الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

المراكب الورقية

طوي الجريدة متململاً ووضعها على الطاولة ، لم تأتيه القهوة التي طلبها ، كان يمني نفسه بأحتساء قهوته وقراءة الجريدة متدثراً بدفء الشمس التي ظلت غائبة ثلاثة أيام ، الحركة على الميناء نشطة هذا الصباح ، وفي انتظار سفينة سياحية قادمة من ايطاليا لترسو أمام الرصيف ، قد تغيب الشمس في بورسعيد لأيام لكنها تعود دوماً دافئة ,,,,,
تمشى قليلاً على الرصيف قابض على عكازه بحزم يقاوم تداعي السنين على ظهره ، انتصب ووقف منتظراً كعادته منذ ثلاثة وعشرين عام ، يتّلفت عليها يبحث بين الزحام والقادمين من تلك السفن الراسية على الميناء ، ثلاثة وعشرون عاماً ومازال متأكداً انه سيعرفها ولا يتوه عنها ، يمعن نظره الضعيف من خلف نظارته القديمة في وجوه المارة فلا يشفع له انتظاره وجه من ينتظرها ويتلهف شوقاً اليها ,,,,,
يعود الى كرسيه ويجلس متكئاً على عكازه ، يرى من بين عجلة الزمن التي دارت بهِ ، ذلك الشاب الذي عمل مرشداً في هيئة قناة السويس ، كانت الحرب الأولى على بورسعيد قد انتهت وفُتح باب القبول للمصرين  للعمل كمرشدين للسفن على طول خط القناة ،،،،
يمشي زهواً بنفسه ينظر حوله للسفن كأنها مراكب ورقية يلهو بها في بحار خياله الممتده اللا حدود ونهاية لها .....
مستغلاً تلك العيون الشرقية وملابس البحرية التي ترنو في عقول الفتيات كالرقائق الذهبية البراقة ، يواعد مُحظياته  بشقته في وسط شارع الجمهورية بحي الفرنج ، شقة صغيرة ذات شرفة خشبية مُطله على الشارع الرئيسي يتدلى منها الياسمين واللبلاب ،،،،
لم يكن في تلك الليلة الصيفية البورسعيدية الصافية اشد شوقاً وحُرقة للفتاة الصقلية التي ظل يطاردها ليومين في الشوارع من الميناء لحي الفرنج للطور ، سُحر بعيونها الصقلية وشعرها الأسود كذيل حصانٌ اندلسي جامح لم يستطع فارس مهما بلغت جسارته من السيطرة عليه , لم تلتفت اليه لكنها فقط أبتسامة جعلته يذوب كقطعة جليد التهمتها أشعة شمس صيفية قاسية الوطأة ،،،،
نزع يد الفتاة التي كانت تعانقه ، أحجم بوجهه عنها فأنقطع طريق شفاها الى شفتيه ، ارتدى قميصه وفر مسرعاً ,,,,
لم يتحمل ان ينظر لعيني فتاة او يمتزج عشقاً بغير ماريا الصقلية .....
وجدها عند الميناء قبل ان تغادر سفينتها متجهه للبحر ، وقف أمامها كطفل تائهاً وجد أمه أخيراً بعد ماضاع منها في الزحام ، استسلمت لضعفه فتركت كفها الصغير يلتحم بيديه ، فأخذها وانطلق بعيداً الي البحر ....
نادي بصوت واهن ويُجاهد حتى يسمعه صبى المقهى حتى يدفع له الحساب ، أخذ جريدته وأستند على عكازه ، واتخذ سيره المعتاد الى شقته القديمة بوسط شارع الجمهورية في حي الفرنج القديم ، يتخبطه الماره ويكاد يسقط لكنه يستجير بعكازه فيستند عليه ، يقف كثيراً على الرصيف منتظراً مرور السيارات الفارهة الكبيرة بأصوات الأغاني الصاخبة التي تنطلق منها ، وبعد وقت يعبر الشارع ،،،،
يُخرج مفتاحه القديم من جيبه بيد مرتعشة ثم يفتح الباب ، صوت  الراديو يخبره في إذاعة صوت العرب بأن الساعة الرابعة ، هرول اليه القط يتمسح في بنطاله مستعطفاً أياه أن يضع له بعض الحليب وقطعة الجبن وجبة غدائه ،،،،
يجلس في شرفته على كُرسيه الخيزران بجوار شجيرة الياسمين ، أمامه ذلك الكُرسي المهجور منذ ثلاثةً وعشرون عاماً ، والقط بعد أن شبع مستلقياً في الظل باسطً ذراعيه في ثُباتٍ عميق ,,,,,
تأخذه سِنة من النوم فيجد نفسه معها من جديد ........ تجلس أمامه تقرأ في الجريدة عن التوتر بين مصر واسرائيل واحتمال نشوب الحرب في الشرق الأوسط ,,,
تنظر له بحذر ثم تُخفض عينيها خجلاً .....
بدأت الجاليات الفرنسية واليونانية والأيطالية في المغادرة مع السفن المُبحرة الى الضفة الأخرى من المتوسط ، لم يكن ليظن أنها سوف تغادر وتتركه وحيداً ، أيقن أنها أرتبطت بهِ بُرباط مُقدس لا ينفك الى النهاية ....
عاد الى منزله في الظهيرة ، كانت سماء بورسعيد مُلبدة بغيوم اكتوبر الخريفية ، أنغام الجرامافون مازالت تشدوا ، والشرفة مفتوحة ... لكنه وجد الدولاب مفتوحاً فارغاً ، وخطاب صغير على الطاولة المستديرة ،،،،
أعذرني لم أجد حلاً سوى العودة الي صقلية  ، سأعود يوماً فأنتظرني ، احبك ........
عصر الخطاب الصغير بين يديه وأنطلق مسرعاً الي الميناء ، يركض مسرعاً يتجاوز الزحام ، تتخبطه أكتاف المسافرين وحقائبهم الثقيلة ، وينظر ويتّلفت في كل أتجاه ، لكن صوت السفينة يصرخ من بعيد يخبره أنها قد غادرت .......
صدى الأنفجارات وازيز الطائرات مازال يتردد في أذنيه لم يغادره ، مواكب المهاجرين والبيوت المهدّمة أمام عينيه ، لم يهاجر ولم يترك بورسعيد لكنه ظل ملتصقاً بها كما كان في الحرب الأولى عام ستة وخمسين ......
لم يستطع هذا الصباح ان يُخرج ويتمشى الى الميناء ، عصاهُ جسده ولم يسعفه عكازه ، الراديو على الكوميدينو بجوار الصغير يشدو بأنغام عبد الحليم ، والقط السمين يجلس في هدوء بجوار السرير .......
أصبحت سيدة عجوز تحتفظ ببقايا جمالٍ قديم ، بريق عينيها لم ينطفئ بعد ، لم تنسى شوارع بورسعيد ولا حي الفرنج حتى بعد ماختفى الكثير من ملامح تلك المدينة الجالسة على طرف البحر ، عادت مع أبنتها في ذلك اليوم ،،،،،
أخرجت المفتاح القديم ، فوجدت الشرفة المُطلة على شارع كما هي مفتوحة على مصرعيها ، يأتيها صوت الراديو من غرفة النوم ، فتدخل عليه ، في ثُباته الأبدي العميق ، والقط  جالس في هدوء عند قدميه ,,,,,,,,,




ليست هناك تعليقات: