كان وحيداً ومستلقياً على ظهره ، أحس بخطواتها لكنه لم يلتفت لمصدر تلك الخطوات ، فقالت صباح الخير وهي تقترب من السرير وتمسك التقرير الطبي المُعلق على طرفه ، عندما سمع صوتها الهاديء الرقيق أعتدل في نومه ورد التحية بصباح النور ......
قالت وهي تقترب منه وتنظر للشاشة الألكترونية المعلقة أعلى السرير : سأكون أنا الممرضة المتواجدة معك نصف اليوم ، لو أحتاجت لأي شيء تستطيع أن تضغط على هذا الزر .. ثم تناولت الزر المعلق بجوار السرير ووضعته في يده وقالت : أنه على يمين السرير مباشرة لو مددت يدك ستجده في الحال ... نظرت للساعة ثم قالت : ميعاد الحقنة المذيبة للجلطات يجب أن تأخذها في بطنك ....
قال وهو ينظر لمصدر الصوت : أضروري أن أخذها في البطن ، هل هي مؤلمة ؟ من الصعب عليّ أن أخذ حقنة في بطني هذه أول مرة لي ، من الواضح أني سأعتاد عليها ، ما أسمك ؟ مادام ستكونين ممرضتي يجب أن اعرف أسمك ....
قامت برفع الغطاء من عليه ثم فكت بيجامته أول وثاني زرارين من الأسفل ووضعت المطهر على بطنه ثم حقنته في خفة وسرعة ...
أحس بوخز الأبرة والألم عندما تسرب الدواء الى داخل جسمه وأحس ببرودة وقشعريرة في أطرافه  ، وقال : من السيء أن يتكرر هذا الأمر كل يوم ...
قالت وهي تعيد ملابسه وتُرجع الغطاء مرة أخرى : مرتين في اليوم وسوف يستمر هذا لمدة ثلاثة أو اربع ايام فقط حسب توجيهات الطبيب .....
قالت وهي تخرج من الغرفة : سأذهب لأتي لك بالأفطار ، فناداها وقال في هدوء : هااا ما أسمك ؟؟
جلس وأخذ يعدل من شعره وملابسه ، ثم أخرج نظارته السوداء من أسفل مخدته ولبسها ....
جائت بالأفطار ، فأحس بوقع خطواتها الخفيفة على الأرض ، فقال : ياترى الطعام هنا جيد أم لابد أن يكون طعام المستشفيات دائما مثير للأكتئاب ؟؟
قالت وهي تضع الطعام على الطاولة المتحركة : جبن منزوع الدسم ومربى التين وخبز وعصير برتقال ....
قال وهو يبتسم أبتسامة صغيرة : هذا فقط الا يوجد بيض وفول وسيجاراً ؟؟
قالت وهي تلبسه الفوطه على صدره : البيض يوجد به كولسترول ولا يوجد هنا فول أما السجائر فأنت اكيد تمزح !! ها أتحب أن تبدأ بأي الموجود على الطاولة ؟؟
قال : لماذا لا تقولين لي أسمك ، من الأفضل ان اناديكي بأسمك هذا سيشعرني بالراحة والقدرة على التواصل ، لو سمحتي قطعة جبن فقط ...
اعطته قطعة الجبن ثم قالت : وما أهمية أسمي ؟ ناديني كما تُحب ...
أحس بالأمتعاض من طعم الجبن وقال : انها عادمه ليس بها ملح !! أمصرة أنتي أن لا تقولِ أسمك ؟ نبرات صوتك متشابهة مع أختي الصغيرة أمل ، لا أعلم أن كنتِ تتشابهين معها في الملامح أم لا لكن ستأكد من ذلك يوماً ما ، سأناديكي بأمل .....
قالت وهي تعطيه عصير البرتقال في يده : موافقة على أسم أمل ، لكن قد يُغضب ذلك أختك الصغيرة ؟؟
قال وهو يضع عصير البرتقال على الطاوله ويده ترتعش : لقد ماتت في حادث ...
أحست بالحرج ثم سحبت الطاولة وقالت : أنا أسفه أني ذكرتك بها ....
قال لها وهو يحرك يده على كتفه وصدره : كم الساعة الان ؟
قالت : التاسعة صباحاً .... قال : الشمس أصبحت دافئة لو سمحتي أزيحي الستائر واجعلي أشعة الشمس تتسلط عليّ ، أحس بالبرودة وأريد دفء اشعة الشمس ...
أزاحت الستائر فتسربت أشعة الشمس عبر زجاج النافذة فتسلطت على نصف جسمه ، فأصبح النصف الأخر في الظل .....
أعطته بعض الأدوية ثم جائت في فترة الغداء ، فعندما دخلت الغرفة قال : أهلا يا أمل ..
أتعلمين أني اكره الظلام رغم أعتيادي عليه ، سوف لا تصدقيني ، من طفولتي وأنا أخاف الظلام كنت أستحلف أمي أنها تضيء غرفتي ، كانت تسخر مني لكني أؤكد لها أني أحس بالضوء كأنها ضباب أبيض في عينيا ، أحس بدفء الشمس وحتى دفء المصابيح الكهربائية في الشتاء ، أعتبري هذا سر لا تُخبرين أحد به .....
قالت وهي تضع الغداء : ولماذا أخبرتني بسرك ؟
قال : لأنك أمل .. أمل دائما كانت تحتفظ بأسراري وانا أحتفظ بأسرارها ألا تخبريني بأسرارك ؟؟
قالت وهي تنظر له وهو يأكل : لا يوجد لدي أسرار ، أنا انسانة عادية لكن أن كنت مصّر ، فأنا صماء لا أسمع ألا بسماعة طبية ...
ضحك وهو مركز صوب عينيه عليها وقال : هذا غريب أنا أعمى وأنتي صماء شيء يكمّل الأخر ، قد أرى بعيونك أنتي ، وقد تسمعين بأذناي  لكنك بطبيعة الحال تسمعين ...
ضحكت ضحكة هادئة تكاد تكون أبتسامة : أحياناً أنزع السماعة خصوصا وقت الضوضاء او عندما لا أريد أن اسمع ثرثرات الأخرين ، لا أحب الات تنبيه السيارات ولا الضوضاء عموماً ....
أبتسم وقال : أخاف يأتي وقت تنزعي فيه سماعتك عندما أثرثر كما أثرثر دائماً ، قولي لي فقط أصمت وسوف أصمت في الحال .....
أستيقظ مبكراً ينتظرها كانت قد تأخرت عن موعدها نصف ساعة لم يكن ليدري كم من الوقت تأخرت لكن أحس بتأخرها ...
دخلت عليه الغرفة فأحس بوقع خطواتها الخفيفة على الأرض ، قال : لقد تأخرتي اكثر من نصف ساعة ...
ضحكت وقالت : كيف عرفت ؟؟ قال وهو يبتسم : هذا أحساس ...
قالت : ميعاد الحقنة الان ... قال : حسناً اللهم لا أعتراض ....
وضع يده فجأة على وجهها وقال : ارجوكي لا تتحركي ... كان يتحسس ملامح وجهها كطريقة برايل ....
أندهشت وأحست بحدود أتصال أنامله بوجهها ، أحساس بالحنان ينسكب ويتسلل من وجهها الى رقبتها وصدرها وبطنها ثم يتفرع لرجليها ، كأنها تصل الى جذور كيانها كشجرة عطشى للأمان والحنان فأرتوت ....
قال : أنتي متشابهة الملامح جدا مع أختي ...
خجلت وقامت فجأة وأنصرفت ...
عادت بعد قليل وكان ينتظرها ، قال : اعتذر لو كان تصرفي ازعجكك لكن كان لابد أن أحدد ملامحك ...
قال لها : أأنتي متزوجة ؟؟
قالت وقد أحمر وجهها : لا لست متزوجة ، مثلي لا تتزوج بسهولة !!
قال : أنا كنت متزوج !! أنسانة أتقنت تمثيل الحب حتى تصل الى هدفها ، لا أدري أن كنت أحبها أم كنت أبحث عن مُرشداً لطريقي وسط الظلام ، المهم ببساطة أنها خدعتني حتى تستولي على بعض المال وقد كان ، المال ليس مشكلة ، لكن مايكسر القلوب لا يقدر بثمن ....
لماذا مثلك لا تتزوج ؟؟ أنتي أنسانة جميلة ورقيقة ...
قالت وهي تنظر من النافذة بعد أن ازاحت الستائر حتى تدخل أشعة الشمس فأضائت وجهها : أنا وحيدة لست من هذة البلدة ، ليس لي أحدٌ هنا لقد درست التمريض في تلك الجامعة هرباً من اضتهاد زوجة أبي التي تزوجها أبي سامحه الله بعد وفاة أمي ، كنت صغيرة عندي عشرة سنوات ، كانت زوجة أبي مريضة بالسادية ، تستمتع بتعذيبي ، هل تتخيل طفلة تجلس وحيدة ومنزوية تبكي في ركن الغرفة بعد أن ضُربت بالسوط على ظهرها أو تم سكب الشمع الملتهب على صدرها ، كان هذا الدرس الأسبوعي بعد أن أنظف جسدها واحممها واقّبل قدميها حتى تستمتع بتعذيبي وببكائي وتوسلاتي أن ترحمني  ، كنت أشتكي لأبي وتقول هي له أني لا أسمع كلامها بالتالي فهي تربيني ، هكذا كانت حياتي حتى هربت وأخذت ذهب أمي كي أصرف منه على نفسي وعلى دراستي وظللت هنا في هذة البلدة أكثر من سبع سنوات حياتي هي المستشفى وبيتي وفقط ....
تسللت أشعة الشمس من جوارها حتى استقرت على وجهه هو وقد أبتسم أبتسامة هادئة وقال : كان هناك قصة عن برج بابل ، بعد الطوفان الذي ضرب الأرض ايام نبي الله نوح قام أبناء نوح بالأتفاق على بناء صرح يتجمعون حوله هم وابنائهم وكل الكائنات ويتوحدون ضد الشر ويعبدون اله واحد يصعدون الى جنته عبر هذا الصرح ، جنه ليس بها شر وقتل وكراهية ، لكن الاله غضب من ذلك لانه أراد للبشر أن يتفرقون ويعمرون الأرض ، عمّروها وفي نفس الوقت نشروا فيها  كل أنواع الشر ، هل نحتاج لبرج بابل من جديد أم كل واحد منا يبحث عنه بنفسه ؟؟؟
كانت تبكي وهي تنظر من النافذة وتدفيء كتفيها وصدرها بكفيها بعد أن أختفت الشمس خلف السحب الشتوية ...
خرجت من الغرفة ولم تعود اليها مرة أخرى ، ظل ينتظرها الى أن خرج من المستشفى مع أخوه الأكبر ...
أصابتها الحمى وظلت طريحة الفراش في بيتها الصغير تطمئن عليها فقط أحدى زميلاتها الممرضات ...
سأل على عنوانها حتى أستطاع أن يصل اليها ، فتحت له الباب وهي تسعل بقوة ، فأصابتها الدهشة عندما رأته ...
طلب منها الدخول وجلس بجوار حوض السمكة الوحيدة ....
قال : أتقبلين الزواج بي ؟
قالت : انا فتاة معقدة كلي جروح وندبات قد يزعجكك تصرفاتي الغريبة ...
قال وهو يضع يده على حوض السمكة بعد أن اصتدمت به : سنعالجها سوياً ، سنصعد سوياً برج بابل الخاص بنا ، أنتي مُرشدي الى الجنة .....
أخذ منها الطعام الصغير الذي كانت تُطعم بهِ سمكتها ، وقام بنثره على الماء فيرتطم بسطح الماء فيُحدث دوامات صغيرة تستشعرها السمكة فتنتفض وتتجه للطعام المتناثر في الماء ,,,,,,,

الأحد، 6 مايو 2012

الألوان



يعلم جيداً أنه يجب أن ينفذ أوامر ذلك الساحر ، قد يموت جوعاً أو يتم رميه خارج فريق السيرك ...
كل مايذكره عن طفولته وكيف أتى الى هذا المكان ، أنه كان طفل صغير مع مجموعة أطفال في ملجأ كبير للأيتام وجاء هذا الرجل واستلمه مع فتاتين صغيرتين ، أحدهما صديقته والأخرى حبيبته ....
لم يرى أحد خارج السيرك والفريق والجمهور المتعدد الذي يترددون عليه في مختلف المدن التي يزورونها ، حياته وعالمه الخاص الذي لا يعلم سواه ولم ترى عيناه غيره ....
سمع صوت الساحر وهو يزعق في غضب يطالب الجميع بسرعة الأستعداد والتمرين جيداً ، يتحرك بين الجميع ببدلته الاسموكن السوداء وأصباغ الوجه التى تظهر حدة الملامح والذكاء ، مع صبغ الشعر الأبيض المنتشر الذي اجتاح وازاح شعره الأسود ، كان هو الساحر والمدير ....
الفتيات الرشيقات الجميلات يتحركن في مجموعة في اضطراب ضحكاتهم العالية تصدح في جنبات الخيام ، ملابسهم اللامعة الضيقة وصبغات الشعر الاصفر والاحمر تسيطر عليهن ، يسارعن للجلوس امام المرايات المحاطة بالمصابيح كي يظبطن ملابسهن ويصففن شعرهن .....
وفي محيط الحلبة الدائرية وسط الخيمة الكبيرة التي يقام فيها العروض ، يتمرن اللاعبين الذين يقفزون على الارجوحات الهوائية والحبال المعلقة عالياً في العاب خطرة تُلهب حماس الجمهور بأثارتها وسرعتها ....
يقف التوأم أمام بعضهما يلعبان الكرة ويتشقلبان في الهواء ثم يتلقفان الأطباق الطائرة في سرعة ودقة متناهية ، بينما يجلس المهرج العجوز ذو الأنف الأحمر والوجه الأبيض يلاعب كلابه الصغيرة ، بشفاه المبتسمة باللون الأحمر دائماً ، هي رُسمت كذلك ، لكن لا أحد ليرى حقيقته أمبتسم دائما أم ماذا يخفى تحت تلك الألوان .....
زئير الأسدين لا يتوقف أبدا اثناء فترة التمرين كانت مروضة الأسود السيدة كاميليا تلوح بعصاها للأسدين وهما يرفعان أيدهما في فزع خوفاً من بطشها هكذا تعلما منها ذلك ، ما الذي أدخل في مخيلتهما أنها اقوى وقد تعاقبهما بتلك العصا وهذا السوط ، لكن انها حيلة الأنسان في السيطرة على كل شيء ، يتحركان حسب أوامرها يهدئان بضربة سوطها على الأرض وفي الهواء ، في انتظار هديتهما من حمار مذبوح او كبشين صغيرين جائزة لهما على الطاعة واسعاد الجماهير .....
جاء موعد التمارين التي يقوم بها هو وحبيبته ، تمارين الأتزان على الحبل المرتفع والقفز منها في حركات عكسية والتشبث بالارجوحة في الهواء ، كانا هما الثنائي الأبرع في الفريق وكانت نمرتهما هي النمرة المفضلة لدى الجمهور فقد تعودا ان يقدماها بدون تأمين أو ربط خصرهما بالحبال ،،،،
تدربا سوياً منذ صغرهما على تلك اللعبة منذ ان قدما سوياً من الملجأ , كانت صديقتهما تمارس تلك اللعبة ، في أحدى الحفلات أجبرها الساحر على تقديم نمرتها وهي تعاني ارتفاع في درجة حرارتها بسبب الحمى ، وحاول الجميع أثنائه عن ذلك لانه في خطر على حياتها ، لكنه رفض بشدة وهددها بالطرد من السيرك ، في تلك الليلة ارتدت ملابسها الضيقة ، ووضعت الأصباغ الملونة على وجهها شعرها الأصفر كان طبيعيها بدون أصباغ عقدته عقدة صغيرة حتى لا يعوقها ، اضواء الحلبة المبهرة كانت تزيد من حرارة جسمها وتُشعرها بالدوار ، هتاف الجماهير وضحكات الأطفال لا تتوقف حولها ، جاء دورها فصعدت السلم الى أعلى في منتصف الحلبة ، كلما صعدت يزداد الدوار ، والأضواء تدور حولها وتمتزج مع صوت الجماهير والحيوانات ، حتى أصبحت لا تميز بينها ، أمسكت الأرجوحة بيديها فأحست أنها فقدت الأحساس بها ، لكنها تمسكت بها جيداً ، قفزت بها وتحركت في الهواء حركة دائرية رشيقة وأمسكت جيداً بالأرجوحة الأخرى ، تعالت صيحات الجمهور تشجيعاً لها ، استعدت للقفزة الأخرى ، ونظرات زملائها في الأسفل متعلقة بها ، أمسكت الأرجوحة مرة ثانيه ودفعتها ، فأختل توازنها وفقدت السيطرة عليها فتهاوت على ارض الحلبة ، انطفأت الانوار وتطايرت قصاصات الورق التي يلهون بها وتمرغت تحت أقدام زملائها ، وانصرف الجمهور الذي أخذ يثرثر لأيام كيف رأى كل واحد منهم الفتاة الشقراء الجميلة وهي تطير في الهواء وتتهاوى على الأرض .......
نظر لحبيبته وهما يستعدان لصعود السلم وأمسك يديها وقال : لم أعد أطيق هذا المكان في كل مرة نقدم ذلك العرض أراكِ تسقطين أمامي كما سقطت صديقتنا ، لم يبالي أحد بها سقطت وماتت ودفنوها في مكانٍ ما ولا حتى نعلم طريقه ، لم يبالي أحدٌ بنا سنسقط جميعاً الأخر تلو الأخر ولا أحد يدري ولا أحد يهتم ، حتى زملائنا ؟؟ سيبكون علينا أياماً ثم ينسون ويقدمون عروضاً يرقصون ويلعبون ويغنون ، أعلم أننا لا نعرف أحد وليس لدينا مال ولا مورد رزق ، لكننا سنترك تلك المدينة ونذهب بعيداً الى مدينتنا المطلة على البحر التي نشئنا فيها اتذكرين الملجأ واحنا صغار .......
ضمت يده بقوة وسقطت من عينيها دمعة صغيرة ازاحت ذلك الكحل الذي يزين عينيها فصنع خطاً على جبينها الأبيض ....
قالت : رغم أنني لا أعلم ماينتظرنا غداً فيكفيني أنني معك ,,,,,
بعد انتهاء العرض في المساء وأنصراف الجمهور ، جلس الساحر يناقش بحدة المصاريف والأيرادات مع المحاسب الخاص بالفريق ، وهدأت الأسود واخذت قسطاً من الراحة ، وبدأت الفتيات يغيرن ملابسهن ويذهبن الى الخيام ، وجلس المهرج العجوز تحت شجرة التوت الكبيرة يدخن سيجاراً ....
كان الفجر قد أقترب وبدأ القمر في الانزواء ناحية الغرب فصنع شفقاً امتداداً للشمس التي تصعد للسماء من ناحية الشرق ....
أمسك يد حبيبته وتسللا خفية بين الخيام ، كانت تمسك حقيبة متوسطة تحتوي على بعض الطعام والملابس ، وهو يمسك بيده الأخرى حقيبة صغيرة ، المهرج العجوز مازال جالساً وحيداً يدخن سيجاراً أسفل شجرة التوت فأنبته اليهما ، ما أن رائهما حتى أبتسم ، ابتسامة صادقة بدون أصباغ على شفاه الخشنة المشققة , أعطاهما بعض النقود وقال لهما : أسرعا قبل أن يراكم احد ، لا تعودا هنا مرة أخرى .....
اختفى القمر في الغرب البعيد ، وصعدت الشمس مشرقة بأشعتها الذهبية ، وصلا الى محطة القطار ، فكان القطار على وشك الأنطلاق ، ركضا برشاقة بجوار القطار المتحرك ببطء وقفزا في حركة سريعة الى داخل باب عربة القطار المفتوح .....
كانت الشمس تتكبد وسط السماء حينما وصلا الى الكورنيش المطل على البحر ، أخترقا الطريق وهما يضحكان ....
السحب تتناثر على امتداد الأفق فوق سطح البحر تُخفي الشمس تارة وتنسحب تارة أخرى ، ما أن وصلا الى الرمال حتى تخلصا من أحذيتهما ، واندفعا يركضان بأتجاه الموج ....
كانت فتاة صغيرة تلعب مع أبيها بطيارتها الورقية ، فأتجهت نحوهما بطيارتها التي ترتفع وتحلق ثم تعاندها الريح فتهبط ....
اخذا يدفعان الموج ويرشان المياه على الفتاة الصغيرة والفتى يلعب في وسطهما ، ثم حمل حبيبته فوق كتفه ينعكس في عينها البحر والفتاة الصغيرة بطيارتها الورقية  ,,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو 

الأربعاء، 2 مايو 2012

الأبواب المغلقة



أحس بالعجز وقلة الحيلة لم يستطع أن يفعل لها أي شيء كي ينقذها ، حاول أن يساعدها بالمال وحتى بدمه لكنه عجز أن يوقف ذلك العدو القاتل الذي انقض عليها بسيفه وحربته ، كان انقضاضه سريعاً خاطفاً لم يمهلها ان تستعد او تواجهه ، لم تكن لتواجهه الا بتلك الابتسامة الدائمة ، كان مرضها نادراً أرتفعت حرارتها وتجاوزت الأربعين ثم أصيبت بالشلل ....
أخبروه أنها ممكن إنقاذها في الخارج لكنها ستحتاج مصاريف عاليه ، ولا يملك المال لمساعدتها .....
أخذ معه الشيكولاتة وبعض اسطوانات الموسيقي التي تحبها فهي عازفة بيانو وعاشقة للموسيقى الكلاسيكية ، وقف أمام غرفتها واستأذن الدخول اليها ....
كانت في وهن وضعف ، تألقت عيناها عندما وقعت عليه وابتسمت ابتسامتها المعتادة ، جلس بجوارها وأمسك يديها ، لم تستطع أن تحركها لكنها أحست بالدفء يتسلل اليها ويطرد برودة الشتاء التي سيطرت عليها في تلك الليلة الشتوية ....
أخر ليلة في العام وبعد دقائق سيبدأ العام الجديد ، أخرج لها الشيكولاتة وأكل منها ثم وضع قطعة صغيرة في فمها ، فذابت بين شفتيها الضعيفتين ، نظر الى عينيها وضم يدها بقوة ، كنا سوياً العام الماضي وسنظل معاً الأعوام القادمة ، لن أتركك أبداً !!!!
طلبت منه أن ينزع عنها سلسلتها الذهبية من رقبتها ، قالت له : سلسلتي من وانا صغيرة ، اهدتها لي جدتي ولما أنزعها أبدا عني ، أرجوك أحتفظ بها لأجلي والبسها حالاً أمامي ....
فلبسها وعيناه تدمعان ، كانت تدلى منها صورة صغيرة لها وهي طفلة عمر عامين ...
فردت بأبتسامة معتاده على دموعه التي تساقطت ، ثم قبلها على رأسها ....
رفع رأسه من على جبينها فأرتخى كفيها من يدها ، فوجدها على تلك الأبتسامة الأخيرة !!!
ظل يبكي على كفيها حتى بدأ العام الجديد ...
بدأ العام الجديد بأمطار الميلاد الخفيفة ، تتساقط فوق رأسه لا يدركها ولا يحس بها ، يخترق الشارع الرئيسي وتمر السيارات بجواره مسرعة الات التنبيه لا تتوقف ابتهاجاً بالعام الجديد ، على جانبي الطريق فتيان وفتيات يمرحون بالبالونات والالعاب النارية ، المقاهي تخرج منها الأغاني الصاخبة وبعض الشباب يسخرون منه لحزنه وصمته في اول ساعة من العام الجديد ....
وصل الى عمارته التي يسكن بها ، عمارة كبيرة من العمارات القديمة والمرتفعة التي تطل على كامل المدينة وتكشفها ، الأضواء تتسلل من خلف النوافذ المغلقة ، ينظر لها من الأسفل ويتأملها فهو يعرف أصحابها جيداً منذ أن كان صغيراً ....
الكل مختبىء خلف تلك النوافذ والأبواب ، قد يكونوا مختبئين من البرد أو من العيون التي قد تكشفهم ....
دائما ً المصعد القديم معطل فيصعد السلالم في هدوء وصمت يصل الى الدور الثاني فينظر الى شقة الرجل العجوز الذي يسكن وحيداً بعد موت زوجته ، وزواج بنتيه وبعدهما عنه وعدم سؤالهم عليه ، لا يأتون اليه الا  في الأعياد وقد لا يأتون ، أصابه الزهايمر منذ أربع سنوات ويقوم على خدمته أحد الشباب الذين يخدمون العجزة بأجر شهري ....
يستمر في الصعود وقلبه بدأ في التعب بسرعة ...
في الدور الذي يليه خلف ذلك الباب الرجل الذي يعمل مديراً لأحد البنوك ، يخون زوجته الجميلة بأستمرار ، أنها سيدة لطيفة الكل في العمارة يحترمها لطيب أخلاقها ، الا زوجها دائماً مايخونها مع الخادمات ، يشرب الخمر بكثرة ويضرب زوجته اللطيفة الهادئة بأستمرار ، ما يجبرها على تحمله سوى أولادها التي تتمسك بهم .....
أستمر في الصعود فنظر الى شقته التي يسكن بها ، لم يبالي وأستمر في الصعود مرة بشقة السيدة التي تعيش هي وأبنتها وحيدتان بعد وفاة زوجها من عام ، والشقة المقابلة يسكنها الرجل المتدين ، ملتحي والبس بناته الصغيرات وزوجته النقاب منذ سنتين ....
يستمر في الصعود والصعود فيمر من أمام شقة السيدة المجنونة التي دائماً مايرتفع صوتها بالصراخ والسباب لزوجها واولادها ويخرج زوجها المسكين يسيل الدم منه بعد كل معركة مع زوجته ويظل الجيران يهدئون من روعها فتسبهم وتٌغلق باب شقتها عليها ....
يصل الى السطوح المتسع المطل على المدينة ، كان المطر مازال يتساقط خفيفاً ، مع رياح باردة انتابت صدره مجرد من أن وطأت قدميه سطح العمارة ، لوحات الأعلانات المنتشرة في العمارات البعيدة تتلألأ في عينيه ، تضيئ  و تنتطفىء باستمرار ....
أقترب ببطيء من السور ووقف ينظر الأضواء البعيدة المتسلسلة من خلف النوافذ المغلقة ، والكباري المتعددة تتحرك عليها السيارات بأضوائها الصغيرة البعيدة ....
وقف على حافة السور يود لو له جناحين يفردهما تحت قطرات المطر الصغيرة ، تتلألأ أضواء اللوحات الأعلانيه في عينيه ، يضم سلسلتها قليلاً ثم يترك نفسه يسقط .....
يسقط بجانب النوافذ المغلقة كما صعد بجوار أبوابها ......
ملقياً على وجه يسيل منه الدم فيترك بقعة حول رأسه ، وتتدلى من رقبته تلك السلسلة التي تحمل صورتها وهي صغيرة ....
تتطاير حوله قصاصات الورق الصغيرة التي كانوا يلهون بها في حفل بداية العام الجديد ...
يمر حوله بعض الناس مابين اندهاش وحزن ولا مبالاه فيمنعهم الشرطي من الاقتراب منه ، يتحدث في جهاز اللاسلكي شاب سقط من أعلى البناية رقم 45 شارع كذا ، تبليغ أقرب دورية وسيارة اسعاف ، انتهى ,,,,,