الأحد، 22 أبريل 2012

ايزيس


نزع يدها عن صدره ببطء وهدوء ، فتحركت لكنها في نوم عميق ، كان شعرها يغطي عينيها ووجهها ، ارتدى ملابسه ثم وقف أمام النافذة ناظراً للبحر ، مسك زجاجة المياه الملقاه بجوار السرير وشرب منها القليل ، ثم غادر البيت .....
تّمشي على شاطيء البحر ، قميصه الأبيض كان يتطاير بسبب الرياح الخريفية الباردة ، والطيور المهاجرة تحلق فوق البحر وحول الصخور تراقب الأسماك الصغيرة واصواتها تمتزج مع صوت الامواج المتلاطمة فيسيطران على الدنيا ....
ظل يتمشى بمحاذاة الشاطيء ترتطم الأمواج بقدميه ، لا يدري أين يذهب ؟ يبحث عن ذلك الشيء القديم الذي يؤرق قلبه منذ خمسة عشر عاماً ، منذ أن كان فتى يدرس في الثانوية ....
توقف أمام ذلك البيت القديم المطل على الكورنيش ، تلك الشرفة المغلقة التي بهت لونها بفعل الزمن ورياح البحر المالحة التي لا تتوقف أبداً ....
ميس ايزيس تلك السيدة القادمة من الأساطير الفرعونية والأغريقية وكل الحضارات القديمة ، مُعلمة التاريخ القديم بالمدرسة الثانوية ....
كأنه يراها تقف في شرفتها صباح كل يوم تحتسي القهوة قبل ميعاد المدرسة بقميصها الفضفاض وشعرها الكستنائي الأحمر الذي يحتل بعنفوانه نصف الكون ، والنصف الأخر يسيطر عليه عطرها الدائم ....
نهديها الذي يكاد ينفجر فرحاً أو غضباً كبركان في كل من يقع عينيه عليه ، عينان تنافسان كبرياء الشروق وخجل الغروب ....
كل صباح كان يقف خلف المركب المتهالك على الشاطيء ينتظر ظهورها المتألق في شرفتها يراقبها في صمت وهي تتناول القهوة وتقرأ الجريدة ، ثم ينتظر خروجها ويتابع خطوتها متمشياً ورائها الى المدرسة .....
توفى زوجها الطبيب بأزمة قلبية اثناء عمله في المستشفى الأميري ، بعد ترملها عادت لتلك الشقة القديمة لتعيش مع أمها والخادمة ، أمها أيضا ترملت صغيرة لكنها وهبت حياتها لتربية طفلتها ......
عندما تطأ قدميها أرض المدرسة تتابعها تلك العيون الشهوانية من صبية ومدرسين ، أما المُدرسات فكن يغرن منها ويضمرن لها الحسد والكراهية الا صديقة لها او اثنتين ، كثيراً ما يتشاجرن معها ويوقعنها في المشاكل ....
يمسك قلمه الرصاص ويرسمها فهو ينفصل عن الكون عندما يكون أمامها في الفصل الدراسي ، تعلم الرسم وفن البورتريه من أجلها ، يعود الى البيت ويرسمها مرة أخرى ، رسم لها صورة زيتية عارية بالألوان يتجلى فيها جمال ذلك الجسد المسحور ، فبعد أن رسمها واستخدم كل الحيل كي يخفيها عن أهله ، غطاها بالقماش ووضعها خلف الدولاب ومازال يحتفظ بها في المرسم الخاص .....
في ذلك اليوم الشتوي الممطر مر من أمام بيتها وجد سيارة أجرة تحمل حقائب وأمتعة فجلس خلف المركب المتهالك يراقب ، فإذا هي تركب السيارة وأمها والخادمة يودعانها بالبكاء ، علم بعد ذلك أنها سافرت بعثة سنتين الى نابولي في ايطاليا لعمل الماجستير في التاريخ ...
ظل أسبوع محموماً لا يتكلم محدقاً بعينيه في سقف غرفته حتى ظنت أمه انه لا نجاة له .....
تخرج من مدرسته الثانوية والتحق بكلية الفنون الجميلة ، طوال سنوات دراسته لم يكن ليرسم امراة غيرها  او ينحت تماثيلاً  ألا وفيها جزء منها ، كان كالناسك المتصوف في محراب أسطورته ايزيس ....
يجلس أمام البحر على نفس المركب المتهالك يمسك فرشاته وأمامه لوحته وحامل الرسم ، يجد الشرفة القديمة مفتوحة مُسدل عليها الستائر البيضاء ، يخفق قلبه بشدة قد تكون عادت او ينظفون غرفتها استعداداً لعودتها لا يدري لكنه سينتظر !!!
لم تخرج قط الى شرفتها كما اعتادت في الصباح ، كل يوم يقف ينتظرها منذ شروق الشمس  ، ذهب الى بواب العمارة فوجد طفلته الصغيرة فاشترى لها بعض الحلوى وسألها عن ميس ايزيس أعادت من السفر أم لا ؟؟
فأخبرته الطفلة أنها عادت منذ أيام لكنها مريضة جدا والطبيب يزورها بأستمرار !!
حاول يسأل الطفلة عن مرضها فلم تجبه ....
كل يوم يقف ينتظرها في الصباح مازالت شرفتها خاوية على عروشها ، الستائر المسدولة تحركها الريح بقوة وهو مازال ينتظر ....
توقفت فجأة سيارة أسعاف أمام البيت ، فأنتفض واهتز قلبه بشده ، ثم نعق ذلك الغراب على شجرة الثرو البعيدة ...
لم يراها بوضوح ادخلتها أمها سيارة الأسعاف وجلس بجوارها الطبيب وانطلقت مسرعة ...
أوقف تاكسي وانطلق خلف سيارة الأسعاف الى المستشفى ....
عندما وصل اتجه مسرعاً الى مكتب الأستقبال ليستعلم عنها فأخبروه أنها في قسم الطواريء في الدور الثاني ....
وصل الى غرفتها فوجد أمها فأخبرها انه زميل لها كان يدرس معها في نابولي ، أخبرته أنها تعاني من سرطان الدم ، وراثه من أبيها !!
سأل الطبيب عن حالتها أخبره أن حالتها متأخرة وتحتاج الى نقل دم في الحال !!
طلب من الطبيب أن يطابق فصيلة دمه بدمها فوجدوا أن فصيلة دمها نادرة ...
قال في نفسه وهو يبكي هكذا هي نادرة ومتفردة في كل شيء .....
طلب من الطبيب أن يراها فقال له لا يمكن الان الا من بعيد فقط ، فوقف يتأملها خلف زجاج الغرفة وهي محاطه بالمحاليل واجهزة الانعاش ، شعرها الكستنائي مازال محتفظ بعنفوانه رغم المرض ، ينزل على عينيها المغمضتين ، بشرتها البيضاء الساحرة أصابها الشحوب ،،،
قال : يا الهي أيمكن لمرض لعين أن يجتاح ذلك الملاك ، مالم يقدر عليه بشر يفعله ذلك المرض ، أيمكن أن يحرم الكون منها ، ايكون هذا عدل ، أنها مازالت صغيرة لم تتعدى الثانية والثلاثون عاماً ، ثم جلس على الأرض فأخذته سِنةٌ من النوم .....
أخذها بين ذراعيه ووضعها رأسها على صدره أحس بعطرها يأخذه لأعماق الجنان ، يلمس شعرها ويمر بأصبعه بين خصلات الشعر الكستنائي الساحر فيقترب من شفتيها منبع العشق السرمدي اللامتناهي فيقبلها ويهمس اليها لا تخافي !!!
فجأة يصحو من نومه وهو يردد لا تخافي ، صوت نحيب الأم وبكائها تصرخ بقوة وهي تقول للخادمة ماتت ايزيس ....
احتضن الأم وخرج من المستشفى مسرعاً كالمجنون ، انتابته تلك الفكرة التي كانت تنتاب فنانين عصر النهضة عندما يصابهم الجنون حينما يموت عزيزٌ عليهم ، كان يريد أن يصنع لها قناع الموت كي يخلدها ويصنع لها تمثال على أخر هيئة لها قبل أن تموت !!!
ظل رهين مرسمه الخاص لأيام امتدت لأسابيع لا يخرج ولا يتكلم مع أحد ، يرسم بورتريهات وينحت تماثيل لأسطورته التي عشقها ولم تراه أو يكلمها يوماً ,,,,
أحس بقشعريرة تنتاب صدره لقد تسللت اليه رياح البحر الخريفية الباردة ، والطيور المهاجرة تحلق فوق الصخور والأمواج تنتظر أن تنقض على الأسماك الصغيرة , نظر مرة أخرى للشرفة القديمة  المغلقة التي بهت لونها بفعل الزمن ورياح البحر المالحة التي لا تتوقف أبداً ....
عاد الى غرفته الصغيرة ، كانت عشيقته مازالت نائمة في سريرها يغطي نصف جسدها ذلك الغطاء الوردي ، جلس بجوارها ، فأستيقظت ....
لفت ذراعيها حول خصره ثم قبلته على صدره وقالت : أتحبني ؟؟
ظل صامتاً ......
نفس السؤال يتردد عليه مع كل فتاة تحبه وتعشقه فيظل صامتاً ، ينتظر أن يجيب على هذا السؤال من أمراة أحبها ولم ولن تسأله هذا السؤال ابداً,,,,,,,,,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لسلفادور دالي 

هناك 4 تعليقات:

الكاذب يقول...

رائعة جدآ جدآ
هذه اسطورة عشق متفرد كأنغام سحرية
احييك بقوة

Unknown يقول...

الف شكر لحضرتك على تعليقك ومرورك الكريم ,,,,

eman said يقول...

رااااااائعة يا رامى .. موهبتك من دهب .. وعاوزة شوية ثقل بسيطة ....وبالمناسبة فيه مفجأة حلوة عشانك هعلن عنها قريب باذن الله فى جروب الدار ..
تحياتى

Unknown يقول...

ربنا يخليكي يا ايمان والله ان كان فيه تطور في الكتابه او ثقل فده بعد ربنا ومتابعتك دايما ونقدك وتوجيهك ...
في انتظار المفاجاة ان شاء الله ...