الأربعاء، 28 أبريل 2010

العمل الأخير

كانت قد ذاعت شهرته كثيرا في الازهر والحسين وخان الخليلي والغورية بأنه افضل فنان في شغل الارابيسك ، فقد تربى وترعرع في كنف افضل اسطى في هذا المجال وتعلم الحرفه علي اصولها فكان يطلق عليه افضل يد امسكت الخشب بجميع انواعه وتطويعه في يديه بعد وفاة مُعلمه ......
كانت تخرج من ورشته افضل التحف الفنية في الفن الاسلامي الكراسي والشبابيك ومنابر المساجد واعمال خشب الاسقف والمحلات التجارية ذات الذوق الرفيع ,,,
يجلس في ورشته الخاصه في الغورية  فكانت هي صومعة تعبده في محراب عمله فيمسك الازميل الصغير والشاكوش كأنها انامل موتزارت تعزف اجمل الالحان .....
كان هاديء الطبع ودوداً جدا مع جيرانه من اصحاب المحلات والورش المحيطه حتي في تعامله مع صبيانه كان هادئا يثور ويتعصب فقط عندما يكرر الصبي في ورشته خطأ قد نبههُ من قبل أن لا يكرره .
يبدأ يومه في الصباح الباكر يذهب الي ورشته ملقياً تحية الصباح علي جيرانه من اصحاب المحلات والورش كان هو من اوائل من يفتحون دكاكينهم  يكون صبي القهوة في اول الشارع الضيق الصغير قد قام برش الماء فتكون الارض مازالت رطبه ونديه وتبدأ ابواب الورش والمحلات في فتح أبوابها بالتدريج
ورويداً تخرج  سينفونيات الدق علي النحاس والخشب وصوت المناشير الكهربائية ممزوجة بصوت راديو قادم من بعيد يذيع اخبار الصباح او اغاني لوردة ونجاة وعبد المطلب
هذا صبي القهوة يمر مخترقاً صفوف المارة في الشارع الضيق صائحاً باعلي صوته طريق وسع طريق للجاي 
ومع اشتداد حرارة الشمس يتنقل بائع العرق سوس بين المحلات  مجلجلاً بصوت صاجاته النحاسية
ينطلق فجأة قاطعاً كل الاصوات ومحلقاً في السموات السبع صوت اذان الظهر  قادماً من الالف مأذنه الشامخة الشاهدة علي القاهرة الفاطميه قادمه من الازهر والحسين والسلطان الغوري والسلطان حسن وابن طولون وسبيل محمد علي,,,,,,,,
يُغلق ورشته مؤقتاً ويأخذ صبيانه ويذهب الي المسجد كي يؤدي صلاة الظهر .
بعد العصر يذهب الي البيت في وقت القيلوله ويترك صبيانه في ورشته ويأتي مرة اخرى بعد المغرب يكون الليل قد اسدل ستاره علي الشارع ونسمات خفيفه تنعش المكان بعد قيظ وحرارة النهار ,,,,,
مازال شاباً في منتصف العمر تجاوز الاربعين بقليل ولم يصبه الهِرم بعد لكنه منذ فترة قد أصابه ماهو اصعب من الهِرم !!
من فرط ثقته في نفسه وثناء الناس عليه  ورواج اعماله دون عن باقي ابناء مهنته فقد أصابه الغرور .....
يجلس بين اصدقائه في القهوة مفاخراً بذاته وانه لا توجد اي تحفه توازي جمالاً وروعه من تحفه التي تخرج من ورشته ومن تحت يديه  ....
رغم ذلك لم يتكبر في التعامل مع جيرانه لكنه أصابه جنون الغرور بأعماله وعدم اقتناعه بأعمال غيره حتي لو كانت في نظر الاخرين من متخصصين مهنته افضل من عمله !!
بدأ يظهر أفق اسطى اخر في مهنته ويذيع صيته  بسبب جمال اعماله في الارابيسك والخشب وكل شغله يدوياً بدون تدخل اي الات اخرى او مخارط ...
جن جنونه وأصابه السخط مهدداً ان لا يستطيع احد ان يسقطه من علي عرش مهنته وفنه ,,,
جلس علي القهوة بين اصدقائه وزملائه فقالوا له أسمعت ان فلان أُختير المنبر الذي صنعه كأفضل عمل فني علي الخشب من قبل وزارة الثقافة ؟؟
فعلق مستهزئاً انه شغل داخل فيه الكمبيوتر ومغشوش لكن هناك فرق بين اليدوي الأصيل والمغشوش انه بالونة صنعتموه أنتم .....
وأعلن وأقسم بانه سيصنع ماهو افضل منه بكثير وسوف تكون تحفة فنية ليس لها مثيل ولا نظير في جميع ورش الغورية وخان الخليلي !!
قام بنقل عدته وأخشابه الي مخزنه اسفل بيته وقرر بأنه لن يُطلع أحد علي تحفته حتي ينتهي منها
وأهمل ورشته وزبائنه واعتكف في ورشته الجديده في المخزن للخروج بعمله علي اجمل صورة ومنظر
كلما مر أمام ورشته بين جيرانه من الحرفيين ويسألوه عن العمل الذي وعدهم به يرد ضاحكاً سترون شيء لم يأتي احدٌ به في الغورية او خان الخليلي .....
تمر الشهور بل اكثر من عام ولم يظهر هذا العمل للملأ بعد والناس منتظره شيء خيالي سيبهر عقولهم ويسلب لُبهم ,,,,,
الي ان جاء يوم رأوه قادماً بسيارة نقل عليها شيء مغطى بقماش مخفياً ملامحها ودعى صبيانه بانزاله من السيارة بحرص وحذر وادخاله الي الورشه والناس متجمعون يهمسون مع بعضهم عن العمل المنتظر
وقف ينادي الناس اصحاب الورش والمحلات واصدقائه من ابناء مهنته معلناً انه انتهى اخيراً من العمل الفني المنتظر الذي وعدهم به واقفاً خارج المحل والورشه مغلقاً الباب ....
وفجأة قام برفع الباب والناس في شوق ولهفة ؟؟؟
واذا به منبر عادي جدا به بعض الزخارف الجميله لكنه أقل بكثير من تحف فنية رائعه قام هو بصنعها
ظل ناظراً الي الناس منتظر تعليقهم بالاعجاب المنقطع النظير وكلمات الثناء والمديح ...
لكن كان التعليق أما ضحكات او تعبيرات بالشفقة او كلمات تعبر انه صنع من قبل الاجمل والاروع
فشاط غضبه وظل يهذي ويصيح بصوت عالٍ وقام بطردهم جميعاً واغلق باب ورشته عليه وظل وحيداً !!
ممسكاً معولاً من حديد وظل يهدم ويكسر تحفته الذي ظل عليها عاكفاً لايام وشهور
وهكذا وصل الي اللاشيء من فرط استغراقه وبحثه عن الكمال .....

___________________

تعقيب

فكرة الوصول الي العدم من شدة البحث عن الجمال الكامل مستوحاه من رواية التحفه المجهولة لبلزاك

ليست هناك تعليقات: