السبت، 9 أبريل 2011

أنين السواقي

المشهد الأول

بيت ريفي صغير ، مكون من دورين ، الدور الأول تقع الفرن في اخر الدار على اليمين والدجاج يسرح في اكل انحاء فناء الدار ، على اليسار بعد مدخل الدار توجد الزريبة الخاصة بالجاموسة ، في ساحة الدار كنبتين عليهم فرش ووسائد بسيطه ، في المقابل جهاز تلفزيون قديم ، بالقرب منه صور قديمة للأب الراحل بجلبابه وصورة اخرى بزيه العسكري عندما كان مجندا بجوارها برواز يحتوي على المعوذتين  ، الطبلية الصغيرة مستندة على الحائط بجوار زير الماء ،،،
الدور الثاني مكون من غرفتين وحمام ، غرفة خاصة بصابرين والثانية هي غرفة الأم ،،،
كانت الأم تجلس أمام الفرن تنتظر صينية البطاطس باللحم ، عندما جائت صابرين مسرعة ،،،
القت السلام على أمها وصعدت الى غرفتها ،،،
صابرين فتاة بنت العشرين عاماً ، حاصلة على دبلوم التجارة ، ملامحها هادئة وجميله ذات عينين صافيتين تُخفي شعرها الطويل تحت حجابها وتطلقه بحرية عندما تكون بالدار ،،،
اخرجت الجواب الذي كانت تنتظره منذ ثلاثة أيام ، كل يوم تذهب الى مكتب البريد لتسأل عليه الى أن وصل اليوم ،،،
نظرت الى الجواب بأشتياق ثم فتحته وبدأت القراءة : حبيبة قلبي صابرين اعتذر لكِ لأني تأخرت عليكي في أرسال  الخطابات ، صدقيني يا حبيبتي أنه ليس بيدي الشغل كان كثيراً هذا الأسبوع ، لكني أطمأنك أنني بخير ، ومساعي الصلح بين عائلتي وعائلة أولاد حسان في طريقها للانتهاء بعد تدخل حضرة النائب والمأمور ، ومجرد مايتم الأتفاق ونسلم دية ولدهم سأكون بأمان واستطيع أن اعود للبلد كي أخطبك من أمك ونتزوج في الحال ، لا تقلقي يا روح القلب كل الأمور ستكون على مايرام ، اشتقت اليكي واشتقت للمكان الذي يجمعنا خلف السواقي ،،، حبيبك سالم .
دمعت عينا صابرين وأحتضنت الجواب وقالت : يرجعك ليا بالسلامة ......
دخلت الأم عليها وهي متحفزة ، فأخفت صابرين الجواب في صدرها ،قالت الأم  بعصبية : بنادي عليكي يابت لما صوتي اتنبح مش بتردي ليه ، أنزلي حشي الربيع للجاموسه وارجعى علطول اكون جهزت الوكل ، يله همي حش رقبتك ،،،
قالت صابرين بتململ : يوووه حاضر يامه هروح ،،،،

المشهد الثاني

لم تكن مساعي الصلح بين عائلة أولاد حسان وعائلة وِلد أبو غدير  لتنتهي بسرعة كما كان يتوقع سالم ، حتى بعد تدخل نائب مجلس الشعب والمأمور وبعض قيادات المجلس المحلي ، أولاد حسان قُتل منهم زينة شباب العائلة على يد شاب عاطل من عائلة سالم ، وهم يبحثون عن أخذ الثأر ورد الاعتبار قبل أتمام الصلح حتى تتاوازن الكفتين ولا يقال عليهم في ربوع البلاد أنهم فرطوا في دم أبنهم مقابل مبلغ من المال ، فكانوا يماطلون في مساعى الصلح حتى يصلوا لشاب ذو قيمة معنوية عند عائلة أبو غدير ، الوقت بدأ يطول ولا يستطيع فراق صابرين أكثر من ذلك ، لا يتحمل الغربة في بلد بعيد هاربا من بلده وأهله ،،،،
اليوم شتوياً شديد البرودة ، أستيقظت صابرين وهي متعبه لم تنم طوال الليل من الصداع وألم البطن ،،،
جاء صوت أمها من الأسفل يناديها أن تُسرع حتى تلّت العجين ، كانت صابرين في الحمام تعاني من القيء الشديد ،،،،
بداخلها أحساس أنه ليس مجرد برد ، تأخرت عليها دورة الحيض ولم تأتي في ميعادها ، لا يستطيع عقلها أن يتقبل فكرة أنها حامل وسينفضح أمرها قالت : دي أمي تقتلني يامصيبتي ليكون صح ، استرها معايا يارب ، انا ال جبته لنفسي ، انا ال استاهل دي أمي ماتستهلش مني أفضحها ،،،،،
جلست بجوار الحمام تضع رأسها بين ركبتيها وظلت تبكي ، لكنها خافت وقامت الى سريرها كي لا تشك أمها في أمرها ،،،،
جائت الأم تُتمتم بكلمات كلها رثاء لحالها بأن الله رزقها بأبنة كسولة ،،،،
وجدت أبنتها في السرير وقبل أن تتكلم بادرت صابرين بالكلام وقالت : معلش يامه شكلي اخدت برد مش قادرة اقوم ، مصاريني يامه بتقطع في بعض ،،،
اقتربت الأم منها وقالت في حنان : مانا قولتلك يابتي البرد يقطع ديل الكلب ده احنا لسه في برمهات ، قولتلك تيجي تنامي جاري عشان مطرحك البرد بيصفر فيه ،،،،
ارتاحي يابتي ، هعملك شوية كمون يهدوا مصارينك ،،،،

المشهد الثالث

أيقنت الفتاة من حقيقة أمرها ، لقد أصبحت حبلى ، في غضون أسابيع سينفضح أمرها ،،،
أتصلت بسالم وأخبرته بحقيقة أمرها ، طمأنها وهو حزين بأنه لن يتخلى عنها حتى لو كتب عليها وتم قتله ، لكنه لن يتركها للفضيحة والعار قال لها : مش هتخلى عنك ياصابرين ، حتى لو الصلح ماتمش وقتلوني ، هنزل البلد واقابل امك واخطبك منها وهتجوزك علطول ، مستحيل يابت الناس اسيبك للفضيحة والعار ، انا المسؤل يا صابرين ،،،
كانت تبكي في التليفون وهي تقول : انا خايفه يا سالم والنار بتنهش في قلبي ، مابين خايفه اتفضح وامي تدرى بيا ، وخايفه عليك تنزل البلد ويقتلوك ، ماتنزلش دلوقتي ياسالم يمكن ربنا يحلها من عنده اليومين الجاين ،،،،
عادت من السنترال وذهبت الى مكان لقائهما بجوار السواقي شرق النيل ، مر في عقلها شريط ذكرياتها مع حبيبها ، صدي ضحكاتها كان يتردد مع أنين السواقي ، السواقي تدور وذكرياتها تدور معها ، الهمسات والقبلات والضحكات ، الاحلام والأمنيات ،،،،
تطاير حجابها مع الرياح فتمسكت به ولفت الشال الوردي حول رقبتها ،،،
كان يتابعها من بعيد بركة المجذوب ، ذلك الفتى كان يحبها لانها تعطف عليه وكلما خرجت من الدار يمشي خلفها ويعطيها من النبق والتوت الذي يسقطه بنفسه من الشجر حول الغيطان ،،،
من اربعة عشر عاما وِجدوا طفلا أمام مسجد البلدة لا يدرون من أهله وان كان من البلدة او من البلاد المجاورة ، وجده أمام المسجد قبل صلاة الفجر وذهب وأبلغ المركز ثم كفله في بيته وأسماه بركة تيمناً أن يكون بركة من الله تعم عليه ،،،،
ذهب اليها ببندقيته الخشبية الصغيرة والعلبة الصفيح الذي يجمع فيها الريالات والشلنات ، قال لها : مالك يا صابرين مين المزعلك ، قوليلي عليه وانا اقتله ، اضحكي واديكي ريال ،،،،،
أرتسم على وجهها ابتسامة حزينه وقالت : مش قادرة يابركه ،،،،
مع مرور الأيام بدأت الأم تشك في سلوك ابنتها ، عزوف عن الطعام ، شاردة الذهن بأستمرار  ، تكرار التعب والقيء ، وكانت تسألها عما بها فكانت الابنة لا تعطي جواباً مقنعاً ،،،،
طلبت منها ان تذهب بها للطبيبة في المدينة او الوحدة الصحية فكانت تتحجج بحجج واهية ،،،
في الصباح استيقظت الأم وارتديت ملابسها الكامله وأيقظت أبنتها وطلبت منها أن ترتدي ملابسها كي تذهب للطبيبة ، رفضت صابرين في باديء الأمر بحجة أن مابها لايستدعي الطبيبة ، فأصرت الأم وأمرتها ان تُسرع حتى لا يتأخرا ،،،
دقات قلبها تسارعت ليت الارض تبتلعها ليتها كانت العدم ، او وئِدت بدون ان تسأل بأي ذنب قُتلت ،،،،
كأنها تُساق الى المجهول ، لا أنه ليس المجهول أنه العار والخذلان ،،،،
وصلت مع أمها الى طبيبة الوحدة الصحية ، لم تعطيهم الأم الأسم الحقيقي فطنة منها أنه ربما يحدث شيء ، كان قلبها يحدثها بذلك ،،،
اجرت الطبيبة الكشف الطبي وقالت الجملة المعهودة  التي تنتظرها الفتاة وتخشاها الأم : انتي حامل يا امال هذا الأسم المستعار الذي اختارته الأم ، هكتبلك على فيتامينات ومقويات تمشي عليها وتجيلي كل شهر عشان أتابع معاكي ، ماترفعيش حاجه تقيلة وتهتمي بالغذا ،،،
كانت الأم تسمع هذا الكلام وهي مغيبه كأنها في أعماق الجحيم لا تسمع ولا ترى ، يتردد فقط في جنبات عقلها صدى العار وترى فقط دماء ابنتها التي تريد تغسل بهِ هذا العار ،،،
الأبنة لا تدري لقد تخيلت نفسها جسد شاحب روحهُ تتلاشي في غياهب الظلام ،،،،
لم تتكلم الأم لكنها تحركت في خطوات ثابتة وابنتها خلفها ،،،
دخلتا البلدة ،،،
كأنهما عاريتان تلاحقهما شبابيك البيوت كعيونٌ تنهش في جسديهما ، مداخن افران الطوب تقف شامخة كأنها تريد ان تقتص من الفتاة ،،،
رغم برودة الجو الا ان الشمس ساطعة أحست الأم بها تلتهم رأسها ، كأنه قيظ الصيف ،،،
الفتاة حدثت نفسها وهي تنظر حولها : فينك يا سالم سايبني ليه ؟؟

المشهد الرابع

النواح يتصاعد من الجهة البحرية للبلدة وعربات الشرطة تحاوط البيوت ، أنها بيوت عائلة أبو غدير ،،،
الرجال يقفون بعصيهم الغليظة وعسكر الشرطة بجانبهم ،،،،
الفتاة أفاقت من غيبوبتها ، تسأل نفسها : سترك يارب ايه الحصل ؟؟
نواح وصراخ النسوة يعلوا بقوة من البيوت ينعون الشاب الذي قُتل !!!
ولاد حسان قتلوا سالم أبو غدير بعد أن رصدوه في موقف السيارات الخاص بالبلدة ، لقد اخذوا بثأرهم ،،،
والشرطة تقبض على شباب العائلتين وتجمع الأسلحة منهم ،،،،
توقف قلب الفتاة وتوقفت أنفاسها : سالم اتقتل يامه !!! سالم قتلوه !!!
دفعتها الأم من شعرها الى داخل البيت ولم تتكلم ذهبت واخرجت مسدس زوجها من الدولاب وقالت : هقتلك بمسدس أبوكي وارتاح من عارك يابت بطني ، على اخر زمني بقى بطني نجس عشان جابك يا عاري ،،،،
صرخت الفتاة : لا يامه احب على يدك ماتقتلنيش ، مش عشان خايفه من الموت لكن عشان اسمك واسم ابوي ، هولع في روحي يامه وانتي متتاذيش ، احب على رجليكي يامه ،،،
بكت الأم وسقط المسدس من يديها وقالت غوري من وشي غوري من وشي ،،،
ذهبت الأم الى دار أبو غدير كي تشاطر النسوة المُصاب ، توشحت بالسواد وراحت تنعى نفسها قبل أن تنعي الشاب القتيل ،،،
تصاعدت الادخنة من مداخن الطوب المحيطة بالبلدة ، أشمتها الأم فقالت لنفسها : البت ولعت في روحها ، يقطعني ياصابرين ، ارحمني يارب ، سترك يارب ،،،
كانت الشمس على وشك الغروب ، الشمس تختنق وتغرق خلف الشفق الاحمر الدامي ،،،
والأم تهرول الى الدار كي تلحق أبنتها ،،،
صرخت : انتي فين ياصابرين !!! ، لم تجدها في الدار ؟؟؟
خرجت الأم كالمجنونة تبحث عن أبنتها ، تلفتت عليها يمنة ويساراً ،،،

المشهد الأخير

صابرين تسير مع غروب الشمس بأتجاه السواقي ، شالها الوردي يحتضنها ،،،
السواقي تدور مع الزمن وتأن تشكوا الأيام والسنين ،،،
كأنها ترى سالم يجلس ينتظرها ،،،
في الماضي كان أنين السواقي يتردد صداه ضحكات تختلط مع ضحكاتهما ،،،
السواقي الان تشاركها الأنين ، تبكي وتراقب من بعيد حال البلدة وأهلها ،،،
سقط الشال الوردي من على نهدي صابرين ، فسقطت بعده بين الساقيتين العجوزتين ،،،
فاختلطت دمائها بماء السواقي ، فروت بدمائها سنابل القمح الصغيرة ،،،،
يأتي بركة من بعيد ببندقيته الخشبية وعلبته الصفيح الصغيرة ، فلا يجد من صابرين سوى شالها ،،،،
يجري وينادي في ازقة البلدة وفي يده شالها الوردي يصرخ باكياً : صابرين وقعت بين السواقي ، صابرين ماتت ياعالم ،،،،
خرج رجال القرية بالمصابيح والمشاعل بأتجاه السواقي تتقدمهم الأم التي تنشد نشيد وداع أبنتها : جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب ،،، خدت معاها الهنا وسابتلي وجع القلب
قالوا شقية قلت من يومي ،،، قسموا النوايب طلع الكبير كومي
وبركة يلقي في الهواء بريالاته وشلناته ويجلس بعيداً ممسكاً بالشال الوردي ،،،
ينظر الى السواقي التي مازالت تأن وتدور دورتها اللانهائية ,,,,,,,

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

جميــــــــــــل