الجمعة، 19 أبريل 2013

يا مسافر وحدك



وضعت وعاء اللبن بجوار كرسيها الخيزران في شرفتها المطلة على ميدان الكوربة ، ما أن وضعت الوعاء حتى سارعت القطط  خلفها ، تتمسح في قدميها ويقفزن حولها ثم جلسن في سكينة يلعقن اللبن ، تجلس على كرسيها الخيزران تتطلع الى الكنيسة العتيقة التي تتوسط الميدان والى الزحام الذي هدأ قليلاً مع أقتراب المساء وانزواء الشمس في حياء خلف عمارات الكوربة القديمة وهبوب نسمة خريفية لطيفة تداعب شجرة الدراسينا التي تُزين شرفتها .....

لم تدق أجراس الكنيسة بعد لتُعلن عن قداس الأحد المسائي ، أمسكت كوب الشاي بكفيها تستمد منه بعض الدفء بعد أن أحست بريح باردة تجتاح أطرافها ، تدثرت بشالها وأخذت تداعب القطط بقدميها وما أن دقت الكنيسة أجراسها مُعلنة عن بدء القداس المسائي ألقت التحية على جارتها في الشرفة المجاورة ثم تناولت وعاء اللبن ودخلت الى غرفتها تتبعها قططها الثلاث ....

أغلقت شرفتها وأسدلت عليها ستائرها ، وجدت الخادمة غلبها النُعاس وهي جالسة أرضاً  واضعة خدها على يدها أمام التلفاز ، ما أن أحست بها الخادمة حتى أستيقظت واعتدلت في جلستها ، فتركتها وذهبت الى غرفة المكتب الخاصة بزوجها ....

أعتادت كل مساء أن تجلس فيها وحيدة ، لم تهتم بالتراب العالق على صورتي المسيح مصلوباً متوجاً بأكليل الشوك وتسيل الدماء من جبهته الرقيقة ، وصورة العذراء وهي ترتدي وشاحها الأزرق ، أسفل الصورتين شمعتان لم تُضائا منذ سنوات عدة ....

أتت بالأسطوانة ووضعتها على جهاز الجرامافون وحركت ذراعه ، فأنسابت منه الموسيقى بصوت واهن ثم بدأ في الوضوح .. يا مسافر وحدك وفايتني ... ليه تبعد عني ....

قربت اليها أباجورة المكتب قليلاً فلمع وجهها بعد أن سقط  الضوء  عليه ، قسوة السنين حفرت تجاعيدها على وجنتيها كأنها مطرقة لا رحمة فيها ولا هوادة ، تألقت عيناها وسلكت دمعة صغيرة طريقها عبر تلك التجاعيد ، ثم نظرت الى صورة زوجها المقلوبة على المكتب ....

أخرجت من الدرج رسائل زوجها ، رائحة السنين تسللت الى انفها مجرد ما ان أخرجت الخطابات ، ثلاثون عاماً أصابت الأوراق بالشحوب وأصابتها هي بالوهن واللامبالاة .....
انقطعت خطاباته بعد أن سألته كثيراً في خطابات عدة عن حقيقة علاقته بأحدى السيدات التي كانت تعمل معه في تلك البلاد البعيدة التي سافر اليها ، ألحت عليه بالعودة لكنه كان يرفض ...
ظلت أسيرة لعبودية الأنتظار وأمنيات وأحلام العناق ، لم تحزن عند موته ، لم تبالي كيف مات وأين دُفن في تلك الأرض الغريبة ، حقيقة واحدة ظلت تنهشها أنه مات فوق صدر أمرأة اخرى .....

يا مسافر وحدك وفايتني ... ليه تبعد عني ....
أعادت الخطابات بشحوبها ورائحة السنين التي تغلفها ، مع نهاية الأغنية أغلقت درج المكتب وأبعدت ضوء الأباجورة عنها فاختفى وجهها خلف الظل وغلبها النُعاس .....

الميدان ممتلىء بالأطفال والفرق الموسيقية الشعبية والمهرجين ، وصبية يرسمون على الأرض ، وساحر يُخرج النار من فمه والحمام من قبعته ، أنه كرنفال الكوربة الشهري ....

جلست على كرسيها الخيزران في شرفتها المطلة على الميدان تُراقب الأطفال وهم يرسمون على الأرض رسومات عشوائية ، وقططها الثلاث يلعبن ويختبئن خلف شجرة الدراسينا ....
أجراس الكنيسة العتيقة تُعلن عن قداس الجمعة المسائي ، وقفت الخادمة بجوارها تتكىء على حافة الشرفة ثم التفتت أليها وأستأذنتها الذهاب الى الكنيسة لحضور القداس ، نظرت أليها مندهشة لم تكن الخادمة لتذهب للقداس الى هذة الكنيسة فهي تتبع كنيسة أخرى !!
سألتها لماذا ؟  فأجابتها الخادمة وهي مبتسمة متطلعة الى الساحر والأطفال الذين يلتفون حوله : قابلتني أحدى الراهبات التابعات للكنيسة وسألتني عليكِ وطلبت مني حضور القداس ، تقول أنها تعرفك منذ زمن .....
قفزت الى حجرها أحدى القطط الثلاث ، فحنت عليها بيدها تداعبها ثم قالت : حسناً سأتي معك ......

أخترقا الميدان المزدحم ومرا بجوار الساحر الذي ابتسم اليهما بفمه الملون وأنفه الأحمر المكور ....
ترتدي فستانها الأسود المعتاد التي لم تغيره منذ سنين ، وصلا الى بوابة الكنيسة العتيقة ، رائحة الجدران والبوابة الخشبية لم تتغير منذ ثلاثون عاماً ، الترانيم التي ينشدها الأطفال مع موسيقى الأرغون الغليظة تنبعث من المذبح .....

أيقونات القديسين متراصة على الجانبين وصورة سيدة النجاة السيدة العذراء تتوسط القاعة القديمة ، شعرت أن الجميع يراقبونها ربما مستائون أو مرحبون أو ربما لا يبالون بها ، لم تكن تدري ، لكنها مشدوهة بترانيم الأطفال وهادئة ، كثيراً ماكانت تهدأ عندما تستمع الى الترانيم من شرفتها عندما يكون الميدان هادئاً ، جلست هي وخادمتها بالقرب من المذبح ، النور الخافت مسيطر على قاعة الكنيسة العتيقة ، ينعكس من النوافذ الزجاجية الملونة المرسوم عليها صوراً للقديسين فكانت كالمُتهم الذي سيق للسؤال والأعتراف .......

ظلت تتبع نظرات القديسين المُعلقة صورهم على النوافذ والجدران ، ففجائتها احدى الراهبات الطاعنات في السن عندما جلست بجوارهما ، نظرت لهما مبتسمة ومرحبة ومتسائلة عن غيبتهما الطويلة ، ممسكة في يدها حزمة صغيرة من الخطابات القديمة ....

قالت الراهبة العجوز : أنتظرتك كثيراً بعد عودتي من السفر كي ألتقيك وأعطكِ بعض الخطابات التي تخصك ، كان ساعي البريد في الوقت الذي سافرتي فيه خارج البلاد  يأتي بالخطابات الخاصة بكِ الى الكنيسة وبحثت عنكِ كثيراً كي أعطيكِ أياها ، ثلاثون عاماً سافرتي أنتي وأنتقلت أنا الى أبرشية خارج البلاد وظللت محتفظة بأوراقك وخطاباتك ثلاثون عاماً .....

مازال الأطفال يرنمون يمتزج بأصواتهم الرقيقة صوت موسيقى الارغون والكمان ....
أخذت منها الأوراق والخطابات ، لها نفس رائحة الماضي والسنين ولون الزمن الذي صبغها ، فتحتهم واحداً تلو الأخر : حبيبتي .. سامحيني على تأخري في أرسال الخطابات لقد كنت مريضاً ... حبيبتي لقد أحببتك أنتِ وحدك لا يوجد في حياتي سواك ... لا تصدقي أنني سأتزوج بأخرى ... أنتظريني سأعود بعد شهر كي أبقى بجوارك الى أن أموت بين كفيكِ .... أحبك .. زوجك المحب والمخلص لكِ دائماً ,,,,

تصاعدت ترانيم الأطفال الى السماء وانزوى صوت الأرغون واهتزت النوافذ الزجاجية الملونة وجدران القاعة العتيقة ...
أغرورقت عيناها بالدموع ، لم تتكلم ، قبّلت يدي الراهبة العجوز وهي ممسكة بحزمة الخطابات الصغيرة ، انتهت جوقة الأطفال من الترنيمة فقابلها الحضور القليل في القاعة العتيقة بالتصفيق .....
أنصرفت هي والخادمة يخترقان ميدان الكوربة ، وقفت بين الأطفال وهم يشاهدون  الساحر بدهشة وترقب ، أبتسمت للساحر الذي أبتسم لها ثم أخرج منديلاً من قبعته السوداء ثم قال تعويذته السحرية وأخرج من كفيها مناديل كثيرة ملونة ......

جلست في غرفة المكتب وقططها الثلاث يتمسحن بها ، والخادمة عادت للنعاس أمام التلفاز ...

وقفت أمام صورتي المسيح متوجاً بأكليل الشوك والدم يسيل على وجه الرقيق والعذراء متوشحة بوشاحها الأزرق ، مسحت بقطعة قماش صغيرة التراب العالق على الصورتين وأضائت الشموع أسفلهما ....
حركت ذراع الجرامافون ، فأنسابت منه الموسيقى بصوت واهن ثم بدأ في الوضوح .. يا مسافر وحدك وفايتني ... ليه تبعد عني ....

وضعت حزمة الخطابات الصغيرة في درج المكتب ، وأعادت صورة زوجها المقلوبة ناظرة اليها تستمع الى أسطوانتها المفضلة ,,,,,,,,



اللوحة لسلفادور دالي ...
والأغنية لعبد الوهاب وغناء غالية بن علي ,,,,,,

ليست هناك تعليقات: