الثلاثاء، 14 فبراير 2012

الفستان الأسود



الكاهن يلقي عِظة الأحد عن الأحسان للوالدين والجميع في القاعة العتيقة للكنيسة صامتون ، كانت هي متشحة بالسواد كعادتها لا تبالي وغير مهتمة ، تسرح بعينيها في الارغن القديم في مكانه المعتاد من القاعة ،،،،،
مازالت تكرههُ منذ ان كانت أمها تأتي بها وهي صغيرة ومعها أخوها ، كي تتعلم اللاهوت وتعزف على الارغن الحزين بصوته الرخيم البائس ، استحلفت أمها بالعذراء انها لا تريده فكانت الأم تتصلب في رأيها وترفض ، تعلمت العزف وأتقنته وأصبحت العازفه الرئيسية لكل الترانيم والأناشيد المقدسة التي يؤلفها الكهنة في الكنيس .....
في مساء كل سبت تقف أمام صورة أمها مبتسمة وتخبرها بأنها لن تذهب لقداس الأحد في الصباح ، بينما تصحو في الصباح لتجد نفسها ترتدي نفس الفستان الأسود وتجلس في نفس المكان في الصف الرابع على يمين المذبح , تظل شاردة الى ان ينتهى الكاهن من القاء العظة وتنصرف واجمه لا تتحدث مع احد رغم محاولة الراهبات التقرب منها بحكم علاقة الطفولة ،،،،
رائحة القاعة لم تتغير منذ سنين حتى الوجوه وصور الشهداء والقديسين في مكانها تحاوطها بنفس الأعين الحانية والغاضبة احياناً ، التماثيل ثابتة في مكانها يسكنها التراب تارة وتجدها نظيفة تارة أخرى ،،،،
تخرج وحيدة من الكنيسة وتظل تمشي في شوارع مصر الجديدة التي لم تبقى على حالها ، همسات أمها في أذنيها تتردد في جنبات عقلها ، تجعلها تلتفت وتتسائل أأنتي هنا أين انتي ؟ ، لقد نسيت مرة حفظ المزامير المراد تسمعيها اليوم ، فلم تتحدث معها حتى وصلا الى البيت فأتت بالحجرين الصغيرين وطلبت منها أن تظل جاثمة بركبتيها عليها لثلاث ساعات أمام صورة العذراء والشمعتان المضائتان اسفلها ، ظلت ركبتيها تؤلماها لمدة أسبوع ، كان من يخفف عنها اخوها الصغير ,
يأخذها خلسة من وراء امهما ويذهبان لسينما نورماندي او روكسي ، لا تنسى أبداً أفلام احمد زكي ومرفت أمين وعادل أمام ، وبعد الفيلم يجلسان في الخفاء في الحديقة الصغيرة وسط ميدان الكوربة .....
هاجر الى كندا وتركها وحيدة لم يتبقى لها شيء منه سوى اتصالاته المتقطعة وخطاباته التى تباعدت تدريجياً ،،،،،
المحلات والفاترينات تغيرت ، كان هنا محل ملابس لا يوجد منه فروع اخرى  سوى في باريس ، أختفى وتحول لمطعم بيتزا ، عمارة طبيب الأسنان دكتور البرت اصبحت برج عملاق بداخله سوق تجاري ، يا الهى ماهذا العبث لم اعد استطيع أن احتمل ، هكذا قالت لنفسها .....
لم تكن لتأخذ نفس الطريق كلما ذهب للكنيس في قداس الأحد سوى أن تمر من أمام هذا الأستديو الخاص بالتصوير ....
تهرب من أمها وتخبرها بأن مُعلمها في مدرسة القديس يوسف طلب منها بعض المراجعات والمذكرات وكانت متوفرة عند زميلتها التي تسكن أعلى الأستديو في شارع عثمان بن عفان ، وهو يجلس على المكتب مكان أبيه الجالس دائماً في معمل تحميض الأفلام  ، تعشق تلك العيون السوداء عندما تنظر اليها من خلف الصور المعلقة في الفاترينه ، يخرج اليها مسرعاً ويمسك يديها ويخبرها انه ينتظرها على شوق منذ اخر مرة التقيا فيها ، يضع الجواب الصغير في حقيبتها ويطالبها بأن لا تتأخر المرة القادمة ثم يقول لها أحبك ....
ظلت تحبه لست سنوات وعندما تقدم اليها ليتزوجها ، رفضته الأم لانه أقل منهم في المستوى الأجتماعي ....
تقف لدقائق أمام الأستديو ثم تنصرف بنفس الدمعة المتساقطة على ذلك الجبين الذي نهش الزمن بمخالبه فيه ،،،،

تحاوطها أشعة الشمس المتسللة من بين أغصان أشجار الثرو والكافور المتراصة على جانبي الطريق ، فتعود مسرعة الى البيت كأنها تستجير به من ذكرياتها المتسلسلة .....
لا تتوقف كلمات امهما وهمهاماتها في أذنيها الى أن تصل البيت وتضيء الشمعتين أسفل صورة السيدة العذراء .....
مازال اخر خطاب أرسله أخيها من كندا لم يُفتح بعد ، مُلقى بجوار الجرامافون القديم الخاص بأبيها ، لا جديد نفس الكلمات والتوصيات وانتظريني في القريب العاجل قد أتي ,,,
هاجر وتركها وحيدة بعد ان تزوج ، لم يستطع الهجرة التي كان يتمناها والأم مازالت على قيد الحياة ،،،
 قبل عيد الفصح بأيام هاجمت الحمى والالتهاب رئوي الحاد الأم  وكانت تعاني منذ زمن من الحساسية في صدرها ، فدخلت المستشفى وماتت ليلة عيد القيامة ....
بعدها بعام هاجر هو وزوجته وطلب منها أن تهاجر معه فرفضت ، لا تستطيع أن تعيش بعيد عن الحي الذي عاشت وترعرعت فيه فقررت ان تظل وحيدة ....
قامت بتنظيف صورة أمها وصورة السيدة العذراء والعشاء الأخير ، وضعت الأسطوانة في  الجرامافون القديم وحركت المقبض وشغلته ، بدأ الصوت ضعيفاً ثم انسابت الموسيقى منه بحرية ،،،
جلست بجوار الكرسي الخاص بأمها التي كانت دائماً تجلس عليه  ، وأحست بصدرها يعصرها ويخنقها ، تتمثل أمامها صورة أمها وهي تموت كانت لا تستطيع التنفس هكذا وكان يعتصرها الألم هكذا .......
لا يوجد هواء كأنها تّصعد في السماء ، الشمعتان بدأتا في الخفوت وضوئها اللامع يتراقص على صورة السيدة العذراء ،،،،،
لا تستطيع التحرك لكنها فتحت باب شرفتها المطلة على الميدان وسمحت لهواء اكتوبر الخريفي ان يجتاح صدرها وغرفتها ، فأحست بالحياة مرة اخرى ، بكت بشدة ايمكن أن اموت هكذا !!
أمامها تلك الفساتين السوداء التى لم تلبس غيرها منذ وفاة الأم ،،،،
أخرجت من درج تسريحتها المقص وظلت تقص الفساتين السوداء فأصبحت قطعاً صغيرة من القماش الأسود ،،،
أمسكت فستاناً ووقفت في شرفتها المطلة على الميدان ، صدرها مفتوحاً لهواء اكتوبر الخريفي وشعرها الأسود المطعم ببعض الشعيرات البيضاء يتحرك مع النسمات الخريفية ،،،
قصت الفستان الأسود واصبح شرائط تتطاير الى الشارع والميدان مع رياح أكتوبر الخريفية  ,,,,,,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو 

ليست هناك تعليقات: