الأحد، 13 يونيو 2010

الزائر

المشهد الأول

خرج الشاب مسرعاً من بيته الكبير الفخم ، ممسكاً بحقيبة متوسطة الحجم ، كان الوقت قد قارب علي منتصف الليل ،  يضحك ضحكات هيستيريه ويحدث نفسه بكلام غير مفهوم ، اخرج سيارته ذات الطراز القديم من الجراج الملاصق للبيت الكبير وانطلق ......
البيت وسط الاراضي الزراعيه والغيطان ويبعد عنه بثلاثة اميال شريط السكك الحديديه ، والمطر غزير هذه الليله فقد كانت ليلة شتوية قاسيه يتخللها وميض البرق وهزيم الرعد القاسي ....
كان يقود سيارته بسرعه كبيرة الي ان ضل طريقه بعيداً عن الطريق العموميه ، وفجأة توقفت وتعطلت السيارة وغرزت بشدة في الطين ، حاول ان يعيد دورانها لكنه فشل ، حاول مرة اخري والسيارة تزمجر معلنة العصيان التام ،،،،،،
ضحك مرة اخرى ومسك حقيبته وخرج من السيارة ونظر حوله فما وجد الا ظلام دامس ومطر غزير .....
كان نحيل الجسم في بداية العقد الرابع من عمره ، ظاهرة عليه علامات الثراء والطبقة الاروستقراطية ، ابيض البشرة ذو نظره طفوليه ...
لم يبالي بالوحل الذي كان يمشي فيه ولا المطر الشديد فظل يمشي مخترق الارض الزراعية ، الي ان ظهر في الافق البعيد وسط الضباب ضوء خافت ضئيل ونباح كلب يقترب منه ،،،،،
كان عبارة عن بيت صغير وسط الغيطان ، اخذ يقترب منه ويجري اليه رغم الاعياء الشديد الذي ظهر عليه ، وكلما اقترب بدأت تظهر معالم البيت ، بيت صغير من دورين مبني بالطوب الاحمر ، علي بابه مصباح كهربائي صغير ، مغلق الشبابيك ويتسلل من خلفها بعض الضوء الخافت الضعيف ،،،،
وصل اليه متقطع الانفاس لا يكاد يقوى علي الوقوف والكلب بجواره ينبح بشده لكن بدون ان يهاجمه ،،،،،

المشهد الثاني

 اخذ يطرق علي الباب ، فتحت له سيدة قوية الملامح وصارمه ، يزيد سنها عن الخمسين بخمسة اعوام ، ممتلئة الجسم ومتوسطة الطول لكن ظاهر عليها علامات الفقر المدقع ،،،،،
نظرت له بريبه واحتقار في آن واحد وسألته ماذا يريد وهي تفتح الباب في حذر نصف فتحه ،،،،،،
فأخبرها انه ضل الطريق ومُتعب جداً لانه مشى مسافة طويله ...
فقالت : وماذا تريديني ان افعل لك ؟
فرد عليها في اعياء وهو يبتسم : ابقي عندكم للصباح وسأعطيكم كل ماتريدون من مال !!
دهشت ولمعت عينيها عندما سمعته يتكلم عن المال ، ففتحت الباب واخبرته انه يستطيع الدخول ،،،،،،،،
البيت مكون من أساس بسيط ، طبلية صغيرة مركونه بجوار اريكه من النوع الرخيص والارض مفروشه بأكثر من حصيرة بشكل غير متناسق ، وجهاز تلفزيون قديم علي طاولة صغيرة ،،،،،،،
وغرفتين في الواجهه وحمام صغير ومطبخ يصدر منه ضجيج وابور جاز مازال مشتعلاً ،،،،
كان يجلس ويراقبه هذا الرجل العاجز المشلول علي كرسيه المتحرك ، يلبس جلباباً رثاً وقديماً يستطيع فقط ان يحرك ذراعه اليمني ويتكلم ببطء كلمات متقطعه ، نظر للزائر نظرة عطف لكنه لم يتكلم مطلقاً ،،،،
أما في المطبخ فكانت تقف فتاة ظاهر عليها التوتر والقلق دائماً ، غير جميله علي الأطلاق ، سنها قارب علي منتصف الثلاثينيات ، لم تكن تبالي بالزائر الغريب ولا مهتمه به كأن فيه ما يشغلها ،،،،
دخل الزائر ونظر الي ماحوله واحس بالاشمئزاز والعطف في نفس الوقت ، نظرت له السيدة العجوز وبادرته بالقول في صوت هاديء : كم ستدفع نظير اقامتك عندنا للصباح ؟
فضحك الزائر بعد ان استراح علي الأريكه وقال لها : كما تشائين يا سيدتي فأنا معي نقود كثيرة كثيرة هاهاهاها
دهشت العجوز وقالت ستدفع مائة جنيهاً وسوف تعطيني الأن نصفها وفي الصباح قبل ان تغادر تعطيني النصف الثاني ،،،،،
قال لها : ولما مائة جنيه فقط ؟؟  سأعطيكي مائتين هاهاهاهاها
احست بالريبه والشك وقالت له : احب ان اعلمك انك لو حاولت خداعنا سوف تلقي مالا تحب ، أياك تظن انني وحيدة انا وابنتي وهذا العاجز المشلول ، زوجي رجلٌ قوي وسيأتي بعد قليل ،،،،
ابتسم الزائر وخفف من ضحكه ووضع حقيبته علي الاريكه وفتحها فأذا بها نقود كثيرة فقال لها : ألا ترين كل هذة النقود ، كيف اخدعك اذٍ انني استطيع ان اشتري منكم هذا البيت الخرب حالاً واستطيع ان اعالج هذا العاجز المسكين هاهاهاهاهاها ،،،،
في هذه اللحظه خرجت الفتاة القبيحه من المطبخ ونظرت الي الحقيبه المليئه بالنقود ونظرت لأمها وقالت : من هذا وما هذه النقود ؟
فردت الأم وهي علي هدوئها الصارم : انه عابر سبيل وهذه نقوده وسيبقي معنا الي الصباح حتي يتوقف المطر ، اذهبي واصنعي كوب شاي للزائر قد يحس بالبروده الان وملابسه ايضاً مبتله ،،،،،
رجعت الفتاة الي المطبخ وهي تردد كلمات غير مفهومه .....
نظر الشيخ العاجز الي السيدة العجوز وابتسم وهز رأسه وحرك الكرسي ناحية الشباك موجها نظره بعيداً عنها ،،،،،
اغلق الشاب حقيبة النقود ونظر للسيدة وقال لها :الا استطيع ان ادخل انام ؟
قالت وهي تمسك بكرة الصوف التي كانت بجوارها وابرة الحياكه : انتظر حتي يأتي زوجي انه لن يتأخر ،،،،،
جائت الفتاة بالشاي ووضعته بعصبية علي الطاولة حتي كاد ان ينكب وقالت للزائر : اشرب !!
ضحك الشاب وقال لها : شكرا لكِ ، لم يكن هناك داعي لتعبك هذا ...
لم ترد عليه الفتاة لكنه بادرها بالسؤال : انتي متزوجه أم لا ؟ واضح انك غير متزوجه مادمتِ مقيمه مع امك وابيكي في هذا البيت الحقير اعتقد انها مشكلة مال او من هذا المجنون الذي سيأتي ال هنا كي يراكي من الاصل هاهاهاهاها ،،،،،
فوقفت الفتاة وقالت في غيظ : ومالك انت بزواجي وغير زواجي ارجو ان تبيت ليلتك عندنا في هدوء الا وقد يحدث مالا يحمد عقباه ،،،،،
فنظرت السيدة العجوز للفتاه وقالت في نفس هدوئها : اهدئي يا ابنتي وترفقي بالزائر انه ضيفنا ،،،،
ونظرت للزائر وقالت : ان زوجها خرج يوماً ولم يعد منذ شهور ولم نعلم شيء عنه من وقتها  !!
ارجو منك ان تشرب الشاي وتذهب الي هذه الغرفه كي تستريح ها ،،،،
ضحك الشاب وقال : اعذريني يا سيدتي فأنا لا استطيع التجمل في الحديث ، وهذه مشكلتي دائماً ، ابي يقول عني انني ضعيف ومجنون وامي تقول لي انني فاشل ، قلت مرة لأبي انك ظالم في معاملتك مع الفلاحين في ارضنا فضربني بالكرباج وحبسني هاهاهاهاهاهاها ،،،،،،،،
اليوم اثبت له انني غير ضعيف وفي نفس الوقت اكدت  لأمي فشلي ،،،،
عذرا يا سيدتي وعذرا يا مدام الرجل الذي خرج ولم يعد لا تغضبا مني  ،،،،
سأذهب الان لانام وعندما يأتي زوجك يا سيدتي لا تزعجيني وبلغيه تحياتي هاهاهاهاها ،،،،،
وذهب الي الغرفة التي اشارت له عليها وهو مازال يضحك .....

المشهد الثالث

صوت نباح الكلب مرة اخري،،،،
جاء الزوج بعد ان دخل الزائر الي الغرفه كي ينام بحوالي ساعة ، كان يلبس معطفاً قديماً ومتسخاً ومبللاُ بفعل المطر ، رجل قوى البنية قارب علي الستين من عمره يعمل في كشك التحويله الخاص بالسكك الحديديه والتي تبعد عن بيته بضعة اميال قليله ،  دائما مايضيع نقوده علي الخمر والمخدرات وهذا من اسباب شجاره الدائم مع زوجته ، لكنه ضعيف الشخصية امامها لا يقدر دائما على سطوتها وقوتها ولا يستطيع ان يرفض لها طلباً ، الا ضعفه امام الخمر والمخدرات ....
القى السلام علي زوجته وعلي اخيه العاجز ، فرفع الشيخ العاجز رأسه راداً التحية ورجع الي تأملاته واستغراقه ،،،،
قالت له الزوجة : مواعيد عملك المسائية انتهت منذ ساعات بالتاكيد ذهبت الي نفس المكان الذي تسكر فيه ؟
لكني لم احاسبك الليله لانه يوجد ماهو اهم ....
نظر لها باهتمام وقال وماهو هذا الأهم وماذا يمكن ان يحدث  لحياتنا شيء مهم غير مرور الدائنين في صباح كل يوم ،،،،،
نظرت له بأستخفاف وحكيت له قصة الزائر المجنون ، وبعد ان انتهت قالت له في هدوء وهي تستكمل حياكة الصوف : هل سنتركه يرحل بحقيبة نقوده ؟
قال لها بصوت خافت : وماذا تريدني ان افعل الا يكفي انه سيدفع لنا مائتين جنيه ؟
قالت في تململ : ألا تفهم انني اقول لك أنه مجنون !! ماذا سيفعل بكل هذه النقود ولا نعلم له اسرة ولا بيت ولم يراه احد وهو قادم الينا ؟
 فكر قليلاً ثم قال : اضربه والقه في الخارج ونأخذ النقود ؟
قالت في صوت خافت وفي حده وعصبية : أأنت غبي أم ماذا بك ، نضربه وعندما يفيق يأتي الينا بالبوليس او يذهب لأهله الاقوياء ويأتون ليخلصوا علينا ، أنت ستقتله وتلقه في المصرف المجاور لنا !!
فزع الزوج وقال بصوت عالي : يا الهي اقتله ؟؟ ثم خفض صوته وقال : ايصل الامر للقتل اُنزعت من قلبك الرحمه انه شاب مسكين مريض ، كيف تقولين هذا وهو ضيفنا لقد جننتي جننتي !!
ضحكت الزوجة في خفوت وقالت : ونحن ماذا نكون ؟
اليس نحن مساكين نعيش في العراء وهذا اخيك المشلول الذي اتحمله واتحمل عبئه اليس محتاج للعلاج وابنتك التي قاربت علي الجنون بسبب الفقر وهروب زوجها الجبان اليست تحتاج للنقود كي تؤمن مستقبلها ، انه شاب مجنون اخذ نصيبه من السعادة والرفاهية وجاء الوقت كي نأخذ نحن نصيبنا أم مكتوب علينا التعاسه دائماً ؟
كانت الأبنه تستمع الي امها وهي متوترة وتقرض اظافرها ثم قالت : نعم اقتله يا أبي وناخذ الاموال الكثيرة ونعيش في العاصمة ولن يستطيع احد الوصول الينا ....
كان الشيخ المشلول يستمع لهم لكنه ينظر من خلف الشباك مبتعداً بنظره عنهم وابتسم ابتسامه حزينه وهز رأسه ،،،،،
قال الزوج وهو ينظر للارض : لا لا لا استطيع ، انا اقترفت كثيراً من الذنوب والفواحش لكن الا سفك الدماء !!
نظرت له الزوجه بحزم واصرار وقالت : ستقتله ......

المشهد الرابع

الزائر الشاب مستغرقاً في النوم في غرفة بسيطه بها سرير صغير وسجادة قديمة مفروشه علي الارض وشباك زجاجه مكسور تم استبدال الزجاج بورقة بكرتون ...
يضع حقيبة النقود بجوار السرير ، ويقف الزوج أمامه علي باب الغرفة ينظر اليه وخلفه زوجته والأبنه تمسك حبلاً غليظاً ....
دفعت الزوجه الرجل وقالت له : هيا الان وهو مستغرق في نومه قبل ان يستيقظ واخذت الحبل من بنتها واعطته له وكررت عليه في حده هيا اذهب .....
تقدم الرجل وهو يرتعش ويمسك الحبل ، وبعد ذلك عاد مرة اخرى وقال : لا استطيع
نظرت له العجوز وقالت : ها ،،،،
تقدم مرة اخري من الزائر النائم ونظر له اولاً ، كان الشاب ينام علي بطنه معطياً ظهره له ، فمسك الحبل ولفه حول عنق الزائر بقوة رهيبة ، تحرك الشاب وحاول ان ينفلت من يديه ويضرب برجله ويده لكن وضعيته كانت تصعب عليه الدفاع عن نفسه ، احكم الرجل قبضته بالحبل حول عنقه ، وبدأ الشاب يصدر صوتا يضعف بالتدريج ومقاومه في اخرها الي ان توقف نهائيا وسقط بوجهه موجها ناحية اليسار ولفظ أنفاسه في لحظات ،،،،،
لم يستطع الرجل الوقوف علي قدميه من سرعة ضربات قلبه وانفاسه اللاهثه فجلس علي الارض مذهولاً مما فعل ،،،،
أمرت العجوز ابنتها ان تأتي بملائه كبيرة كي يلفوا بها الشاب فذهبت الابنة علي الفور واتت بها ، وطلبت منها ان تساعدها وقاما بلف الشاب بالملائه ...
وقالت للرجل هي احمله والقه بسرعه في المصرف قبل ان يطلع الصباح ، فقام بدون ان يناقشها وحمله علي كتفه وخرج في وسط المطر والاوحال الطينيه والكلب ينبح بجواره ويتتبعه  ، كان المصرف علي بعد خطوات من البيت وعندما وصل القى الشاب وسريعاً اختفي وذهب به تيار المصرف بأتجاه الشمال ،،،،

كانت العجوز وابنتها في البيت يعدان النقود وعندما انتهيا اغلقا الحقيبه ، وطلبت العجوز من ابنتها ان تخبئها في المطبخ وسط الكراكيب حتي لا يشك احد ولا يراها ....

المشهد الأخير

الليله التاليه بعد قتل الزائر ،،،،

 الوقت متأخرا والساعة تخطت  الواحدة صباحاً ، الزوج ظل علي ذهوله وصمته الي ان ذهب الي عمله وكانت نوبة عمل ليلية حتي الصباح ، كشك التحويله وسط الظلام الا من مصباح ضوئه خافت الي حد ما ، اذرعة التحويلات علي اليمين بجوارها تليفون معلق وجدول ملصق علي الحائط به مواعيد القطارات ، وفي الواجهه مكتب حديد متلصق ومثبت بالارضية ، الزوج وحيداً شارد الذهن قد اخذ لتوه جرعة مخدرات زائده مفعولها لم يعمل بعد ، وقف مترنحاً قليلاً ثم نظر لساعته وسمع جرس انذار القطار القادم فنزل الي الشريط كي يفتح الطريق للقطار ، وعندما انتهي وجد شخصا قادما من بعيد علي شريط السكك الحديديه مخترقاً الضباب فوقف منتظراً ليتعرف علي هذا القادم من بعيد ،،،،،
اقترب منه هذا الشخص فقال له : من انت
فضحك الشخص وقال الا  تعرفني هاهاهاهاهاها
صحيح انك لم تراني ،،،،
لم يكن قد اقترب بعد فنظر الرجل وقال له قل من انت والشخص يضحك ويضحك
والرجل ينظر له والقطار يقترب خلفه لكنه لم يحس به ،،،،
الشخص يقول له : اقترب لا تخف هاهاهاهاها
والقطار يقترب والرجل يمشي بأتجاه الشاب ،،،،،
ومر القطار سريعاً وعندما انتهي كان الشاب مازال يضحك ويضحك  ,,,,,,,,

في البيت كانت العجوز نائمه هي وابنتها ، الشيخ العاجز يتحرك بكرسيه ذاهباً الي المطبخ ، حرك بيده اليمنى الادوات والكراكيب التي تحمي حقيبة النقود حتي ازاحها تماما ...
كان الوابور مازال مشتعلاً اشتعالاً ضعيفا ،،،،
فتح الشيخ الحقيبة ونظر لها وهو يهز رأسه ويبتسم ناظراً للنقود الكثيرة ، وفي هدوء امسك الوابور بيده اليمنى وسكب منه الجاز علي حقيبة النقود وهو يراها تشتعل ويبتسم ، ظلت النار تأكلها وتأكل ما حولها مع كراكيب ،،،،
استيقظت الابنه والعجوز وهما يصرخان ، دخلتا الي المطبخ لكن النار كانت بدأت تنتشر في البيت وكان الشيخ المشلول قد خرج بكرسيه ،،،،
النار اشتعلت بالأبنه والام تحاول ان تطفئها عنها ،،،،،
الفجر بدأ يبزغ والاذان يكبر لله ويوحد الخالق ،،،،،،
تحول البيت الي عروش متفحمه ،،،،،،
العجوز تهذي ،،،،
والابنه لم تخرج بعد ،،،،،
والكلب هرب لينبح بعيداً ،،،،،،
والشيخ المشلول بكرسيه تحت شجرة التوت يراقب من بعيد ،،،،،،،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لبول سيزان  

ليست هناك تعليقات: