الأربعاء، 4 يوليو 2012

رواية ناقصة

عاد وحيداً من غربته التي عاش بين طياتها قرابة الثلاثين عاماً كأستاذ للأدب الأنجليزي في انجلترا ، مئاله وعودته لمكتب أبيه القديم ، لم يتغير شيء صورة أبيه كما هي في واجهة المكتب ، رائحة خشب الأرو والبخور تسيطر على جنبات الغرفة ، الجرامافون القديم في الركن اليمين أسفل النافذة التي تغطيها الستائر ولم تنسدل عنها منذ طفولته ، المكتبة العتيقة عشش فيها التراب وطلائع من النمل تخطط للانقضاض عليها .....
نحت الزمن هو من غير الأشياء ، شعره الأبيض وامراض الشرايين ونظره الضعيف ، أمراضه التي هاجمته ماهي الا برزخ سيمر من خلاله من الحياة الى الموت ،،،،
تحرك بوهن ، كاد يسقط بعد ان اصتدمت رجله النحيله بالكرسي الهزاز الذي كان يجلس عليه عندما كان يقرأ بجوار أبيه ،،،
ازاح الستائر من على النافذة فأحس بتلك الرياح الباردة رياح يناير تتسلل عبر فتحات النافذة ، ففتحها فأندفعت الستائر لأعلى فتطايرت بعض الأوراق من على المكتب ،،،
نظر لحديقة البيت وتنفس تلك الرياح الشتوية الجافة ، نسمات شتوية باردة ربما تكون الأخيرة ، النسمات الأخيرة هي الامتع دائماً كأي شيء قد لا نلمسه او نراه ثانية .....
رواية وحيدة ناقصة لم يستكملها منذ أن رحل الى انجلترا مازالت بأوراقها الصفراء في غلاف جلدي مترهل موضوعه على المكتب القديم ، مازال القلم على نفس الصفحة التي توقف عندها ، جف الحبر من القلم كما جفت كلماته عن تلك الرواية ،،،،
ينظر الى حديقة المنزل على الأفق البعيد بالقرب من هنا
كان المطر حينها شديداً ،، والوحل  قد حاوط قدميها ،، تحاول ان تخطو مسرعة فلا تستطيع ،، تريد أن تجعل رحيلها سريعاً بدون أن تسمع أنفاسه ودقات قلبه واخيراً ندائه بأن تعود ،،،،
قد حسمت أختيارها بأن لا عودة اليه ، لا يستطيع أن يحقق  ماتريد ،،،،
ترفع قدميها من الوحل تريد أن تتركه وترحل سريعاً ،، طغى على أعماق قلبها صوته وهو يناديها ،، انتظري ....
توقف عقلها عن التفكير ،، وتباينت المشاعر داخل قلبها ،، أصبحت تجهل الطريق فلم تعد تشعر بشيء الا بالضياع والرغبة في الهروب ،،،،
أين تذهب ،، كانت لا تريد أن تسمع صوته أو ان ترى دموعه ،، لا تريد شيء يردعها عن قرارها بالرحيل ،،،
ترحل عن من ....
مازال صوته يتردد في جنبات الضباب اللامتناهي فيعود اليها صدى صوته محملاً على قطرات المطر ،، أنتظري ....
ليت المطر والفضاء يخنق ذلك الصوت ،،،
مضت تجر قدميها وتنازع الوحل العالق بها ،،،
من بين حنايا الضباب والظلمه سمعت أنفاسه لاهثه واقدامه مسرعه تلاحقها ،،،
احتضنها ،، فوضعت رأسها على كتفيه ،، وحنى بكفيه على شعرها المبلل بالمطر ،، لا تذهبي ،،،،
لم يسمح الضباب بأن يرى كل منهما دموع الأخر ،  بعدت يده عنها وقالت : سأرحل ،،،
لم تنظر خلفها واستكملت الرحيل ،،،،،
لم تعد تحتمل ذلك الحب الجنوني ، أيقنت بأنها لم تكن تلك البطلة الأسطورية في حكايا الجدة العجوز ، او فارسة أحلام تأتي من التاريخ والزمن البعيد ، او بطلة من روايات جين اوستن او شكسبير او الاخوات برونتي ،،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
لا تستطيع أن تحب طفل يلهو في أحضانها ، او تحب رجلٌ يجعلها تلميذة في محراب عقله ، سئمت ذلك الحب ،،،،
قالت : سأرحل ،،،،،
قال : انتظري لا تذهبي ،،،،
بدت كأنها كوميض يبتعد ، كضوء فنار ، يبحر بمركبه الصغير ويصارع الأمواج كي يصل اليها ، أذا بها تطفيء انوارها في وجهه ،،،،
كاد يسقط في وحل المطر ، كأنها أحدى سقطات المسيح السبع على طريق الألام ،،،،،
أبتعدت ، أصبحت كالطيف يترك بقايا ضوء فيخفت تدريجيا الي ان ينزوي فيصبح مجرد زكري يلتهمها النسيان ،،،،،
الرياح اشتدت عبر النافذة بدأت تطاير الصفحات الصفراء للرواية الناقصة ، كما تطايرت الأوراق من صفحات عمره كشجرة كستناء تطايرت اوراقها في خريف شديد القسوة .....
بالقرب من البحر وقفت من بعيد تنظر الى المقهى ،، كانت على الجانب الاخر من الشارع ،،،
كان المساء قد بدأ يرخى سدوله وحركة المارة بدأت تقل قليلاً ،،،
ضوء المقهى يتسلل عبر الستائر وهو دائما يجلس يحتسى قهوته  بجوار الشباك الزجاجي المطل على الشارع ،،،
يتنازعها الخوف والأمل ،، كلما مدت رجلها لتعبر الطريق تأتي سيارة مسرعه فتعيدها كأنها هاتف من الماضي يردعها أن تذهب اليه بعد أن هجرته ورحلت عنه ،، أمل في أن يصفح عنها بعد ماكان منها ،، وبين الخوف والأمل يسكن الضباب ،،،،
جلس على الكرسي الهزاز ، كرسي ذكرياته القديمه لم يعد يحتمل تلك الرياح الشتوية البارده ،،،،
تشتد الريح وتطاير صفحات الرواية الناقصة ، صفحة تلو الاخرى تطاير ...

عبرت الطريق بعد أن هدأ الشارع من مرور السيارات ، وقفت بجوار المقهى تنظر اليه وهو يحتسى قهوته وأمامه بعض أوراقه وقلمه الذي يحب أن يكتب به دوماً ،،،
دفعت باب المقهى بيديها وذهبت الي الطاولة التي يجلس عليها ،، ما أن وقعت عينيها عليه حتى خفق قلبها بشدة ،، لحظات مابين الرغبة في الصفح والغفران وبين الخوف من المجهول ،،،
انتظار الغفران فيعود طفلاً يلهو بين حناياها ، أو معلماً تعيش بين جنبات محرابه ،،،،
نظر اليها ، كأنها العدم لم يعد يراها ،،،،
لملم أوراقه وقال لها معذرة ,,,,
دفع حساب قهوته وانصرف ،،،
سقط القلم الذي جف حبره وتطايرت اوراق الرواية في جنبات الغرفة القديمة ، وهو مازال يهتز على كرسيه القديم ، والكرسي يُحدث نفس صوت الأنين كأنين السواقي الحزينه ، وهو الى ثٌبات عميق ,,,,,,,,,,,

ليست هناك تعليقات: