الأحد، 7 أبريل 2013

على ضفاف السراب



نظر لأخته الصغيرة ذات الخمس سنوات وهي جالسة على عتبة الدار تراقبه وهو يلعب الكرة ، مرت الكرة بجانبه ولم يلتفت لها ، ترك فريقه وهو يلهث وجلس بجوارها على عتبة الدار يتنفس الصعداء ، دميتها ملقاه بجوارها بملابسها الرثة ، وضعت قطعة الفطير التي تأكلها بين كفيه والتفتت تبحث عن دميتها فأخذتها بين حجرها ....
جاء نداء الجدة لتجعلها تهب واقفة لتهرول اليها حتى اختفت في باطن الدار الصغير المظلم بالكاد الا من ضوء الظهيرة الذي يتسلل عبر الباب والنافذة الصغيرة ....

عاد الى فريقه ليلتقط الكرة ويرواغ بها خصومه ثم يسجل هدفاً ، كلما سجل هدفاً بين الحجرين اللذان يشكلان المرمي تتعالى الصيحات من باقي الفتية ويظل هو ينظر دائما الى شرفتها ، دائماً ماتخرج الى الشرفة في هذا الوقت ، لا يدري لماذا في هذا الوقت لكنه ينتظرها ....

تجلس متكئة بذراعها على حافة الشرفة ينسدل على عينيها خصلة شعرها السوداء اللامعة  التي تتسلل في هدوء من منديلها الذي تعقد به شعرها ....
صغيراً بما لا يجعله يدرك انها لا تبالي بأنتصاراته ومرواغاته وتهديفه ، هكذا يظن انه اصبح بطلها .....

ظل ليومين لا يخرج من الدار ، مستائاً حزيناً بعد أن وعدته جدته بدراجة يذهب بها الى مدرسته الثانوية  التي تقع بالقرب من محطة الترام ، جميع زملائه سيذهبون هذا العام الى المدرسة بالدراجات ، يجلس ثاني ركبتيه على حافة النافذة يراقب اخته الصغيرة التي تلعب امام عتبة الدار ، يزعق فيها حيناً ويحذرها حيناً اخرى عندما تذهب بعيداً ....
ارتدى القميص والبنطال الجديد ، وقف أمام المرأة يهذب شعره ويمعن نظره في الشارب الغض الوليد الذي نبت بشعيرات خفيفه أسفل أنفه الصغير المدبب ، يرفع حاجباً ثم يسويه ويضع يده اليمنى في جيب بنطاله ثم يبتسم الى أخته الصغيرة ويخرج واقفاً أمام عتبة داره .....

وقف لبرهة يراقب أصدقائه وهم يلعبون الكرة ، اخذوا ينادونه لكنه لم يلتفت ثم رفع يده بوقار رافضاً دعوتهم ....

تسارعت دقات قلبه عندما لمحها قادمة من اول الشارع كأنه السراب البعيد يدنو منه بهوادة ليتحول من الخيال الى الحقيقة ، كلما اقتربت زاد بهاء وجهها النوراني  بعينيها الواسعتين كخليجين صافين يلتقيا عند وادي ممتد برقة ليصل الى واحة شفتيها المنفجرة بنهر من عسل مصفى .....

وصلت الكرة الى قدمه فركلها بعيداً الى داخل الدار حتى يتوقف الصبية عن لعب الكرة احتراماً لمرورها ، فنظروا جميعاً اليها كأن على رؤسهم طير الأحلام ....
تهادت أمام دكان البقاله ، فخطى اليها فوقع فريسة في شِرك عطرها ، فوقف كالسكير بجوارها  ، أفاق وأراد أن يتكلم اليها ولا يدري ماذا يقول  فتلعثم ، فنظرت له بخفه وتركته أسيراً ، يتوق الى من يحرره .......

رياح الخريف كانت اكثر حدة هذا العام ، جدته أتت له بالدراجة التي كان شغوفاً بها ، مع الغروب يخرج بها يطوف بها شارع الكورنيش والشوارع المحيطة بالقرب من المدرسة والترام ، يرفع يديه كجناحين يسبح بهما فوق بساط الريح الخريفية التي تأخذه لأعلى في سموات سبع يخترق بها السحاب ، يطارد عينيها عبر دراجته حتى يصل الى ضفاف السراب .....

يتابعها بهدوء أينما تذهب يظل بدراجته قريباً منها ، تحمل حاجيتها من الفواكه والخضروات فيثقل الحِمل عليها فتنفلت من يديها ويتساقط البرتقال ويتدحرج على الأرض ، يقفز من على دراجته ويذهب يلملم ثمرات البرتقال المبعثرة على الطريق ويقترب منها مشدوهاً الى عينيها ، تسقط من يديه برتقالة فيعتذر ويمسكها مرة أخرى ، تبتسم له في رقة قائلة : شكراً ،،،،
يراجع مع أخته الصغيرة دروسها ، يجلسان سوياً على عتبة الدار ، تداعبهما ريح باردة مالحة قادمة من البحر ، فينبعث النور من شرفتها يتسلل عبر ستائرها المخملية ، ثم تنطلق زغرودة يليها زغرودة أخرى فيسقط من أنامله قلمه الرصاص .....
في عشية اليوم التالي يجلس في نافذته يراها مع ذلك الغازي الذي تزوجها وهي ترحل معه  ....

أندفعت أخته الصغيرة كي تتابع العروس وهي تركب سيارتها وترحل بعيداً ، فقفز من النافذة واخترق الزحام كي يلحق بأخته ، فوقفت الصغيرة سعيدة ووقف خلفها يتطلع اليها في صمت ، تداخل أصوات الجميع داخل عقله ، تدور الأنوار حول عينيه ، يتضائل وجهها البهي يبتعد ويبتعد ثم يعود ، الجميع يختفون من حوله رويداً رويداً ، صوت الريح ورائحته البحرية المالحة هي سيد الموقف ألا من عينيها التي يتهادى أسيراً أمام شاطئها .......

لم يكن الخريف القاسي ألا غيثاً لشتائاً أكثر قسوة ، يجلسان بجوار جدتهما حول جذوة النار الصغيرة في وسط الدار ، نوة عيد الميلاد تدق بمطارقها أبواب السماء بعنف ، فتنفتح أبواب السماء بماءٍ منهمر ، فتفزع الصغيرة فتضمها جدتها الى حضنها الى أن نامت ووضعتها في فراشها وهو يجلس في نافذته يتطلع الى الشرفة المغلقة ، تداعبه زخات المطر فيشعر بالبرد يتسلل اليه من أنامله ورأسه حتى يصل الى قلبه الصغير ، ينعكس على عينيه البرق الخاطف ولا يبالي بالرعد الغاضب هذا المساء ، لا شيء سوى تطلعه الى الشرفة المغلقة .....

جفت الأرض بعد ان طلت الشمس هذا اليوم تُلقي بحنو شالها الدافيء على الأرض فينبسط بهدوء تشاكسه بعض السُحب اللبنية القادمة من وراء البحر ...
يُخرج دراجته من الدار فتتعلق به أخته الصغيرة حتى يُركبها معه على الدراجة ، فوضعها أمامه وأخذ يسبح بها كأساطير السندباد وعلاء الدين ، يواجهان الريح الشتوية الهادئة هذا اليوم ، يفردان ذراعيهما كأجنحة لا تتوقف أبداً عن التحليق والطيران ، يطير بها حتى شارع البحر والكورنيش ...
وجدها أمامه ، خفت ذلك البهاء النوراني الذي ينطلق من وجهها ، عيناها ذابلتان منكسرتان ، تداري شعرها الليلي الجامح  بوشاحاً أسود ، تحمل في يديها حقيبة صغيرة تمشي بخطوات واهنة ، لم تلحظه ولم تلتفت اليه ، ربما لم ترى كل شيء حولها سوى طريقها على ضفاف السراب  .....

يحلق بدارجته بالقرب منها ، أخته الصغيرة تطلق جناحيها الصغيران للريح الشتوية الهادئة ، تنطلق منها ضحكاتها التي لم تتوقف طالما تُحلق عالياً في السماء ,,,,,,,,,,

ليست هناك تعليقات: