الاثنين، 21 مايو 2012

بابل



لا تهتم دائماً بما يدور حولها في الزحام وربما لا تتأثر بهِ ، انتهى ميعاد عملها في قسم العناية الفائقة لمرضى القلب، نظرت نظرة أخيرة على  الغرفة التي تقوم بالأشراف عليها وكان بجوارها الطبيب يتحدث الى المريض ويخبره انه يمكنه المغادرة هذا المساء والمريض يتقبل كلام الطبيب بأبتسامة ضعيفة واهنة ....
ذهبت الى غرفة الممرضات ، غيرت ملابسها وارتدت ملابسها العادية ، تمشت بسرعة في طرقة القسم الطويلة لا تنظر لأحد ، ودعتها أحدى زميلاتها فحيتها في هدوء وانصرفت ....
أخترقت الشارع لا تٌبالي بالسيارات والمارة ، فتتوقف سيارة كادت أن تدهسها فيخرج السائق من نافذة السيارة ويزعق بصوت عالٍ ، فلا تلتفت اليه ....
تصل الى بيتها التي تُقيم فيه وحيدة ، بيت صغير من غرفة نوم واحدة وصالة صغيرة ومطبخ وحمام ، اول ماتفعله هو أن تذهب الى الحمام تقف أمام المراه للحظات وتظل تدعك يدها بالصابون ثم تترك شعرها الطويل ينسدل بحرية على كتفيها النحيفين ...
تذهب الى المطبخ تُعد كوب من الشاي الأخضر الساخن وتأتي بطعام سمكتها الوحيدة التي تعيش في الحوض الدائري ، تنظر الى سمكتها ثم تنثر الطعام من أناملها الطويلة الرقيقة فيرتطم بسطح الماء فيُحدث دوامات صغيرة تستشعرها السمكة فتنتفض وتتجه للطعام المتناثر في الماء ، تظل تُطعم سمكتها حتى تنتهى ، ثم تصنع طبق من البطاطس المقلية وبعض المكرونة وقطعة من اللحم وتأكل ثم تقف في نافذتها الصغيرة وتنظر للشارع قليلاً وتذهب لسريرها وتنام ........
تستيقظ في الصباح الباكر تأخذ حمام ساخن وتظل تتأمل تلك الندبات والجروح التي تنتشر على كتفيها وصدرها وظهرها ، تدعكها جيداً بالصابون كقطة تلعق بلسانها جراحها  ، ثم ترتدي ملابسها ، وتعد كوب الشاي الأخضر وتُطعم سمكتها قبل أن تذهب للمستشفى .....
تخترق الشارع المزدحم دون أن تُبالي بأحد ، ثم تصل الى المستشفى ، تمشى في طُرقة القسم الطويلة فتحس الان بصوت دقات حذائها وأصوات اجهزة العناية المنتشرة في الغرفة وأهات بعض المرضى ....
تدخل غرفة الممرضات فتقوم بتغير ملابسها وترتدي ملابس التمريض ، ثم تذهب الى الغرفة التي تقوم بالأشراف عليها ، ذهبت الى الطبيب اولا وسألته عن المريض الجديد ، فأخبرها بحالته ، مريض في الأربعين من العمر تعرض لأزمة قلبية حادة ، كفيف لا يرى ، ثم وصف لها الأدوية التي سيحتاجها ومواعيدها ....
دخلت عليه الغرفة كان وحيداً ومستلقياً على ظهره ، أحس بخطواتها لكنه لم يلتفت لمصدر تلك الخطوات ، فقالت صباح الخير وهي تقترب من السرير وتمسك التقرير الطبي المُعلق على طرفه ، عندما سمع صوتها الهاديء الرقيق أعتدل في نومه ورد التحية بصباح النور ......
قالت وهي تقترب منه وتنظر للشاشة الألكترونية المعلقة أعلى السرير : سأكون أنا الممرضة المتواجدة معك نصف اليوم ، لو أحتاجت لأي شيء تستطيع أن تضغط على هذا الزر .. ثم تناولت الزر المعلق بجوار السرير ووضعته في يده وقالت : أنه على يمين السرير مباشرة لو مددت يدك ستجده في الحال ... نظرت للساعة ثم قالت : ميعاد الحقنة المذيبة للجلطات يجب أن تأخذها في بطنك ....
قال وهو ينظر لمصدر الصوت : أضروري أن أخذها في البطن ، هل هي مؤلمة ؟ من الصعب عليّ أن أخذ حقنة في بطني هذه أول مرة لي ، من الواضح أني سأعتاد عليها ، ما أسمك ؟ مادام ستكونين ممرضتي يجب أن اعرف أسمك ....
قامت برفع الغطاء من عليه ثم فكت بيجامته أول وثاني زرارين من الأسفل ووضعت المطهر على بطنه ثم حقنته في خفة وسرعة ...
أحس بوخز الأبرة والألم عندما تسرب الدواء الى داخل جسمه وأحس ببرودة وقشعريرة في أطرافه  ، وقال : من السيء أن يتكرر هذا الأمر كل يوم ...
قالت وهي تعيد ملابسه وتُرجع الغطاء مرة أخرى : مرتين في اليوم وسوف يستمر هذا لمدة ثلاثة أو اربع ايام فقط حسب توجيهات الطبيب .....
قالت وهي تخرج من الغرفة : سأذهب لأتي لك بالأفطار ، فناداها وقال في هدوء : هااا ما أسمك ؟؟
جلس وأخذ يعدل من شعره وملابسه ، ثم أخرج نظارته السوداء من أسفل مخدته ولبسها ....
جائت بالأفطار ، فأحس بوقع خطواتها الخفيفة على الأرض ، فقال : ياترى الطعام هنا جيد أم لابد أن يكون طعام المستشفيات دائما مثير للأكتئاب ؟؟
قالت وهي تضع الطعام على الطاولة المتحركة : جبن منزوع الدسم ومربى التين وخبز وعصير برتقال ....
قال وهو يبتسم أبتسامة صغيرة : هذا فقط الا يوجد بيض وفول وسيجاراً ؟؟
قالت وهي تلبسه الفوطه على صدره : البيض يوجد به كولسترول ولا يوجد هنا فول أما السجائر فأنت اكيد تمزح !! ها أتحب أن تبدأ بأي الموجود على الطاولة ؟؟
قال : لماذا لا تقولين لي أسمك ، من الأفضل ان اناديكي بأسمك هذا سيشعرني بالراحة والقدرة على التواصل ، لو سمحتي قطعة جبن فقط ...
اعطته قطعة الجبن ثم قالت : وما أهمية أسمي ؟ ناديني كما تُحب ...
أحس بالأمتعاض من طعم الجبن وقال : انها عادمه ليس بها ملح !! أمصرة أنتي أن لا تقولِ أسمك ؟ نبرات صوتك متشابهة مع أختي الصغيرة أمل ، لا أعلم أن كنتِ تتشابهين معها في الملامح أم لا لكن ستأكد من ذلك يوماً ما ، سأناديكي بأمل .....
قالت وهي تعطيه عصير البرتقال في يده : موافقة على أسم أمل ، لكن قد يُغضب ذلك أختك الصغيرة ؟؟
قال وهو يضع عصير البرتقال على الطاوله ويده ترتعش : لقد ماتت في حادث ...
أحست بالحرج ثم سحبت الطاولة وقالت : أنا أسفه أني ذكرتك بها ....
قال لها وهو يحرك يده على كتفه وصدره : كم الساعة الان ؟
قالت : التاسعة صباحاً .... قال : الشمس أصبحت دافئة لو سمحتي أزيحي الستائر واجعلي أشعة الشمس تتسلط عليّ ، أحس بالبرودة وأريد دفء اشعة الشمس ...
أزاحت الستائر فتسربت أشعة الشمس عبر زجاج النافذة فتسلطت على نصف جسمه ، فأصبح النصف الأخر في الظل .....
أعطته بعض الأدوية ثم جائت في فترة الغداء ، فعندما دخلت الغرفة قال : أهلا يا أمل ..
أتعلمين أني اكره الظلام رغم أعتيادي عليه ، سوف لا تصدقيني ، من طفولتي وأنا أخاف الظلام كنت أستحلف أمي أنها تضيء غرفتي ، كانت تسخر مني لكني أؤكد لها أني أحس بالضوء كأنها ضباب أبيض في عينيا ، أحس بدفء الشمس وحتى دفء المصابيح الكهربائية في الشتاء ، أعتبري هذا سر لا تُخبرين أحد به .....
قالت وهي تضع الغداء : ولماذا أخبرتني بسرك ؟
قال : لأنك أمل .. أمل دائما كانت تحتفظ بأسراري وانا أحتفظ بأسرارها ألا تخبريني بأسرارك ؟؟
قالت وهي تنظر له وهو يأكل : لا يوجد لدي أسرار ، أنا انسانة عادية لكن أن كنت مصّر ، فأنا صماء لا أسمع ألا بسماعة طبية ...
ضحك وهو مركز صوب عينيه عليها وقال : هذا غريب أنا أعمى وأنتي صماء شيء يكمّل الأخر ، قد أرى بعيونك أنتي ، وقد تسمعين بأذناي  لكنك بطبيعة الحال تسمعين ...
ضحكت ضحكة هادئة تكاد تكون أبتسامة : أحياناً أنزع السماعة خصوصا وقت الضوضاء او عندما لا أريد أن اسمع ثرثرات الأخرين ، لا أحب الات تنبيه السيارات ولا الضوضاء عموماً ....
أبتسم وقال : أخاف يأتي وقت تنزعي فيه سماعتك عندما أثرثر كما أثرثر دائماً ، قولي لي فقط أصمت وسوف أصمت في الحال .....
أستيقظ مبكراً ينتظرها كانت قد تأخرت عن موعدها نصف ساعة لم يكن ليدري كم من الوقت تأخرت لكن أحس بتأخرها ...
دخلت عليه الغرفة فأحس بوقع خطواتها الخفيفة على الأرض ، قال : لقد تأخرتي اكثر من نصف ساعة ...
ضحكت وقالت : كيف عرفت ؟؟ قال وهو يبتسم : هذا أحساس ...
قالت : ميعاد الحقنة الان ... قال : حسناً اللهم لا أعتراض ....
وضع يده فجأة على وجهها وقال : ارجوكي لا تتحركي ... كان يتحسس ملامح وجهها كطريقة برايل ....
أندهشت وأحست بحدود أتصال أنامله بوجهها ، أحساس بالحنان ينسكب ويتسلل من وجهها الى رقبتها وصدرها وبطنها ثم يتفرع لرجليها ، كأنها تصل الى جذور كيانها كشجرة عطشى للأمان والحنان فأرتوت ....
قال : أنتي متشابهة الملامح جدا مع أختي ...
خجلت وقامت فجأة وأنصرفت ...
عادت بعد قليل وكان ينتظرها ، قال : اعتذر لو كان تصرفي ازعجكك لكن كان لابد أن أحدد ملامحك ...
قال لها : أأنتي متزوجة ؟؟
قالت وقد أحمر وجهها : لا لست متزوجة ، مثلي لا تتزوج بسهولة !!
قال : أنا كنت متزوج !! أنسانة أتقنت تمثيل الحب حتى تصل الى هدفها ، لا أدري أن كنت أحبها أم كنت أبحث عن مُرشداً لطريقي وسط الظلام ، المهم ببساطة أنها خدعتني حتى تستولي على بعض المال وقد كان ، المال ليس مشكلة ، لكن مايكسر القلوب لا يقدر بثمن ....
لماذا مثلك لا تتزوج ؟؟ أنتي أنسانة جميلة ورقيقة ...
قالت وهي تنظر من النافذة بعد أن ازاحت الستائر حتى تدخل أشعة الشمس فأضائت وجهها : أنا وحيدة لست من هذة البلدة ، ليس لي أحدٌ هنا لقد درست التمريض في تلك الجامعة هرباً من اضتهاد زوجة أبي التي تزوجها أبي سامحه الله بعد وفاة أمي ، كنت صغيرة عندي عشرة سنوات ، كانت زوجة أبي مريضة بالسادية ، تستمتع بتعذيبي ، هل تتخيل طفلة تجلس وحيدة ومنزوية تبكي في ركن الغرفة بعد أن ضُربت بالسوط على ظهرها أو تم سكب الشمع الملتهب على صدرها ، كان هذا الدرس الأسبوعي بعد أن أنظف جسدها واحممها واقّبل قدميها حتى تستمتع بتعذيبي وببكائي وتوسلاتي أن ترحمني  ، كنت أشتكي لأبي وتقول هي له أني لا أسمع كلامها بالتالي فهي تربيني ، هكذا كانت حياتي حتى هربت وأخذت ذهب أمي كي أصرف منه على نفسي وعلى دراستي وظللت هنا في هذة البلدة أكثر من سبع سنوات حياتي هي المستشفى وبيتي وفقط ....
تسللت أشعة الشمس من جوارها حتى استقرت على وجهه هو وقد أبتسم أبتسامة هادئة وقال : كان هناك قصة عن برج بابل ، بعد الطوفان الذي ضرب الأرض ايام نبي الله نوح قام أبناء نوح بالأتفاق على بناء صرح يتجمعون حوله هم وابنائهم وكل الكائنات ويتوحدون ضد الشر ويعبدون اله واحد يصعدون الى جنته عبر هذا الصرح ، جنه ليس بها شر وقتل وكراهية ، لكن الاله غضب من ذلك لانه أراد للبشر أن يتفرقون ويعمرون الأرض ، عمّروها وفي نفس الوقت نشروا فيها  كل أنواع الشر ، هل نحتاج لبرج بابل من جديد أم كل واحد منا يبحث عنه بنفسه ؟؟؟
كانت تبكي وهي تنظر من النافذة وتدفيء كتفيها وصدرها بكفيها بعد أن أختفت الشمس خلف السحب الشتوية ...
خرجت من الغرفة ولم تعود اليها مرة أخرى ، ظل ينتظرها الى أن خرج من المستشفى مع أخوه الأكبر ...
أصابتها الحمى وظلت طريحة الفراش في بيتها الصغير تطمئن عليها فقط أحدى زميلاتها الممرضات ...
سأل على عنوانها حتى أستطاع أن يصل اليها ، فتحت له الباب وهي تسعل بقوة ، فأصابتها الدهشة عندما رأته ...
طلب منها الدخول وجلس بجوار حوض السمكة الوحيدة ....
قال : أتقبلين الزواج بي ؟
قالت : انا فتاة معقدة كلي جروح وندبات قد يزعجكك تصرفاتي الغريبة ...
قال وهو يضع يده على حوض السمكة بعد أن اصتدمت به : سنعالجها سوياً ، سنصعد سوياً برج بابل الخاص بنا ، أنتي مُرشدي الى الجنة .....
أخذ منها الطعام الصغير الذي كانت تُطعم بهِ سمكتها ، وقام بنثره على الماء فيرتطم بسطح الماء فيُحدث دوامات صغيرة تستشعرها السمكة فتنتفض وتتجه للطعام المتناثر في الماء ,,,,,,,

هناك تعليقان (2):

نيللي علي يقول...

القصة رائعة لما تحمله من كثير من المعاني الراقية فهي توضح جهل المجتمع ونبذه لمن أصابهم آفة وكأنهم هم المسئولون عن مرضهم ولا ينظرون إنه ابتلاء من الله يمتحن به الخلق وتناقش قلوب البشر الطيبين الذي يحتاجون في كثير من الأوقات إنهم يفرون إلي برجهم مثل بابل لكي يوجهون الشر.

تحياتي لقلمك..

Unknown يقول...

الف شكر لحضرتك على تعليقك ومرورك ....
لكل منا بابل الخاصة التي نفر اليها ، لنتوحد ونترك الكراهية والشر والظلم خلف ظهورنا ...
تحياتي لحضرتك ,,,,