السبت، 18 أغسطس 2012

رسائل الخريف

لم تعد قادرة على تحمل تلك الليلة الظلماء ، رياح الخريف القوية  قطعت الكابل الكهربائي المغذي للبيت الريفي الكبير ، لم تكن ليالي نوفمبر بتلك الوحشة قبل سنوات ، أم هو السقوط في ذلك الفراغ اللامتناهي الذي انحدرت اليه منذ اواخر الصيف .....
لقد تأخروا كثيرا هذا المساء ، زهدت تلك الزيارات العائلية المملة ، مَلت ان تكون فريسة النفاق المجتعي الذي يفرضه منطقهم وطقوسهم الممتدة في التاريخ كجذور شجرة الكستناء العجوز التي تحرس بوابة البيت .....
نباح الكلب لا ينقطع كأنه ينادي في الظلمات مافقده او مايبحث عنه يصمت قليلاً ثم ينبح من جديد مستكملاً رحلة بحثه الليلية ....
أمسكت المصباح الكهربائي وانتقلت من غرفتها تعس في هذا الظلام ، حافية القدمين فأصابتها قشعريرة باردة تتسلل من قدميها فحركت أصابعها تلتمس الدفء من فركها ببعضها ....
توقفت أمام غرفة عمتها الراحلة ، ينبعث من خلف ذلك الباب عطر معتّق لم تشمه من قبل ، ماتعلمه ان الغرفة يتم تنظيفها كل حين لكن لا أحد يسكنها ومتعلقاتها كما هي , لا أحد يأبه بألاموات كما لم يعد أحد يأبه بالأحياء ، يمرون من أمامها ولا يلتفتون وينظفوها ولا يتذكرون ......
وضعت يدها على مقبض الباب فأحست بالدفء والتعرق عليه ، طاوعها في هدوء وأنصياع بدون زمجرة ففتحته ، فأنقض نور المصباح على واجهة الغرفة ، الجرامافون القديم بجواره الاسطوانات ذات الغلاف الكرتوني ألاحمر وشمعدان فضي ضمرت شموعه في حزن فتكاد يطل خيطها من الشمعدان .....
وجهت المصباح فإذا بالسرير البلجيكي المذهب تدلي ستائره من قوائمه كأنه يحمي حوريته من العيون ، في المقابل يسقط نور المصباح على ذلك المكتب الصغير تنبعث منه رائحة خشب الأبنوس القديم ، بهتت ملامح نقوشه وزخرفته في مواجهته الحتمية مع الزمن ....
رياح نوفمبر الغاضبة لا تتوقف تُحرك الستائر متسللة من خلف الشباك العملاق تجاهد لتقتحمه فلا تستطيع ان تنتصر طوال تلك السنين ,,,,,
عطور العنبر والياسمين تحاوطها وظلت تتلفت حولها بعد أن هبت نسمات باردة حركت قميصها الحريري ، فأحكمت قميصها حول صدرها وقربت المصباح من الأسطوانات المركونة بجوار الجرامافون ، عبد الوهاب لا مش انا الأبكي ، أسمهان ياحبيبي تعالى الحقني شوف الجرالي ، أم كلثوم مادام تحب بتنكر ليه ,,,,
قربت المصباح من الحائط  لتري الصور المعلقة عليه ، فتاة طويلة ، عيناها الواسعتين وشعرها القصير الممتد لكتفيها ، الوشاح الأبيض يغطى نصف شعرها كخمار يزيدها سحرا وجاذبية ، تحمل قطة ساكنة في اطمئنان وهدوء ,,,,
يتحرك نور المصباح فتلك لوحة ريفية لفنان مجهول ، فتاة ترعى الأغنام بجوار ساقية الماء ,,,
جلست على الكرسي الزان أمام المكتب واضعة المصباح على يسارها ...
كان درجي المكتب فارغين فلما فتحت احداهما بقوة سمعت صوت جلجلة مفتاح صغير ،بحثت بكفيها عنها فوجدته كما هو لما ينتابه الصدأ ، فتحت به درج المكتب الأوسط فأحست بثقله وهي تجره ناحيتها ،،،،
البوم صور ، وحافظة رسائل جلدية ، ووشاح أبيض ، وورقة صفراء من جريدة قديمة ,,,,
ازاحت التراب من على حافظة الرسائل ، كانت الرسائل صفراء لكنها تحتفظ ببعض من رائحتها الوردية  ....
مازال الكلب ينبح ولا ينفك عن المناداه ، الصوت يحمله الريح فيزداد ثم يبعده فكأنه صمت للقائه بمن يناديه ,,,
قرّبت المصباح من الرسالة التي بدأت بها ، ديسمبر الف وتسعمائة وخمسة وستين : اقترب العيد وانا جالسة وحيدة أنتظرك لم أعد أبالي بما يدور حولي في الكون فأنت الكون الذي ادور أنا حوله واسبح فيه عشقاً الى ان اغرق فيه فلا شيء ينقذني سوى رؤية عيناك ، قد وعدتني أنك ستأتي ، لم أعد أحتمل ضياعي عن نفسي الا تعود فتأتي بروحي الي فأصبح جسداً تسكنه الروح بعد ماذاق الخواء ,,,,,
دقات قلبها تتسارع ، ويديها ترتعشان فطوت الرسالة وتناولت رسالة أخرى ، يناير الف وتسعمائة وستة وستين : كقطتي أجلس في شرفتي أنظر الى ذلك الطريق ، اظل مشدوهة الجوارح كالممسوسة ، أقسم أبي الا يزوجني لك ، وأقسمت الا أكون لسواك ، رفضت أي رجلٌ يتقدم لخطبتي ،،،
 في الصباح قالت أمي أنها ستأتي بشيخ كي يرقيني ويبطل السحر الذي تسلط علي ، وانا سحري ربما اكثر تعقيداً من سحرة فرعون ، انت السحر الذي مسني فهل لي من نجاة ,,,,,,
تغرورق عيناها بالدموع فتمسحها بكفيها ، وصفير الريح يزداد يحمل معه نباح الكلب الشريد ....
ربيع الف وتسعمائة وستة وستين : بالأمس كان عُرس أخي الأكبر ، لقد تخمرت بالوشاح الأبيض الذي اهديتني أياه ، لقد صم أذناي عن صوت الأغاني والأهازيج والأحتفالات الا من صوت ضحكاتك معي ، لقد عُميت عيناي عن الأضواء الباهرة والراقصات والمطربين الا من رؤيتك ، أعلم أنك بعيداً الان بعد أن التحقت بالجيش ،،،،،
لقد بدأ ينفد المصباح وأصاب نوره الخفوت ، فطوت الرسالة وبدأت في رسالة أخرى : خريف الف وتسعمائة وسبع وستون : لا أدري لمن أكتب بعد أن رحلت ، اليوم الذي قُتلت فيه في الحرب ، نُزع قلبي من أحشائي وأنطلقت روحي عني ، لم أدري ماذا حدث عندما علمت بمقتلك سقطت ، وفتحت عيناي  وجدتني هنا ، سرير أبيض في غرفة وحيدة ، وجوه تأتي لتراني لا أتذكرهم ، ممرضة تعطيني الدواء وتخرج ، سيدة تبكي بجواري يقولون أنها أمي ، لم أعد أرى كما كنت فنظري أصبح ضعيفاً ، قال لي الطبيب وانا لا أبالي ، الحزن أضعف بصري ،أنتظرني  سألتقي بك في القريب ،،،،،
بدأت ريح الخريف القوية تجتاح الشباك فأرتج بقوة كأنه بدأ في الاستسلام ،، سقطت دموعها على الرسائل فزادتها ملوحة جعلت رائحتها الوردية أكثر غرابة ،،،،
شتاء الف وتسعمائة وثمانية وستون ، الخط الذي كُتبت به الرسالة ليس بخط الرسائل الأخرى : أبت عيناي على الرؤية بعدك فبدأ النور ينسحب منها مهاجرا الى حيث انت ، وحيث انت تهفو روحي فمتى اللقاء ؟؟؟؟
اندفع الشباك فأجتاحت الريح الستائر فتطايرت الرسائل في انحاء الغرفة ، ذهب خفوت المصباح فأنطفأ  ،،،
أمسكت بالورقة المقطوعة من الجريدة وقربتها من نور المصباح الخافت ، نعي صغير يحمل أسمها ومواساة جميع أفراد الأسرة ،،  خريف الف وتسعمائة وثمانية وستين ,,,,,,,

ليست هناك تعليقات: