الأربعاء، 19 مايو 2010

ليس اليوم وربما غداً

قد تصبح الوحدة والألم دافع للسخط والقسوة علي الاخرين وربما يأتي اليوم الذي لا تستطيع فيه ان تستعيد ماضاع منها من ايام لتعيشها وتستمتع فيها بالود والرحمه ....
أيقظت خادمتها التي كانت لا تزال نائمه في المطبخ علي فرشتها البسيطة ، كانت عصبية المزاج كالمعتاد وزادت عصبيتها عندما تأخرت الخادمة في نومها  فهو يُعتبر أهمال جسيم من وجهة نظرها ....
كانت الخادمه تُقيم معها منذ سنين طويله من قبل وفاة الوالد والوالدة  ، فكانت تعتبرها من ارث عائلتها ومن ارث الماضي ...
أما هي فكانت وحيدة أبيها وأمها لذا نشأت عنيدة من كثرة تدليل والدها لها ، لم تتزوج  في حياة أبيها بسبب طبعها العنيف واندفاعها امام كل من يتقدمون لها من خُطاب ، وبعد موت أبوها وأمها وتاخرها في سن الزواج قررت ان لا تتزوج وتعيش هي والخادمه يؤنسان بعضهما ....
البيت كبير يُعتبر من البيوت القديمه ذات الاسقف العالية التي تتميز به اغلب بيوت مصر الجديدة ، باب البيت مميز بالضلفتين العتيقتين  والصاله الكبيرة المنقسمة لجزئين جزء للصالون المكون من صالون قديم من المذهب البلجيكي ، يحاوطه علي الجدران المرايا البلجيكيه المزينه بزخارف وتماثيل صغيرة لفتيات عاريات،،،
والجزء الثاني من الصاله به السفرة الصغيرة من الخشب الابانوس ، قوائمها علي شكل فتيان من الرومان يحملون الطاوله بأيديهم ،،،،،
بجوار السفرة كرسين كبيرين من الجلد القديم ....
في مقابلهما علي الحائط صورة قديمه بالابيض والاسود لزفاف الاب والام ، وعلي الجانب الاخر صورة كبيرة للسيدة العذراء بالوشاح الازرق ، وبجوارها صورة اخري للسيد المسيح وهو علي صليبه  وبينهما طاوله صغيرة عليها شمعدان جفت شموعه وتيبست منذ سنين .....
كانت تغلق دائما غرفة المكتب الخاصه بأبيها الا في اوقات معينه كانت تدخلها وتجلس فيها وحيدة وتغلق علي نفسها الباب ، كان بها مكتب كبير ، خلفه مكتبه تحتوي علي كتب عدة في القانون حيث كان الوالد محامي مشهور بين الجالية الارمنية في مصر الجديدة ، المكتب مفروش بالسجاد الايراني العتيق ، يوجد علي يمين المكتب جرامافون وبجواره بعض الاسطوانات لمطربين اتراك وفرنسين عفا عليهم الزمن ، شيش البلكونه الطويل لم يُفتح تقريبا منذ وفاة الوالد من سنين عديدة ، تحاوطه ستائر سويسرية رائحة التراب تنبعث منها ، والتراب نفسه طغى علي لونها الاصلي ....
أما الغرفة الاخري فأستخدمتها لتخزين الاشياء الغير مفيدة لها ، غرفة نومها بها سرير كبير ودولاب ايطالي عتيق بعرض الحائط الغربي للغرفه وتسريحة بمرأه بلجيكيه كبيرة ملتصقه بالحائط  ، يزين الغرفة نجفة تشيكي كبيرة ...
أيقظت خادمتها بتشنج وعصبية وطلبت منها ان تذهب وتسأل علي بائع الجرائد وموزع الجريدة الخاصة بالجالية الارمنية التي كانت تصدر باللغة اللاتينيه الارمنية فكان يتم توزيعها صباح كل ثلاثاء واليوم تأخر الصبي الذي كان يوزعها ....
كانت معتاده ان تشرب التيليو مع الجرائد  في الفراندة الكبيرة المطلة علي كنيسة المارون البازليك التي تتوسط ميدان الكوربه وتأتيها الخادمه بفطورها .....
وميعاد الغداء لا يتخطى الرابعة بأي حال من الاحوال ،،،،،،
علاقاتها بجيرانها محدودة جدا وكانت تكره الاختلاط ، كانت نادرا ماتتكلم مع جيرانها المتزوجين منذ فترة قليلة حيث ورث الشاب الصغير الشقه عن أبيه فتزوج فيها ، وكان عنده طفلة صغيرة عندها خمس سنوات ، وفي مرة الطفلة فتحت الباب فخرجت قطتها الصغيرة وكانت الخادمه في شقة العجوز تُخرج القمامه فدخلت القطة الى البيت ...
فأثار هذا غضب العجوز وطلبت من الخادمه ان تلقي بالقطه خارج البيت وصرخت في وجه الطفلة وأغلقت الباب ،،،،
كان هذا سلوكها دائما مع الجيران او كل من يحاول التقرب منها ....
اعتادت الخروج يوم الأحد في الصباح اذا كان الجو شتائاً ، وقبل المغرب لو كان الجو صيفاً ،،،،،

كان الوقت شتائا وقد اخذت خادمتها لكي تتمشى قليلاً في شوارع مصر الجديدة وكانت تتسائل مع نفسها بصوت عالي وليس مع الخادمه ، عندما ترى اختفاء احد القصور وظهور بدلاً منه برج في بداية بنائه او اختفاء محل ملابس قديم كانت تشتري منه فساتينها  وهي صغيرة او ظهور محلات ومطاعم جديدة بطراز حديث غير معتادة عليه ،،،،،
مرت بجوار الكنيسة فرأتها احدى الراهبات التي كانت تعرفها في الماضي ، فذهبت اليها الراهبة في زيها الابيض وخمارها الأسود والصليب الخشبي الكبير متدلى علي صدرها ، فابتسمت اليها وسلمت عليها ، فردت العجوز السلام في فتور....
فقالت لها الراهبة : لماذا لم نراكي في الكنيسه منذ زمن ؟ ومر وقت طويل ولم تعترفي !!
فردت عليها  في تململ : ليس عندي ما اعترف به واشاحت بوجهها عنها وانصرفت ،،،،
فأبتسمت الراهبة واكملت سيرها .....
بعد ايام قليلة وقبل اعياد الميلاد استيقظت الخادمه متأخراً واندهشت عندما وجدت سيدتها لم تستيقظ بعد ، فذهبت الي غرفتها فوجدتها مازالت نائمه فانتظرت قليلا كي تصحو لكنها تاخرت اكثر من المعتاد ، فأخذت توقظها فوجدت انفاسها متقطعه وغارقه في عرق شديد ففزعت الخادمه ولم تدري ماذا تفعل ....
فذهبت الي الجيران في الشقة المقابله فقالت للزوجه الشابه  ان سيدتها تعاني ازمة صحية شديدة وهي لوحدها لا تدري ماذا تفعل معها ، فقام زوج السيده الشابه بالاتصال بالطبيب فجاء علي الفور ودخلوا اليها واسعفوها في الحال ، كانت ازمة صحية شديدة وصلت للموت ،،،،،
فاقت منها فوجدت الخادمه وجارتها الشابه وطفلتها في غرفتها فأحست بالريبه ، فأبتسمت السيدة الشابه وقالت لها حمد لله علي السلامة يا سيدتي ،،،،،
جائت بصينية الاكل وجلست السيدة الشابه بجوارها وطلبت من الخادمه ان تؤكلها وبعدها بقليل جاء الزوج بالادوية المطلوبه ،،،،
احست العجوز لأول مرة بدفىء المشاعر والود الاسري وكان احساس جميل وبديع بالنسبالها  ودت لو كانت تعرفه منذ زمن بعيد ، وليس من اليوم ،،،،
سألت الطفلة التي كانت ممسكة بقطتها البيضاء ما أسمك ؟
فقالت الطفلة : أسمي خديجة ،،،،
ظلت الاسرة الصغيرة معها تطمئن عليها كل حين حتي استعادة بعض عافيتها ، وكانت العجوز في شوق دائما ان يبقوا معها ....
اليوم هو ليلة عيد الميلاد وقد بدأت السماء تمطر قليلاً ، طلبت من الخادمه ان تجهز لها فستان جديد من دولابها لم تلبسه بعد ، واعطت الخادمه ايضاً فستانا جديداً وطلبت منها ان تسندها وتذهب بها الي الكنيسه ....
كانت جوقة الاطفال تغني ترانيم ليلة الميلاد جلست تستمع اليها ، ورأت الراهبة التي كانت تعرفها فأبتسمت لها وقالت جئت اليوم لاعترف .....
بعد ان اعترفت غادرت الكنيسه وعادت الي البيت ،،،،

أول مادخلت طلبت من الخادمه ان تأتيها بشمع جديد ،،،،،
فوقفت امام صورتي السيدة العذراء والسيد المسيح واشعلت الشموع في الشمعدان الذي يتوسط الصورتين ، انعكس ضوء الشمعدان علي صورة السيدة العذراء

وعلى وجهها ، ونظرت لوجهها النعكس على زجاج صورة السيدة العذراء وابتسمت  ،،،،،،
دخلت غرفة المكتب الخاصه بأبيها وقامت بتشغيل الجرامافون فانبعثت منه موسيقي جميله وهادئه رغم خروشة الجرامافون وقدم الاسطوانه  ، وجلست علي الكرسي الموضوع علي يمين المكتب،،،،،،
بدأت الدموع تنزل علي وجنتيها المتجعدتين ،،،،،،
وذهبت في سُباتها الاخير ،،،،،،،،

ومازالت الموسيقي تنبعث من الجرامافون العتيق ،،،،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبيكاسو

ليست هناك تعليقات: