الجمعة، 27 أبريل 2012

قهوة المساء



ازاحت الستائر وفتحت شرفتها ، كانت الشمس تقترب من المغيب والشفق الأحمر  يحاوط الشمس يداعبها ويغازلها  ، نظرت الى أصص الورد ونبتة الصبار الصغيرة واللبلاب المتسلق ، ثم أمسكت كوب الماء النحاسي وسقتها جميعا ، كانت الشمس تنعكس على الكوب النحاسي فيلمع في عينيها ويتحول للبرونز ،،،
تجلس السيدة الأرملة العجوز في شرفتها القديمة تلف شالها الأسود حول صدرها تضع على الطاولة الصغيرة موقد صغير وعليه كنكة القهوة الصغيرة وصينية نحاسية عليها فنجان وحيد ، بجوارها قطتها الرومي باسطة ذراعيها بالوصيد في كسل ونوم عميق ....
أقتربت منها تلك الطائرة الورقية ، تتدلى منها خيوط على جميع الألوان ، الفتى الصغير الذي يطيرها في الشارع يسعى جاهدا كي يجعلها تحلق عالياً  اعلى من جميع البيوت ، تسقط منه ثم يعاود من جديد ، ترك بقية الصبية يلعبون الكرة وهو يطّير طيارته الورقية الملونة ....
وقفت تنظر من شرفتها تلبس فستانها الأسود تنتظر عودة زوجها في نفس الميعاد من كل يوم ، يخترق الصبية وهم يلعبون الكرة وربما تصتدم به الكرة فيركلها لهم ويضحك معهم ، ينظر بعين المراقب للطائرة الورقية التي تحلق عاليا ثم يبتسم تلك الابتسامة اليومية لزوجته التي تنتظر في الشرفة ....
يخطو بقدميه عتبة باب البيت فتكون هي أغلقت باب شرفتها واسدلت الستائر مرة أخرى ، فتذهب تنتظره على الباب ...
بعد الغداء يجلسان أمام التلفزيون يحتسيان سويا قهوة المساء ، تحنى رأسها على كتفه فيداعبها ويمرر أصبعه بين خصلات شعرها السوداء ...
تضع أسطوانة أهواك لعبد الحليم في الجرامافون الذي اشتراه لها من أحدى محلات التحف في وسط البلد ، تظبط ذراع الجرامافون على الأسطوانة ثم تنساب منها الموسيقى ...
تقف أمام المرآه ، تنظر الى فستانها الأسود ، تسأل نفسها في المرآه لما انا بهذا الفستان ؟؟
تذهب الى غرفتها وتفتح دولابها ثم تنظر في حيرة أي الملابس تختار ؟ تُخرج القميص الأبيض لا يعجبها ، اذا القميص السماوي ؟ لا لا أنه لا يحب هذا اللون ، ثم تثبت يدها على القميص الوردي ! انه يحب هذا القميص لقد أشتراه لي في عيد ميلادي الشهر الماضي .. هكذا كانت تُحدث نفسها ....
ارتدت القميص الوردي ووقفت أمام مرآة دولابها منتشية بجمالها ، تصفف شعرها وتضع العطر المفضل لدى زوجها ، ثم انزلت قليلاً القميص من عند كتفيها حتى تُظهر جمال صدرها ....
مازالت الأسطوانة تنساب منها أنغام عبد الحليم , خرجت الى زوجها وجدته ممدداً على الأريكة يقرأ في الجريدة ....
تجلس بجواره على الأريكة تمسك يده وتأخذ منه الجريدة وتلقها ، تسأله وهي تضم يده في يدها بقوة : الى أين سنخرج اليوم ، لقد وعدتني منذ أيام بأنك سوف تعزمني على العشاء في المطعم الذي نتعشى فيه دوماً ؟؟
لا يأتيها منه رد سوى أرتفاع صوت الجرامافون بأنغام أهواك لعبد الحليم ....
تضع يدها على صدره وتهمس له : لماذا لا ترد علي ، أتريد ان تستريح قليلاً ؟؟
يبتسم لها ويضم يدها بين يديه ....
يضع يدها جانباً من على صدره ثم يقف ويذهب في هدوء الى غرفة النوم ....
يرتمي على السرير الكبير المواجه للتسريحة ، فتجلس أمامها تساوي من شعرها ، وتضع أحمر الشفاه ، تنظر له في المرآة فتجده ينظر لها مبتسماً ....
تنظر خلفها كي تذهب اليه وترتمي في أحضانه ، فلا تجده !!!
السرير كما هو مُرتب ، تفزع من جديد ، تخرج لاهثة من غرفتها تصرخ وتنادي عليه ، تحادثه باكية : لا تتركني مرة أخرى أين انت ؟ لا تذهب عني ... لما تتركني كل مرة هكذا ؟؟
الجرامافون لم يتوقف مازالت اهواك تنساب منه ...
فنجان قهوته المسائية  كما هو لم ينقص منه رشفة ، الجريدة بتاريخها القديم الذي يعود الى شهر مضى ملقاة على الأريكة ، تنظر في الجريدة فتنساب دموعها عليها ، نعى وفاة زوجها كما هو من شهر مضى ....
تُطلق صرخة قوية ثم تغيب عن الوعي ....
تُفتح عينيها ببطء ، رأسها مثقل ، فتجد الطبيب وأختها بجوارها ، يخبراها لو تكرر ذلك الأمر سوف تذهبين للمستشفى او لا تجلسين وحيدة .....
بفستانها الأسود ازاحت الستائر عن باب شرفتها ، كانت الشمس قد قاربت على المغيب ، يومٌ أخر من ايام اكتوبر الحزينة ، سقت نبتة الصبار الصغيرة بالكوب النحاسي وأصص الورد واللبلاب المتسلق ، كانت بعض سحب اكتوبر تداري الشمس قليلاً فلم تنعكس على الكوب النحاسي ...
السيدة الأرملة العجوز في الشرفة المقابلة تداعب قطتها الرومي وتأكلها بعض الجبن تنتظر أن تفور قهوتها المسائية على الموقد الصغير ، نظرت اليها  ثم أبتسمت لها أبتسامة حانية ورقيقة....
الطائرة الورقية تحلق عالياً الى أن انفلتت من يد الصبي الصغير فأخذتها رياح أكتوبر بعيداً بعيداً خلف العمارات العالية ,,,,,,,,,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبابلو بيكاسو

ليست هناك تعليقات: