الخميس، 28 يوليو 2011

الوجه الباسم



عن قصة واقعية دارت أحداثها في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي ،،،،،

لم يعد يدري بما يدور حوله في المحل الكبير للأدوات الكهربائية ، ارفف كثيرة ترتص عليها كافة أنواع البضاعة ، يراها بوهن وعدم وضوح ، كانت عايناه تغرقهما الدموع كلما أحس أن تلك البضاعة والتجارة هي السبب ، كثيرا ما اراد أن يحطمها لكنه تذكر أنها ليست ملكه لوحده وانها يشاركه فيها أمه واخواته البنات ،،،،
أمر العاملين بالرحيل وجلس وحيداً على مكتبه أمامه الفواتير وبعض الأوراق التي أصبح لا يعيرها أي اهتمام ،،،،
ترأى له ذلك الوجه المبتسم في ضعف وأرهاق ،  ينظر له بنفس الأبتسامة الضعيفة ، أبتسامة لم تتغير منذ سنوات ،،،،،
أخرج الأوراق من درج مكتبه وأمسك قلمه وقرر أن يحاكي تلك الأوراق بعما يؤرقه ويمزق قلبه وأحشائه ،،،،،
نجلس جميعاً في غرفة المعيشة الكبيرة ، الحزن والوجوم يخيم علينا ، أمي تبكي وأخواتي البنات يبكين معها وأخي الاصغر أبن السبع سنوات يجلس بجوار أمي لا يدرك مايحدث ،،،
كنت في ذلك الحين حصلت على الثانويه العامة وانتظر دخول الجامعة الى أن مات أبي ،،،،
جلسوا جميعاً وعيونهم معلقة بي ، من سيقود سفينة العائلة بعد وفاة أبي ، من سيقف في المحل ويتحمل مسؤلية الأم والبنتين والفتى الصغير ؟؟ ،،،،
كان يجب أن أضحي بحلمي بدخول الجامعة وأن اتفرغ للتجارة ، فنظرت لهم جميعاً وقلت : من الغد سأفتح المحل وسأعمل بالتجارة ، كان ردي هذا يقابله الأرتياح والشعور بالانقاذ من المصير المجهول ،،،،،
بدأت عملي في المحل وانا اشعر بالضيق والحقد على زملائي الذين يعيشون حياتهم كشباب جامعي يوجد من يتحمل مسؤليتهم ، وانا لوحدي اتحمل مسؤلية أسرة كاملة ،،،،
أشعر بالغربة في البداية ، يساعدني بعض اصدقاء أبي الى ان بدأت أثبّت أقدامي في التجارة وأعرف اسرارها ،،،
في ذلك الوقت كنت انا الأمر الناهي في البيت ، تقابلني أمي وأخوتي البنات بالرضا والضعف والخوف دائماً من ضيقي وعصبيتي الشديدة ، وفي حينها كنت أتطلع الى اخي الاصغر الذي وصل للحادية عشرة من عمره ، كنت اريده أن يساعدني في تحمّل المسؤلية ،،،،
فأمرته انه يأتي الى المحل ليساعدني بضع ساعات ، يقوم بتنظيف البضاعه ورصها ،،،
كان مثل باقي الأطفال يريد أن يلعب ويضيق بطلباتي ، لكني كنت صارماً معه منذ البداية وعنيفاً ، فكان يرتعب مني وينفذ كل ما أطلبه منه على الفور ،،،،،
يبكي ويزيح الورق جانباً ، ثم يقوم ليتمشى قليلاُ في المحل وينظر الى ماحوله من بضائع جامده ، تكاد تطل بوجهها القبيح عليه وتسخر منه ،،،،
يتردد صوت خالته وهي تقول له : منك لله انت من قسوت عليه وظلمته صغيراً وكبيراً ،،،
ثم يصرخ كفى لم اعد اتحمل ،،،،
يمسك قلمه من جديد ويستكمل ،،،
أخي لم يكن يدخر جهداً في ارضائي وارضاء اخوته البنات حتى بعد ان تزوجت أخته الكبرى كان يخدمها ويأتي اليها بكل ماتحتاجه في بيتها ، كان يسهر للمذاكره ، وفي النهار يقف في المحل ،،،،
جائت الثانوية العامة وكانت النتيجة بمجموع ضعيف ، فأنهلت عليه بالتوبيخ والتقريع أمام امه واخوته ، فلم يكن منه أنه بكى ، فأستشاط غضبي وظللت اضربه وهو يبكي ويحمي وجه بكلتا يديه ، ويقول لي لقد أخذ المحل كل وقتي ،،،
يا ألهى كيف اجرؤ  ، يالتني متُ قبل هذا وكنت نسياً منسياً ،،،،،،،،
قلت في نفسي أنه سيغضب ولن ينزل المحل ، وكنت سأراضيه  وأخفف عنه ،،،،
وجدته في اليوم التالي يأتي متأخرا قبل أن أرحل ويعتذر لي عن التأخير ويقول : سامحني لقد تأخرت ، أحسست بتعب في صدري وقلبي وذهبت الى المستوصف الخاص بالحي وهذا سبب تأخري ،،،
قلت له لا تعمل اليوم وانت مٌتعب هكذا فقال في وهن بأتسامته المعتاده  : انا أصبحت أفضل الان سأقف انا في المحل ،،،،
اللعنة على هذا المحل وهذة التجارة ، سأظل الى متى اتعذب يا ألهي ،،،،
تمر الأيام وانا أنجح وبدأت تجارتي في الانتعاش واصبح المحل اثنين ، التحق اخى بالمعهد التجاري ، واصبح يدرس في الصباح ويستكمل باقي اليوم في المحل وفي الليل لمذاكرة دروسه ،،،
الى أن جائني الشيطان متمثلا في بشرا سوياً ، يخبرني أن أخي يسهر مع اصدقاء السوء ويدخن المخدرات ،،،
لم أتمالك أعصابي فظللت أراقبه في صمت وهدوء ولم أجد عليه شيئاً معيباً ،،،
وجدته في يوم يرتدي ملابس جديدة فسألته من أين لك بتلك الملابس فقال في خجل : لقد اهدتني أياها اختي الكبرى ،،،،
فسألت اخته فأكدت هذا لكني لم أصدّقها ،،،
فقلت له أمام الزبائن والعمال في المحل : لقد سمعت أنك تصاحب اصدقاء السوء ولاحظت أختفاء بعض الأموال من خزنة المحل ، أقطع علاقتك بهؤلاء الاصدقاء والا لن تدخل المحل ابدا ،،،،
دمعت عيناه ثم قال : انا تربيت مثلك من الحلال ولن أمد يدي في يوماً الى الاموال التي هي حق أمي واخوتي البنات ، سامحك الله ،،،،
ثم انصرف ,,,,,,
حقاً سيسامحني الله على مابدر مني تجاه أخي الوحيد !!
انتظرته في الغد أن يأتي منكسراً كما اعتدت منه في كل مرة كنت أقسو عليه فيها ، أنتظرته كثيراً ولم يأتي ،،،
ذهبت الى بيت العائلة فأذا بأمي تخبرني أنه ترك البيت وسافر الى الأسكندرية للعمل عند تاجر من معارف أبي ،،،
انفجرت غاضباً في وجه أمي وقلت لها ، في داهية سيأتي الي راكعاً ، ولن يعود للعمل معي الا بشروطي ،،،،
يأتي مرة كل شهر كي يرى أمه واخواته البنات ، وعندما يجدني يقف خجلاً لكي يسلم علي ، فأشيح بوجهي عنه ،،،
سألت عنه التجار الذين نتعامل معهم في الأسكندرية فأخبروني أنه مثال للالتزام والذوق والكل يحبه ويتعامل معه ، وقمت بألاتصال بالتاجر الذي يعمل عنده فأخبرني أنه شاب محترم وأمين ويشكرني على أني تركته له ، فزاد غيظي فأخبرته أنني لست مسؤلاً عن تصرفاته ، فقال الرجل غاضباً : يكفي هذا وشكرا ، واغلق الهاتف في وجهي ،،،،
ينظر حوله في جنبات المحل فيجد وجهه مبتسماً يطارده ، يتردد صداه في كل مكان ،،،
كفى عذاباً ، لم أعد أتحمل ،،،،،
وجدته يدخل علي المحل ، ففرحت لرؤيته كنت أشتاق اليه والى الحديث معه ، فأخبرني أنه سيخطب زميلته التي تعمل معه في المحل ، وانها فتاة طيبة من اسرة فقيرة ، فاستشاط غضبي وقلت له : أنك تريد أن تجلب لنا العار وتتزوج من فتاه ليست من مستوانا ، انت تتعمد اهانتنا ، لن تتزوجها ولو تزوجتها ليس لك أي مليم عندي ،،،
فرد علي في خجل وضعف : انا أكلت بلقمتي وتعليمي ولن أطلب منك مالاً في ورثي من أبي لقد تنازلت عنه لأمي ولأخوتي البنات ، لكني استحلفك بالله أن تأتي وتشرفني لانك في منزلة أبي ،،،
ردت عليه في سخرية : لن يكون هذا ابداً ،،،
فقال لي : اذا أترك لي امي واخوتي يكونوا بجواري ،،،
فضحكت وقلت : لن أسمح لهم بهذا ومن ستفعل سأقاطعها ،،،،
قام من على الكرسي وقال : كتر خيرك ،،،،،،
ظلت أمي تبكي لكي أسمح لها بحضور خطبته وكتب الكتاب ، فرفضت واتهمتني زوجتي بالظلم وقالت لي حسبي الله ونعم الوكيل ،،،،
علمت بعدها أن خالتي وزوجها وابنائها ذهبوا الى الاسكندرية واخبرت أمي أن عليّ أن اخبط رأسي في الحيط ،،،،،
فرح بخالتي كثيرا فرحاً جنونيا وقبّل رأسها ورأس زوج خالتي لأنهم شرفوه ،،،،
مرت الشهور ووجدته عندي في المحل ضعيفاً ترتسم على وجهه علامات الوهن والمرض ، فأخبرني أنه مريض ويجري بعض الفحوصات الطبية ، فأنفطر قلبي عليه واخبرته أنه لابد أن يبقي في القاهرة حتى أعرضه على أكبر الأطباء ، قلت له : سأصرف عليك كل ما أملك هذا حقك في ميراث أبيك ،،،،
فقال لي : يجب أن اعود فعندي عمل كثير وديون يجب أن اسددها ،،،،
هممت كي أحلف عليه بالطلاق ، فوضع يده على فمي وقال لا داعي سأكون بخير وسأتصل بك عندما أصل الى الاسكندريه ،وابتسم لي في ضعف ورحل ،،،،
لم أذق طعم النوم في تلك الليلة ، وعندما ذهبت الى المحل في الصباح ، اتصلت به في التليفون ، فرد علي التاجر الذي يعمل عنده ، وقال لي : كنت سأتصل بك حالا نحن قادمون اليك ، لقد توفى اخيك هذا الصباح ،،،،،،
لقد مات سندي الذي كسرته بيدي ,,,,,,
ماذا فعلت بنفسي وأي عقاب سيحل بي  ، الم يكفي ما أعانيه الان ، اللعنه على المال والتجارة ،،،،
انهال على ارفف البضاعه تحطيماً بيديه  وظل يبكي ، وينادي بأسم اخيه ، الى أن سقط مغشياً عليه وسط أكوام البضاعه
,,,,,,,,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي

ليست هناك تعليقات: