الأحد، 6 مايو 2012

الألوان



يعلم جيداً أنه يجب أن ينفذ أوامر ذلك الساحر ، قد يموت جوعاً أو يتم رميه خارج فريق السيرك ...
كل مايذكره عن طفولته وكيف أتى الى هذا المكان ، أنه كان طفل صغير مع مجموعة أطفال في ملجأ كبير للأيتام وجاء هذا الرجل واستلمه مع فتاتين صغيرتين ، أحدهما صديقته والأخرى حبيبته ....
لم يرى أحد خارج السيرك والفريق والجمهور المتعدد الذي يترددون عليه في مختلف المدن التي يزورونها ، حياته وعالمه الخاص الذي لا يعلم سواه ولم ترى عيناه غيره ....
سمع صوت الساحر وهو يزعق في غضب يطالب الجميع بسرعة الأستعداد والتمرين جيداً ، يتحرك بين الجميع ببدلته الاسموكن السوداء وأصباغ الوجه التى تظهر حدة الملامح والذكاء ، مع صبغ الشعر الأبيض المنتشر الذي اجتاح وازاح شعره الأسود ، كان هو الساحر والمدير ....
الفتيات الرشيقات الجميلات يتحركن في مجموعة في اضطراب ضحكاتهم العالية تصدح في جنبات الخيام ، ملابسهم اللامعة الضيقة وصبغات الشعر الاصفر والاحمر تسيطر عليهن ، يسارعن للجلوس امام المرايات المحاطة بالمصابيح كي يظبطن ملابسهن ويصففن شعرهن .....
وفي محيط الحلبة الدائرية وسط الخيمة الكبيرة التي يقام فيها العروض ، يتمرن اللاعبين الذين يقفزون على الارجوحات الهوائية والحبال المعلقة عالياً في العاب خطرة تُلهب حماس الجمهور بأثارتها وسرعتها ....
يقف التوأم أمام بعضهما يلعبان الكرة ويتشقلبان في الهواء ثم يتلقفان الأطباق الطائرة في سرعة ودقة متناهية ، بينما يجلس المهرج العجوز ذو الأنف الأحمر والوجه الأبيض يلاعب كلابه الصغيرة ، بشفاه المبتسمة باللون الأحمر دائماً ، هي رُسمت كذلك ، لكن لا أحد ليرى حقيقته أمبتسم دائما أم ماذا يخفى تحت تلك الألوان .....
زئير الأسدين لا يتوقف أبدا اثناء فترة التمرين كانت مروضة الأسود السيدة كاميليا تلوح بعصاها للأسدين وهما يرفعان أيدهما في فزع خوفاً من بطشها هكذا تعلما منها ذلك ، ما الذي أدخل في مخيلتهما أنها اقوى وقد تعاقبهما بتلك العصا وهذا السوط ، لكن انها حيلة الأنسان في السيطرة على كل شيء ، يتحركان حسب أوامرها يهدئان بضربة سوطها على الأرض وفي الهواء ، في انتظار هديتهما من حمار مذبوح او كبشين صغيرين جائزة لهما على الطاعة واسعاد الجماهير .....
جاء موعد التمارين التي يقوم بها هو وحبيبته ، تمارين الأتزان على الحبل المرتفع والقفز منها في حركات عكسية والتشبث بالارجوحة في الهواء ، كانا هما الثنائي الأبرع في الفريق وكانت نمرتهما هي النمرة المفضلة لدى الجمهور فقد تعودا ان يقدماها بدون تأمين أو ربط خصرهما بالحبال ،،،،
تدربا سوياً منذ صغرهما على تلك اللعبة منذ ان قدما سوياً من الملجأ , كانت صديقتهما تمارس تلك اللعبة ، في أحدى الحفلات أجبرها الساحر على تقديم نمرتها وهي تعاني ارتفاع في درجة حرارتها بسبب الحمى ، وحاول الجميع أثنائه عن ذلك لانه في خطر على حياتها ، لكنه رفض بشدة وهددها بالطرد من السيرك ، في تلك الليلة ارتدت ملابسها الضيقة ، ووضعت الأصباغ الملونة على وجهها شعرها الأصفر كان طبيعيها بدون أصباغ عقدته عقدة صغيرة حتى لا يعوقها ، اضواء الحلبة المبهرة كانت تزيد من حرارة جسمها وتُشعرها بالدوار ، هتاف الجماهير وضحكات الأطفال لا تتوقف حولها ، جاء دورها فصعدت السلم الى أعلى في منتصف الحلبة ، كلما صعدت يزداد الدوار ، والأضواء تدور حولها وتمتزج مع صوت الجماهير والحيوانات ، حتى أصبحت لا تميز بينها ، أمسكت الأرجوحة بيديها فأحست أنها فقدت الأحساس بها ، لكنها تمسكت بها جيداً ، قفزت بها وتحركت في الهواء حركة دائرية رشيقة وأمسكت جيداً بالأرجوحة الأخرى ، تعالت صيحات الجمهور تشجيعاً لها ، استعدت للقفزة الأخرى ، ونظرات زملائها في الأسفل متعلقة بها ، أمسكت الأرجوحة مرة ثانيه ودفعتها ، فأختل توازنها وفقدت السيطرة عليها فتهاوت على ارض الحلبة ، انطفأت الانوار وتطايرت قصاصات الورق التي يلهون بها وتمرغت تحت أقدام زملائها ، وانصرف الجمهور الذي أخذ يثرثر لأيام كيف رأى كل واحد منهم الفتاة الشقراء الجميلة وهي تطير في الهواء وتتهاوى على الأرض .......
نظر لحبيبته وهما يستعدان لصعود السلم وأمسك يديها وقال : لم أعد أطيق هذا المكان في كل مرة نقدم ذلك العرض أراكِ تسقطين أمامي كما سقطت صديقتنا ، لم يبالي أحد بها سقطت وماتت ودفنوها في مكانٍ ما ولا حتى نعلم طريقه ، لم يبالي أحدٌ بنا سنسقط جميعاً الأخر تلو الأخر ولا أحد يدري ولا أحد يهتم ، حتى زملائنا ؟؟ سيبكون علينا أياماً ثم ينسون ويقدمون عروضاً يرقصون ويلعبون ويغنون ، أعلم أننا لا نعرف أحد وليس لدينا مال ولا مورد رزق ، لكننا سنترك تلك المدينة ونذهب بعيداً الى مدينتنا المطلة على البحر التي نشئنا فيها اتذكرين الملجأ واحنا صغار .......
ضمت يده بقوة وسقطت من عينيها دمعة صغيرة ازاحت ذلك الكحل الذي يزين عينيها فصنع خطاً على جبينها الأبيض ....
قالت : رغم أنني لا أعلم ماينتظرنا غداً فيكفيني أنني معك ,,,,,
بعد انتهاء العرض في المساء وأنصراف الجمهور ، جلس الساحر يناقش بحدة المصاريف والأيرادات مع المحاسب الخاص بالفريق ، وهدأت الأسود واخذت قسطاً من الراحة ، وبدأت الفتيات يغيرن ملابسهن ويذهبن الى الخيام ، وجلس المهرج العجوز تحت شجرة التوت الكبيرة يدخن سيجاراً ....
كان الفجر قد أقترب وبدأ القمر في الانزواء ناحية الغرب فصنع شفقاً امتداداً للشمس التي تصعد للسماء من ناحية الشرق ....
أمسك يد حبيبته وتسللا خفية بين الخيام ، كانت تمسك حقيبة متوسطة تحتوي على بعض الطعام والملابس ، وهو يمسك بيده الأخرى حقيبة صغيرة ، المهرج العجوز مازال جالساً وحيداً يدخن سيجاراً أسفل شجرة التوت فأنبته اليهما ، ما أن رائهما حتى أبتسم ، ابتسامة صادقة بدون أصباغ على شفاه الخشنة المشققة , أعطاهما بعض النقود وقال لهما : أسرعا قبل أن يراكم احد ، لا تعودا هنا مرة أخرى .....
اختفى القمر في الغرب البعيد ، وصعدت الشمس مشرقة بأشعتها الذهبية ، وصلا الى محطة القطار ، فكان القطار على وشك الأنطلاق ، ركضا برشاقة بجوار القطار المتحرك ببطء وقفزا في حركة سريعة الى داخل باب عربة القطار المفتوح .....
كانت الشمس تتكبد وسط السماء حينما وصلا الى الكورنيش المطل على البحر ، أخترقا الطريق وهما يضحكان ....
السحب تتناثر على امتداد الأفق فوق سطح البحر تُخفي الشمس تارة وتنسحب تارة أخرى ، ما أن وصلا الى الرمال حتى تخلصا من أحذيتهما ، واندفعا يركضان بأتجاه الموج ....
كانت فتاة صغيرة تلعب مع أبيها بطيارتها الورقية ، فأتجهت نحوهما بطيارتها التي ترتفع وتحلق ثم تعاندها الريح فتهبط ....
اخذا يدفعان الموج ويرشان المياه على الفتاة الصغيرة والفتى يلعب في وسطهما ، ثم حمل حبيبته فوق كتفه ينعكس في عينها البحر والفتاة الصغيرة بطيارتها الورقية  ,,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو 

ليست هناك تعليقات: