الأحد، 15 أبريل 2012

حكايات البيوت القديمة



تجلس بجوار حافة الشباك المطل على الشارع مباشرة ، بيت قديم ككل بيوت الشارع المصتفة على الجانبين متهالكة ومتمايلة ملتصقة ببعضها ، كل بيت يهمس للأخر بحكاياته وأسراره ...
صدّع الزمن جدرانها والقطارات التي تمر على شريط السكة الحديد الموازي للشارع ،،،
نظرت للبيت المنكس المتهاوي ، تساقط جانبه الأيسر ومازلت شرفه خشبية قائمة في الدور الثالث كانت دائمة النظر اليها منذ طفولتها ....
رأته يمر أمامها ، لا تدري كم من الزمن أختفى منذ أخر مرة التقته ، بعض الشعيرات البيضاء بدأت تغزوا شعره ، نظرات حاده طردت تلك النظرة الطفولية البريئة ، مشيه سريعة كأنه يبحث عن شيء ....
أكثر من سبعة عشر عاماً مضت ، كانت تجلس على حافة نفس الشباك تذاكر دروسها في مدرسة التجارة ، صدى صوت جدتها العمياء يتردد في اذنيها ، الدولاب القديم عليه حقائب قديمة لتخزين الملابس وملصقات قرانية تدعوا للصبر والاحتساب على الحائط ، وفي منتصفها صورة زفاف قديمة لأم وأب فُقدوا في حادث أليم ...
البيت المقابل قائماً لم يتسع الشرخ الذي ضربه ، فكان دائماً يجلس في شرفته بجوار ست الُحسن التي زرعها منذ سنتين فتدلت وانتشرت فغطت الشرفة كلها .....
هنا كانت تنقى الأرز في الصينية البيضاء الصغيرة وتتابعه وهو يلعب الكرة مع ابناء الشارع ، كل دقيقه يلتفت اليها ويبتسم ، ثم يذهب اليها لتعطيه كوب من الماء ،،،،
في ظهيرة أحد أيام شهر مارس مر عليها في مدرسة التجارة بنات وأمسكها من يديها ، ظلت تسأله الى أين سنذهب ، فلا يجيبها ، وصلا عند الكوبري القريب من مزلقان السكة الحديد ، كوخ صغير أسفل الكوبري هو بيت أبله نوال مدّرسة اللغة الانجليزية التى جُنت في عقلها بعد أن دهس القطار أبنها وطلقها زوجها وتخلى عنها أقاربها بعد أن أُصيبت في عقلها ،،
في ليلة ممطرة شديدة من ليالي الشتاء والبرق والرعد يتنازعان سطوتهما على السماء ، كانت أبله نوال تجري على الكوبري تصرخ وتبكي باحثة عن أبنها ، فلما سمعتها بكت بشدة وهي تجلس في الشباك ، فحكيت له عن بكائها ليلة المطر والسيل ، فوعدها أنه سيأخذها لأبلة نوال .....
أخرجت من حقيبتها بعض البسكويت وسندوتش واعطته لأبله نوال ، فأبتسمت السيدة وأكلت السندوتش في هدوء وسكينة ، ثم وضعت السندوتش بجوار زير الماء الصغير ، وقامت واخرجت حقيبة صغيرة من أسفل السرير ، فتحتها وقلبت فيها بعض الأوراق واخرجت بعض الصور وشهادات مدرسية ، قالت وهي تمسك الصور والشهادات : حسين أبني ، شايفين حلو أزاي ، الصورة دي وهو عنده اربع سنين ، بصي دي بقى لما دخل المدرسة ، شاطر وبيجيب الدرجات النهائية كل المدرسين بيحبوه بعد شوية هنروح نجيبه من المدرسة وهخليه يلعب معاكي ، هو بيحب يلعب مع البنات ويعاكسهم ، ثم التفتت الى البسكويت وقالت : هقوله انك انتي اشتريتيله البسكويت ده .....
ظلت تمر على أبلة نوال في الكوخ الصفيح أسفل الكوبري الى أن في مرة ذهبت اليها فوجدت سيارة أسعاف وشرطة وبعض ٍ من الناس يحاوطون الكوخ ، حاولت تخترقهم فوجدت أبله نوال تمسك طفلاً في يديها وتصرخ وتبكي وتخبرهم أن هذا حسين أبنها ، تتشبث به والطفل يرتجف من الخوف وهي تحاول تهدئته وتحضنه ، والواقفون يتفرجون يضحكون او يستهزئون ، نظرات سخرية وشفقة ودهشة ، اول لما رأتها صرخت وقالت : اهيي دي صحبته بيلعب معاها وبتزوره في مدرسته ، قوليلهم ان ده حسين ماتخلهمش يخدوووه مني ....
تقدم احد أمناء الشرطة بأمر من ضابط صغير في السن ، وشد منها الطفل بقوة ثم تقدم أثنين من العساكر وجروها على سيارة الشرطة والسيدة تصرخ وتبكي وتتساقط على الأرض ،،،
منذ ذلك اليوم لم ترى أبله نوال ولم تسمع عنها أي شيء ....
يوم الخميس بعد المدرسة يمر عليها بدراجته ، تركب خلفه ويذهب بها الى الحديقة القريبة من النيل ، قبل بداية الأمتحانات في اخر العام كان يوم الخميس الاول من شهر مايو بعد شم النسيم ، بجوار الشجرة التي يجلسان بجوارها ، أحساس ذلك اليوم لم يفارقها الى الان ، أغمضت عينيها ، ثم مسك يديها وضمهما بقوة ، واقترب من شفتيها التي شققتها حرارة الشمس ورياح الخماسين ، فأمتزجت أنفاسه اللاهثه المضطربة مع أنفاسها الحارة ، فقبلها في خجل ثم انتفض واقفاً ، وهي لم تفتح عينيها ، تمشيا سوياً ولم ينطقا بكلمة ، ظل وجهها مورداً كأنها اصابتها ضربة الشمس والحمى وهو لم ينم ليومين ......
تمر القطارات على شريط السكة الحديد الموازي للشارع ، فيزيد الشرخ في البيت القديم رويداً رويداً ،،،
تخرجت من مدرسة التجارة ، وهو مازال يدرس في كلية الحقوق ، كل خميس يتقابلا عند المزلقان ويذهبا الى الحديقة المطلة على النيل ،،،،
تمر القطارات دائما دون كلل او ملل ويزيد الشرخ في البيت القديم ، وفي أحدى ليالي يناير يتساقط الجزء الأيسر من البيت ، فيتم أخلاء السكان ....
بعد نهاية العام الدراسي سيعود مع اهله الى بلدتهم الصغيرة في الشرقية ، أبيه يمتلك بيت صغير هناك سيعيشون فيه ، أخبرها أنه سيجيء دائماً ليسأل عنها ويراها ويتزوجها ,,,,,

لم يلتفت اليها وهو يمشي سريعاً ، نظرة الى شرفة منزله القديم للحظات واستكمل سيره ووقف يسأل البقال عن شيء ما ....
أغلقت الشباك في هدوء بعد أن سمعت طفلتها الصغيرة تبكي وتناديها  ,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لمونيه 

ليست هناك تعليقات: