الجمعة، 31 أغسطس 2012

الاختيار

 
المشهد الأول




 هدأت حركة المارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر ، تسارعت أنفاسه واضطربت دقات قلبه ، نزع الجيتار المعلق في كتفه ووضعه مركوناً ، ثم نظر الى صفحة النهر المنعكس عليها شمس الأصيل ، ثم صعد الى حافة السور وتقدم خطوة فسقط وترك نفسه يغوص ، شجاعة اقدامه على الموت لم تسعفه فأنتصرت عليه غريزة البقاء وحب الحياة والخوف من ذلك الشيء المجهول المسمى الموت ، اندفع يقاوم بيديه محاولاً الصعود وظل يسبح الى أن تعلق بأحد اعمدة الجسر ، نظر وهو يمسح الماء عن عينيه ويلتمس الهواء الذي افتقده في ألاسفل ، وجد بعض المارة ينظرون اليه من اعلى الجسر وأثنين من الشباب قفزا لينقذاه .....
ظل جالساً بجوار الجيتار يبصق الماء الذي اندفع الى صدره وجوفه ، ثم علق الجيتار على كتفه واستكمل سيره غير مبالياً بالمارة الذين ينظرون اليه بأندهاش .....
وصل الى شقته الصغيرة ، جلس مرتعشاً يسيل الماء من ملابسه ، كانت الستائر مغلقة والشرفة لم تُفتح منذ أيام ،،،،
ادار تشغيل الرسائل المسجلة على الهاتف مرة أخرى : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
ظلت الرسالة تكرر نفسها مرات ومرات وهو واقف تحت صنبور الماء الساخن ، ترتطم المياه برأسه فكأنها تعيد ذوبان مايحس به ويدور بعقله ، يتصاعد بخار الماء الساخن فتتلاشى صورته في المراه ، يمسح بيده عليها فتصبح الصورة خطوطاً متعرجة فيجد نفسه مشوهاً .....
جلس في المقهى الذي يعمل به ، ينتظر ان يبدأ عزف الحانه على الجيتار ، يعزف والوجوه الناظره اليه في استمتاع تختفي من حوله كأنها ذابت وتلاشت في ملكوته الخاص ، يرى فقط وجهها ويسمع الحانه التي كان يعزفها معها ، لا يستفيق ويخرج من شرنقته الا بصوت تصفيق الزبائن في المقهى ، أو سقوط كأس على الأرض ....
تراقبه وهو يعزف لا تستطيع أن تتحمل العمل في المقهى بدون انت تسمع الحانه وتتغنى بها مع نفسها وفي سرها ، تذهب وتضع امامه كوب الماء فيبتسم لها ويقول : سنرحل مبكراً الليلة .....
كانت أبنتها معها في المقهى ، وهو يعزف لها وسارة تغني معه ويعلمها كيف تعزف على جيتاره ويحملها ويلعب معها
خرجا سوياً كان الليل اقترب من أنتصافه ، القمر بدراً لكن السُحب الخريفيه تُحكم قبضتها عليه فخنقته ،،،،
دندنت بعض أغانيه التي ألفها بنفسه ، فنظر لها بحنو : صوتك جميل ، سأكتب بعض الأغاني كي تغنيها أنتي ... فضحكت وقالت : انا فقط أحب أغني معك واغني لأبنتي وانا احممها او اساعدها على النوم ، انت تمزح من قال ان صوتي جميل .....
وقفا أمام بيت أختها وودعته وقالت : لأ استطيع ان ادعوك الوقت متأخراً ،،،
ودعها وقام بتقبيل سارة ثم تهرول للبيت وتلوح له ....
ظل واقفاً ينتظر صعودهما الى المنزل ثم أنصرف ، دفع علبة مياه غازيه بقدمه ثم أستكمل سيره ، يتسلل اليه بعض برودة الخريف ,,,,,,,,
يعيد تكرار الرسالة المسجلة على الهاتف ، ناظراً لسقف غرفته مستلقياً على سريره بجواره كوب قهوتة الفارغ وصحيفة قديمة وكتاباً مقلوباً مُلقى على الأرض ،،،
ثم يرن هاتفه قاطعاً الرسالة المسجلة فيرد : انا بخير ، قّبلي سارة واخبريها اننا سنذهب معاً للملاهي ، تصبحي على خير .....

المشهد الثاني

نظر اليها لم يكن يتخيل ان هناك من يشبهها ، الأنف الصغير المدبب قليلاً والشعر الكستنائي القصير ، العيون العسلية ونظرتها الطفولية ، تسعى للحصول بسرعة على السندوتشات التي طلبتها ثم مشت بسرعة تنادي على بعض الصبية الذين يحملون الأساس من على سيارة نقل كبيرة وتزعق فيهم أن يتعاملوا مع الأساس بحرص ، ثم عادت للمطعم ووقفت تنتظر ....
قال لها : هل ستسكنين في شارعنا ؟ ... قالت وهي مضطربة تتابع الصبية : نعم اننا ننقل الأساس الان في هذا البيت ... أبتسم وقال : شارعنا هاديء سترتاحين مع الجيران فأغلبهم أناس طيبون قليلاً مايحدث مشاكل هنا ، انتي وعائلتك أم متزوجة ... تأخذ حقيبة الطعام من البائع وتقول : انا وعائلتي أبي وأمي واخي الصغير ....
تعود مسرعة ، فيناديها بصوتٍ عالٍ : سنتحدث مرة أخرى واهلا بكي في شارعنا .....
جلس على كرسيه في المقهى ، يداعب جيتاره ويظبط أوتاره ، كانت تنتظره فعندما رأته قالت : لماذا تأخرت قلقتني عليك ؟؟ ... رد عليها شاردا ذهنه : لا أبداً أستيقظت متأخراً ، ثم أستكمل مداعبة أوتار جيتاره .....
أنتهيا من العمل قبل انتصاف الليل ،  تضع يديها في جيب معطفها ملتمسة الدفء بعد ما أحست ببرودة أطرافها ، قالت : لما أنت صامت منذ أن خرجنا ، أيوجد ما يشغلك ؟؟ ... قال وهو ناظراً لخطوات قدميه والحصى الذي يتحطم اسفل حذائه : لا يوجد شيء لا تشغلين بالك ... ضحكت وقالت : مالك كالعجوز الهَرِم ... أحس انك تجاوزت الخمسين .... فضحك وقال : نعم وقد اكون احتضر بسبب تقدمي في السن .....
ظل واقفاً أسفل شرفتها ينتظرها أن تطل عليه ، لكن شرفتها مغلقة يتسلل من خلفها الضوء وخيالها الذي يتحرك كل حين ....
صعد الى بيته يسمع رسالته المسجلة على الهاتف تكرر نفسها الى أن ينام ......
يقابلها في الصباح تقف مع أخوها الصغير الذي ينطلق بدراجته ، يُلقي عليها السلام ، ثم يسألها وهو يدعك كفيه ببعضهما بسبب البرودة : هااا ما رأيك في سكنك الجديد هل أرتحتي في شارعنا ؟؟ ... ترد عليه وهي تتمشى بجواره : الشارع هاديء حقيقة مازلت لم اعتاد على البيت لكن الشارع اهدأ من شارعنا القديم ... تنظر الى جيتاره المُعلق على كتفه وتسأله : أتعزف الجتيار وتجيد عزفه ؟؟ ... يبتسم : قليلاً ، تحبي أُسمعك بعض الحاني ؟؟ ... توقفت عن السير لبرهة ثم تقول : اكيد ... انا اعشق الجيتار ياريت فعلا أسمع عزفك والحانك .....
جلسا في الحديقة المجاورة لكنيسة البازليك القديمة ، وأخيها الصغير يلعب بدراجته حولهما ، بدأ عزف الحانه وغنائه ، يرى فيها كل ملامحها ونظرتها التي افتقدها منذ ثلاث سنوات ، لم يكن ليعزف هو لكن هي من تحرك بأناملها اوتار قلبه فيخرج ذلك اللحن عذباً ....
تسأله وهو يشرب الماء كي يستكمل عزفه : مؤكد يوجد لديك حبيبة تتغنى بها وتعزف الحانك لها ؟؟ .... وضع الزجاجة بجانبه ونظر لجيتاره : كان لي حبيبة وماتت في حادث سيارة ، لا أريد أن أتحدث عنها .... ظهر الخجل على وجهها : اسفة لم أكن اقصد أن أضايقك ، حبيبي قد اعتبرته ميتاً يخونوني كثيراً مع كثير من الفتيات ، لكنه يصّر انه يحبني ، أهله رفضوا زواجه بي لانه يصرون على زواجه من أبنة عمه ، لم يتصل بي منذ فترة طويلة ففهمت أنه تزوجها ، اعتبرته ميتاً بالنسبة لي رغم أني اشتاق اليه كثيراً ولا يُفارق عقلي ، ها أتستكمل عزفك أم نرحل يجب أن لا أتاخر عن أبي وأمي ؟؟ .... يتنهد ويقول : أمازلتي تحبينه ؟؟ ... تّهم واقفة : أحاول أنساه ، لا أدري ربما أحبه وربما لا ........
أجراس الكنيسة القديمة تُعلن عن قداس المساء ، يعودا سوياً والفتى الصغير أمامهما بدراجته ، قطرات صغيرة من المطر تُعلن عن غيث قادم من السماء ، ربما تكون أكثر غزارة في المساء .....
يقف في شرفته ، ويأتي من الغرفة صوت الرسالة المسجلة على الهاتف تتكرر وتعاود من جديد كلما أنتهت ، ينتظر حتى ينطفيء ضوء غرفتها من خلف الشرفة ثم يضع يده خارج الشرفة يستقبل بها قطرات المطر الثقيلة .....

المشهد الثالث

الشتاء قد أتى مبكراً والمقهى تقل زبائنه مع تأخر الليل ، مع أقتراب العاشرة مساءً ، يُخرجان سوياً ، تمر سيارة مسرعة بجوارها يندفع ماء المطر على الطريق ، فيشدها اليه خوفاً عليها من السيارات المسرعة ويجعلها بعيداً ....
تُمسك ذراعه وتقول : تعلم !! لا أستطيع الان ان يمر يوماً علّي بدون أن أراك ، أعرف أنك قد لا تحس بي ، لكن صدقني انا اجتهد كي يصلك أحساسي وافهمك واجعلك تفهمني ، احاول جاهدة أن اكون امراة ناضجة لاجلك أحيانا أخاف من عقلك واخشى مابداخلك لانك لا تتحدث كثيراً ، أحبك واسعى لأرضائك  ، لم أكن أحب زوجي بقدر حبي لك الان ، منذ أن مات وانا عاهدت نفسي وأبنتي ان لا أكون لاحد سوى لها ، لكن وجدت سارة تحبك كثيراً ومتعلقة بك فهذا شجعني أن افيض ما بقلبي  اليك ، قد تخشى تحمل مسؤلية أنسانة وأبنتها الصغيرة ؟؟
لا أريدك أن تتكلم الان ، يسعدني فقط أن تكون بقربي وأكون بقربك .... يمسك يديها ويضمها بقوة ، ويستكملا سيرهما ويقول : أنا أنسان قد اكون مُحطم أمامك ، لا يدري ولا يعلم مايريد ، يعيش على ذكريات وأطلال قصور رملية صنعها طفل على شاطيء البحر أي موجة تهدمها ، أنا لا أستحقك ولا أستحق قلبك هذا ... تضم كفها الصغير على كفيه وعند وصولها الى البيت ، تُخرج من حقيبتها شال من الصوف رمادي اللون ، تحاوط به رقبته وتقول : الجو أصبح بارداً والشتاء قارص صنعته بيدي لأجلك ، لا تنزعه عنك أبداً .... ثم صعدت مسرعة الى بيتها وهو ظل ينتظرها حتى طلت عليه من نافذتها هي وأبنتها ، أحكم الشال حول رقبته وتمشى الى بيته ،،،،،
أحبها ، لم يكن يدري أكان يحبها هي أم يحب فيها صورتها ، لكنه أحبها ظل يحادث نفسه وهو يقف ينظر الى شرفتها وخيالها يتحرك جيئةً وذهاباً ، الى أن أطفأت ضوء غرفتها .....
أنتظرها قبل الغروب أسفل شرفتها ،مُجهزاً له بعض أسطوانات الأغاني كي يهديها اليها ، كان قد أتصل على هاتفها كي يقابلها ، فأكدت أنها ستلقاه بعد قليل ، تمشيا سوياً ، قال لها : أريد أن أخبرك بشيء  .... أبتسمت وقالت : وانا أود أن أخبرك بشيء مهم ...
ضحك وقال : اذن قولي أنتي ألان ... قالت وهي منتشية وفرحة : لقد أتصل بي حبيبي أخيراً ، وأخبرني أنه رفض الأرتباط بأبنة عمه وتعارك مع أهله بسببي وهددهم بترك البيت ، الى أن وافقوا أخيراً على زواجنا ، سيأتي قريبا وهو وأهله كي يخطبوني  .... هااا ماذا تريد أن تخبرني ؟؟ .... وقف قليلاً ليسترد أنفاسه ثم قال : لا شيء كنت أود فقط أن اعطيكي بعض أسطوانات الموسيقي والأغاني التي تحبينها ... نظرت اليها وقالت : ااااه بجد أنت صديق جميل أنه يحب تلك الأغاني جدا ، اشكرك جداا جداا .....

المشهد الأخير

المطر يهطل بغزارة على الجسر القديم الذي يصل بين ضفتي النهر والسيارات تمر  مسرعة بجواره ، تتسارع أنفاسه وتضطرب دقات قلبه مرة أخرى ،،،
يقف مواجهاً للنهر وقطرات المطر ترتطم برأسه بقوة ،،،،
ينزع عنه شاله الصوف ، فيسقط على الأرض ويبتل من المطر ويتسخ بالتراب ،،،،
يضع جيتاره مركوناً على سور الجسر ، يتطاير الشال ويتلصق بأحد أعمدة الجسر التي بجواره يظل يتطاير الشال مشتبكاً به يريد أن ينفك ,,,,
ينظر الى صفحة النهر التي تستقبل قطرات المطر في هدوء ورضا ،،،،
ينظر لهاتفه ويسمع الرسالة المسجلة التي تتكرر بأستمرار : حبيبي أشتقت اليك سوف اعود الأسبوع القادم أرجوك أنتظرني ، اااه نسيت لقد أشتريت لك رواية مائة عام من العزلة لماركيز ، فكر في وتذكرني وانت تسمع اغاني ادامو واديت بيا ....
يمسك الهاتف ويتركه يسقط من يديه ، فيغوص الهاتف في النهر تأخذه قطرات المطر بعيداً ،،،
 ينظر الى الشال ويظل واقفاً أسفل المطر ،،،،
كاد الشال أن ينفك فيلحقه قبل أن يسقط في النهر ،،،،،
يُعلق جيتاره على كتفه ويستكمل سيره مرة أخرى ,,,,,,,,,

ليست هناك تعليقات: