الجمعة، 12 نوفمبر 2010

عالم خاص


وقف على حافة السطوح واستقبل بوجههُ شروق الشمس التي ارسلت جزء من نورها قبل ان تبدأ في الصعود رويداً رويداً من خلف الأفق الشرقي البعيد ،،،
أمسك بالورقة الصغيرة وضمها جيداً بقبضة يديه ،،،،
نظر للاسفل فكان الشارع نظيفاً وسيارة التنظيف قد انتهت من رش الماء ،،،،
وبائع الجرائد جالس على الرصيف متدثر بردائه الصوف يستمع الى الراديو الصغير ،،،،
فرد جانحيه ورفع بوجهه الى السماء وقرر ان يخرج من هذا العالم الصاخب ، بعد ان تركته وحيدا ،،،،،،
طار في الفراغ لعله يجدها ويعود لعالمهما الخاص ،،،،،،

كان وحيداً بدون اصدقاء منطوي على ذاته وحالم دائما في تأملاته العجيبه ، يجد في الصمت والقراءة متعته الوحيدة ، يسكن مع أبيه في احد غرف سطوح تلك العمارة العاليه ،،،
الى ان ظهرت في حياته فجأة  تلك الفتاة الجميلة الخرساء ،،،،
جائت للسكن بجواره مع أمها وأخيها الصغير ، فتاة جميلة لم يُعرف سبب فقدها للنطق منذ بضع سنوات لكنها تسمع وتستجيب لمن حولها وتعبر دائما بالرد عن طريق قلمها ومفكرتها الصغيرة ، تقول الكثير عبر عيناها الحالمة والبريئة ،،،،
أول ما رائها وجدها تجلس بجوار قطه صغيرة وتداعبها ، فظل يراقبها عن بعد ، اندهش في أول الأمر وهي تداعب القطه في صمت ،،،،
اقترب منها ونظر أليها ،،،
فأمسكت القطه بين يديها ورجعت للوراء ،،،
رغم هدوئه ألا انه مندفع في تصرفاته ، أبتسم لها وقال : لا تخافي ،،،،
نظرت له وأخذت القطه وهمت بالانصراف ،،،،
فتبعها ووقف في طريقها وابتسم مرة أخرى وقال : لا تخافي أنا جارك ،،،،
نظرت له نفس النظرة الهادئة وأشارت الى فمها بسبابتها بأنها لا تتكلم ، وانصرفت ،،،،،
،،،،،،،،،،،،،،،،،
بدأت صداقتهما وعالمهما الخاص
كانا يجلسان سوياً فوق السطوح بينهما القطه الصغيرة أو أخوها الصغير بجوارهما يلعب بطيارته الورقية ،،،،
يضحك معها ويقرأ لها قصصه العجيبة ويثرثر بكلامه الغريب عن الجيران والعالم والنجوم والشمس والقمر ،،،،
يفهم ما تُريد أن تقوله من تعبيرات وجهها وابتسامتها الدائمة التي لا تفارقها ، وتكتب له ما تحب أن تقوله وتريده عبر مفكرتها الصغيرة ،،،،
يأتي لها بالحلوى ، ويأخذها معه لصيد السمك ، يرقص لها ومعها تحت المطر فوق السطوح ، يرسم لها أشكال عجيبة وغريبة ويستهزأ بالرسم من الجيران الذين يمتلكون الشقق الفاخرة في العمارة ،،،،
عاكسها ذلك الرجل البدين الذي يسكن في الطابق الرابع وحاول التحرش بها ، فرسم له صور مضحكه وفاضحه وعلقها على أبواب المصعد وعلى باب بيته ،،،،،

بدأت صحة الخرساء الجميلة في الذبول ، لم يكن احد يعلم ماذا ألم بها ، لكنه كان ذبول شديد ، ظلت محتفظة بابتسامتها ،،،،،
ذهبت مع أمها للمستوصف القريب من العمارة ، طلب منها الأطباء بعض التحاليل ، منها ماهو في المستوصف ومنها ماهو مُكلف في مراكز التحاليل الخاصة ،،،
أثبتت التحاليل أصابتها بالسرطان وتحتاج للتدخل الجراحي والعلاج الكيميائي ،،،،
عندما علم بمرضها ظل يبكي وحيداً في غرفته ويقطع بعض أوراقه وكتبه ،،،،
لكنه ظل دائماً أمامها يضحك ويلهو كما اعتاد ،،،
جاء الخريف وقد بدأت صحتها في التدهور وشعرها الأسود الجميل يتساقط بسبب العلاج الكيميائي ، فكانت تلبس الكوفيه الشتويه والطاقية الصوف ،،،،
فرسمها وهي تداعب قطتها وخلفها العمارات الكثيرة وسحب الخريف المتناثرة في السماء ،،،،
اصطحبها للسرك هي وأخوها الصغير وعندما عادوا ظل يرقص لها ويقلد جيرانهم في العمارة ،،،،

جاء الشتاء قاسياً هذا العام ، المطر لا يتوقف ألا قليلاً ،،،
الخرساء الجميلة تذبل وتموت بسبب تأخر التدخل الجراحي ، وتنتظر ، وتنتظر ،،،،
ذهب الى المستشفي ومعه بعض الشيكولاته والحلوى ، فوجد سريرها فارغاً !!!!
أمها وأخوها الصغير يبكيان ،،،،
تركت له مفكرتها الصغيرة بها بعض الرسومات لقلوب صغيرة وحروف من اسمه وأسمها وكيوبيد يحمل قوسه ومسدداً سهمه في قلبها ، بعض احاديثها معه ومع أمها عبر قلمها ومفكرتها ،،،،
في أخر ورقه في المفكرة كتبت له : أشكرك على كل ما منحتني من السعادة ، سنلتقي قريباً ونعود الى عالمنا الخاص ، احبك ...........

ظل وحيداً في غرفته لعدة أيام لا يتحدث مع أحد ولا يأكل ،،،،
الى ان جاء صباحاً شتوياً هادئاً ،،،،
نزع أخر ورقة من المفكرة واتجه الى حافة السطوح ،،،،
وقف على حافة السطوح واستقبل بوجههُ شروق الشمس التي ارسلت جزء من نورها قبل ان تبدأ في الصعود رويداً رويداً من خلف الأفق الشرقي البعيد ،،،
أمسك بالورقة الصغيرة وضمها جيداً بقبضة يديه ،،،،
نظر للاسفل فكان الشارع نظيفاً وسيارة التنظيف قد انتهت من رش الماء ،،،،
وبائع الجرائد جالس على الرصيف متدثر بردائه الصوف يستمع الى الراديو الصغير ،،،،
فرد جانحيه ورفع بوجهه الى السماء وقرر ان يخرج من هذا العالم الصاخب ، بعد ان تركته وحيدا ،،،،،،
طار في الفراغ لعله يجدها ويعود لعالمهما الخاص ،،،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي

ليست هناك تعليقات: